الرّاعي: لو استحضر المسؤولون السّياسيّون الله لسارعوا إلى التّفاهم والتّوافق على انتخاب رئيس يحتاجه لبنان في الظّروف الرّاهنة
"1. ساعة صعد ربّنا يسوع المسيح إلى السّماء، وختم رسالته على الأرض، سلّمها إلى رسله أساقفة العهد الجديد قائلًا: "كما أرسلني أبي، أرسلكم أنا أيضًا" (متّى 28: 18)، مانحًا إيّاهم سلطانًا مثلّثًا: الكرازة بكلمة الله، وتقديس النّفوس بنعمة الأسرار، ورعاية المؤمنين بالمحبّة والحقيقة. ووعدهم بأنّه يكون "معهم جميع الأيّام، إلى انتهاء العالم" (متّى 28: 20). ما يعني أنّهم باسمه وبشخصه يقومون برسالتهم المثلّثة، وأنّهم في حالة إرسال إلهيّ دائم: "إذهبوا: تلمذوا كلّ الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والإبن والرّوح القدس، وعلّموهم حفظ ما أوصيتكم به" (متّى 28: 19-20).
2. تحتفل الكنيسة اليوم بعيد الثّالوث الأقدس، وهو ينبوع رسالتها. ويأتي العيد بعد إنجاز تصميم الله الخلاصيّ، الذّي أعدّه الله الآب، فأرسل ابنه الوحيد متجسّدًا لفداء البشر، وأرسل الرّوح القدس لتحقيق ثمار الفداء في كلّ مؤمن ومؤمنة (الدّستور العقائديّ في الكنيسة، 2-14). فانطلقت الكنيسة تبدأ رسالتها المثلّثة باسم الثّالوث القدّوس، وتنهيها بمجده يومًا بعد يوم حتّى نهاية الأزمنة.
عندما نقول "الكنيسة" نعني كلّ تراتبيّتها: الأساقفة والكهنة والشّمامسة معاونيهم، بحكم الدّرجة المقدّسة والرّسامة، ونعني جميع المؤمنين والمؤمنات بحكم المعموديّة والميرون، بالإضافة إلى المكرّسين والمكرّسات بحكم النّذور المقدّسة.
3. يسعدنا أن نحتفل معكم بعيد الثّالوث الأقدس، أساس إيماننا. ويطيب لي أن أحيّيكم جميعًا، وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة عزيزنا المرحوم وفيق الكلّاب الّذي ودّعناه بكثير من الأسى في جبيل العزيزة منذ حوالي شهر، مع زوجته السّيّدة برت جوزف الكلّاب وابنه وابنته وسائر أنسبائه. إنّنا نصلّي لراحة نفسه، ولعزاء أسرته ومحبّيه.
ونحيي السّيّدة دانيا حليم بارود زوجة عزيزنا المرحوم الوزير السّابق سجعان ميلاد القزّي الّذي ودّعناه بكثير من الأسى معها ومع ابنتيه وسائر أفراد العائلة منذ أقلّ من شهر في أدما والعقيبة. وكانت لوفاته موجة حزن واسعة في لبنان، وخاصّةً بالنّسبة إلينا شخصيًّا وإلى الكرسيّ البطريركيّ. نصلّي لراحة نفسه وعزاء أسرته.
4. إيماننا بسرّ الثّالوث الأقدس يعلّمنا أنّ الله الواحد في جوهره وطبيعته ليس منفردًا، بل هو مثلّث الأقانيم: آب وابن وروح قدس، ويتميّز الواحد عن الآخر لا في الطّبيعة فإنّهم جوهر واحد، بل بالعلاقة الواحد بالآخر. فالإبن مولود أزليًّا من الآب وغير مخلوق كالشّعاع من الشّمس، والرّوح القدس منبثق من الآب بواسطة الإبن مثل نور الشّمس وحرارتها. أفعال الثّالوث القدّوس مشتركة، وهي الخلق والفداء والتّقديس، ولكن كلّ واحد من الأشخاص الإلهيّة الثّلاثة يقوم بالفعل الخاصّ به: الآب أنجز الخلق، والابن الفداء، والرّوح القدس التّقديس. الثّالوث الأقدس لا يعني إذًا ثلاثة آلهة، بل إلهًا واحدًا بثلاثة أقانيم. ونشبّهه بالشّمس الّتي هي واحدة في كيانها، ولكنّها ثلاثة مترابطة ومتكاملة فنقول: المصدر (ونسمّيه الآب) والشّعاع (ونسمّيه الإبن) والنّور والحرارة (ونسمّيهما الرّوح القدس).
5. الثّالوث الأقدس هو السّرّ المحوريّ للإيمان المسيحيّ والحياة المسيحيّة، فهو المصدر والينبوع لكلّ أسرار الإيمان، والنّور الّذي يضيئها (التّعليم المسيحيّ 234)، بحسب كلام الرّبّ يسوع: "عمّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس" (متّى 28: 19). وأصبح جزءًا من القدّاس الإلهيّ في افتتاح قسم الذّبيحة المعروف بالنّافور: "محبّة الله الآب؛ ونعمة الإبن الوحيد، وشركة الرّوح القدس وحلوله تكون معكم".
حدّدت المجامع المسكونيّة الأولى عقيدة الثّالوث الأقدس باستعمال ثلاث لفظات (التّعليم المسيحيّ، 252-255):
الأولى "الجوهر" أو "الطّبيعة" للدّلالة على الكائن الإلهيّ في وحدانيّته. فنقول الثّالوث الواحد. نحن لا نؤمن بثلاثة آلهة بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم، نؤمن بالثّالوث المتساويّ في الجوهر.
الثّانية، "الشّخص" أو "الأقنوم" للدّلالة على الآب والابن والرّوح القدس في تمايزهم الحقيقيّ الواحد عن الآخر، من جهة علاقاتهم الأصليّة: الآب هو المصدر الّذي يلد ولا يخلق، والابن هو المولود، والرّوح القدس هو المنبثق. فنقول الوحدانيّة الإلهيّة ثالوث.
الثّالثة، "العلاقة" للدّلالة على أنّ واقع التّمايز قائم في الارتباط بين الأشخاص: الآب مرتبط بالابن، والابن بالآب، والرّوح القدس بالإثنين، والجوهر واحد. وكلّ واحد منهم هو كلّه في الآخر كالمثلّث في الرّياضيّات.
6. إنّنا نعبّر عن إيماننا بالثّالوث الأقدس في إشارة الصّليب. نبدأ بها كلّ عمل: "باسم الآب والابن والرّوح القدس" استلهامًا واستنجادًا واستنادًا؛ وننهي "بالمجد للآب والابن والرّوح القدس" تمجيدًا وشكرًا وتسبيحًا. كم من مرّة رأينا مشاركين في ألعاب رياضيّة يرسمون إشارة الصّليب عند بدء اللّعب، فضلًا عن آباء وأمّهات يرسمونها قبل بدء الطّعام أو على أطفالهم قبل النّوم، أو عند ذهاب رجالهم وأولادهم إلى الدّرس أو العمل أو السّفر؟ وكم شاهدنا من أطبّاء يرسمون إشارة الصّليب قبل البدء بعمليّة جراحيّة.
كلّهم يفعلون ذلك لكي يستمدّوا من الثّالوث القدّوس النّور والحكمة والقوّة والنّجاح في ما يفعلون. وهذا كافٍ لكي يتمّوا عملهم على أحسن حال.
7. إنّ رجال السّياسة عندنا مدعوّون لهذه الممارسة التّقويّة الّتي تجعلهم في حضرة الله، فيمارسوا عملهم السّياسيّ كفنٍّ لخدمة الخير العامّ، الّذي منه خير جميع المواطنين وخير كلّ مواطن. فاستحضار الله، قبل عملهم وأقوالهم ومواقفهم، يُخرجهم من أنانيّاتهم ومصالحهم الخاصّة، ويغلّبهم على الخلافات، ويزيّنهم بالأخلاقيّة. إنّ استحضار الله يضعهم أمام الشّعور بمسؤوليّتهم عن هدم أوصال الدّولة، وتعطيل المؤسّسات الدّستوريّة، وتعثّر عمل الإدارات العامّة، وإفقار الشّعب وإذلاله وكفره بوطنه وتهجيره.
8. أجل، لو استحضر المسؤولون السّياسيّون الله، بحسب رتبهم، لكانوا انتخبوا رئيسًا للجمهوريّة ضمن فترة الشّهرين السّابقة لنهاية عهد الرّئيس العماد ميشال عون وفقًا للمادّة 73 من الدّستور. ولو يستحضرون الله اليوم بعد مضيّ ثمانية أشهر على فراغ سدّة الرّئاسة، وأمام الانهيار الكامل سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا، لسارعوا إلى التّفاهم والتّوافق على انتخاب رئيس يحتاجه لبنان في الظّروف الرّاهنة. فإنّا نبارك كلّ خطوة في هذا الاتّجاه بعيدًا عن المقولة البغيضة: "غالب ومغلوب" بين أشخاص أو بين مكوّنات البلاد. فهذا أمرٌ يؤدّي إلى شرخ خطير في حياة الوطن، فيما المطلوب وحدة لبنان وشعبه وخيرهما.
لنصلِّ إلى الله كي يضع كلّ المسؤولين أمام حضرته فيعملوا بحسب إرادته. فنستحقّ جميعًا أن نمجّد الثّالوث القدّوس في يوم عيده، الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين".