لبنان
29 أيلول 2021, 12:30

الرّاعي: لوضع خطّة عمليّة من أجل تحقيق النّهوض الاقتصاديّ

تيلي لوميار/ نورسات
لبّى البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي اليوم الدّعوة للمشاركة في لقاء المجلس الاقتصاديّ الاجتماعيّ مع في مقرّ المجلس- وسط بيروت، تحت عنوان "العدالة الاجتماعيّة- الواقع الاجتماعيّ وأزمة هجرة اللّبنانيّين"، وألقى للمناسبة كلمة قال فيها:

"يسعدني أن ألبّي دعوة الصّديق شارل عربيد رئيس المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ، لإلقاء كلمة بحضور السّادة أعضاء المجلس والنّقباء من مختلف القطاعات، ورئيس الهيئات الاقتصاديّة والاتّحاد العمّاليّ العامّ، في إطار اللّقاء الأوّل للحوار الاقتصاديّ والاجتماعيّ بموضوع: "العدالة الاجتماعيّة- الواقع الاجتماعيّ وأزمة هجرة اللّبنانيّين". فيطيب لي أن أحيّيكم جميعًا، متمنّيًا لهذا اللّقاء الثّمار المرجوّة.

يشمل الموضوع أربع نقاط.

أوّلاً، العدالة الاجتماعيّة

1. عندما نقول "عدالة" لا نعني أن كلّ البشر متساوون في كلّ شيء، أو أنّه من الواجب أن يكونوا على هذا النّحو. فالله خلق النّاس متنوّعين، ويستحيل في المجتمع المدنيّ أن يرتفع النّاس إلى مستوى واحد. بل نعني أنّ جميع البشر، على تمايزهم، هم متساوون في بنوّتهم لله، وفي كرامتهم الإنسانيّة، وفي تمتّعهم بالحقوق البشريّة الأساسيّة. بهذا المفهوم تكون العدالة "عدالة طبيعيّة" من صنع الله، ولا يحقّ لأحد أن ينقضها.

ونقول "عدالة اجتماعيّة" لنعني تأمين العدالة الطّبيعيّة لجميع النّاس، وتخفيف الفوارق بين الأفراد والمجتمعات والشّعوب، وتوفير تكافؤ الفرص للجميع على كلّ المستويات. كما نعني ترقّي الإنسان، كلّ إنسان، بنموّه الاقتصاديّ والاجتماعيّ والإنمائيّ والثّقافيّ والرّوحيّ وبالتّالي ترقيّ المجتمع وإنمائه.

2. يقتضي تحقيق العدالة الاجتماعيّة تأمين المستوى اللّائق من العيش الكريم لكلّ أفراد المجتمع، وتمكين كلّ شخص من تنمية كفاءاته وقدراته، لضمان مستقبله، ولإمكانيّة المشاركة في بناء مجتمعه.

3. يقوم المجتمع العادل على العلاقة الكيانيّة والعضويّة بين الفرد والمجتمع، والمعبّر عنها بالحقوق والواجبات. ومعلوم أنّ لا حقوق من دون واجبات، ولا واجبات من دون حقوق. هذه هي المعادلة الّتي تحكم العلاقات بين المجتمع (الدّولة) والفرد (المواطن)، وبين أفراد المجتمع في علاقاتهم بعضهم ببعض.

4. ثمّة حقوق اجتماعيّة أساسيّة واجبة لكلّ فرد وجماعة في المجتمع، نذكر منها: الحقّ في بناء عائلة مكتفية؛ الحقّ في السّكن لتوفير الإطار الطّبيعيّ لنموّ الإنسان والعائلة في أمانٍ واستقرار؛ والحقّ في العمل كنشاط خلاّق للإنسان، ومجال لتأمين سبل عيشه واستمراريّته؛ الحقّ في الصّحّة والطّبابة، لحمايته من المرض والألم، مع حقّه على المجتمع أن يحميه من التّعرّض للأمراض بسبب التّلوّث البيئيّ والطّبيعيّ؛ الحقّ في التّعليم والتّربية والثّقافة وهي ثروة اللّبنانيّ الأساسيّة.

ثانيًا، الواقع الاجتماعيّ

5. لا أحد يجهل أنّ الواقع الاجتماعيّ هو في أسوء حالات الانهيار. والأسباب الأساسيّة لا تخفي على أحد، هي الحرب الّتي زعزعت أسس البنيان الاقتصاديّ والاجتماعيّ عندنا بشكل شبه تامّ؛ والفساد السّياسيّ ونهب أموال الدّولة وهدرها؛ والخيارات السّياسيّة الخاطئة؛ ووضع لبنان في حالة حرب بسبب إدخاله رغمًا عنه في أحلاف ونزاعات وحروب إقليميّة، وهذا الواقع أوجده في عزلة عن الأسرتين العربيّة والدّوليّة؛ واستغلال ثورة 17 تشرين من متطرّفين ومدسوسين اعتدوا على المصارف والمؤسّسات العامّة والخاصّة والمتاجر، فأعدموا حركتها الماليّة والتّجاريّة والاقتصاديّة والسّياحيّة؛ وهبوط قيمة اللّيرة بالنّسبة إلى الدّولار؛ فجائحة كورونا الّتي شلّت بلادنا والعالم، مع ما أوقعت من ضحايا بشريّة، ومن خسائر مادّيّة لا تُحصى. وكان آخرها تفجير- ولا نقول انفجار- مرفأ بيروت في 4 آب 2020.

يُضاف إليها أسباب على المستوى الأخلاقيّ لا تقلّ خطورة من مثل: تناسي أوليّة الإنسان المطلقة الّذي سبّبته الذّهنيّة المادّيّة والعقليّة الاستهلاكيّة، والجشع، والتّلاعب بالأسعار، والسّعي إلى امتلاك السّلع وتكديسها، وكأنّها هدف بحدّ ذاتها، لا مجرّد وسيلة لتحقيق الذّات وتأمين حياة كريمة ومساعدة من هم في حاجة؛ والإدمان على المخدّرات، والبغاء، وتدنّي الأخلاق، والابتعاد عن الممارسة الدّينيّة، والتّطرّف الطّائفيّ.

6. وفوق كلّ ذلك غياب أيّة استراتيجيّة خلاصيّة من الحكومات المتتالية والقوى السّياسيّة، وانعدام روح المسؤوليّة لدى أهل السّلطة. لا بل كلّهم أمعنوا، بطريقة أو بأخرى، ولغاية ظاهرة أو مبطّنة، في افتعال أزمة سياسيّة حادّة تسبّبت بأزمة اقتصاديّة واجتماعيّة خانقة.

نحن من منظار الاستراتيجيّة الخلاصيّة، نتطلّع إلى هذا "المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ" بما يضمّ من كفاءات وقدرات، آملين أن يضع هذه الاستراتيجيّة بالتّعاون مع النّقابات من مختلف القطاعات. والكنيسة داعمة كلّيًّا لهذا العمل بتعليمها الاجتماعيّ ومؤسّساتها، لأنّ طريقها واحد هو الإنسان وكرامته وحقوقه وخلاصه ونموّه الشّامل، "فمجد الله الإنسان الحيّ" (القديس إيريناوس).

ثالثًا، الهجرة  

7. النّتيجة الحتميّة لهذا الواقع الاجتماعيّ المنهار الهجرة الّتي تخطف قوانا الحيّة من خرّيجي جامعات، وأطبّاء، وممرّضين، ومهندسين، ورجال أعمال، وأساتذة، ومصرفيّين، وعائلات وسواهم.

أمام هذا النّزيف البشريّ الثّمين نتساءل: هل فقد لبنان كلّيًّا ما كان عليه حتّى الأمس القريب: "جامعة العرب" و"مستشفى العرب" و"مصرف العرب"، و"مكان سياحة العرب"؟  

سؤال مؤلم يضعنا جميعًا أمام مسؤوليّاتنا المشتركة. الكنيسة من جهتها تحافظ على مدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وسائر مؤسّساتها الاجتماعيّة وتطوّرها، في كلّ المناطق اللّبنانيّة، على الرّغم من الضّائقة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة الخانقة. وتقوم بمشاريع إنمائيّة واستثماريّة متنوّعة أكان من جهتها أم بالتّعاون مع كلّ شخص يرغب في الاستفادة من إمكانيّات الكنيسة. وفي كلّ ذلك توفّر فرص عمل، وتساهم في الحركة الاقتصاديّة. وهذا ليس جديدًا بل كان الاقتصاد على مدى القرون من صلب اهتماماتها. فهي معنيّة بالعمل الدّائم من أجل الخير العامّ الّذي منه خير الجميع وخير كلّ فرد، لأنّنا جميعنا مسؤولون عن جميعنا ("البابا يوحنّا بولس الثّاني: رسالة عامّة" الاهتمام بالشّأن الاجتماعيّ، 38).

وما يقلقنا، بالإضافة إلى هجرة شعبنا، تزايد عدد اللّاجئين الفلسطنيّين والنّازحين السّوريّين. هؤلاء بلغ عددهم معًا نصف سكّان لبنان، ما عدا الولادات الّتي لا تُسجّل. هذا الواقع، مع احترامنا الكامل للواقع الإنسانيّ، ولهذا السّبب فإنّ لبنان لم يقفل لا أبوابه ولا حدوده، وهذا أساسيّ عدا عن كونه عبئًا اقتصاديًّا ثقيلًا، فإنّه يشكّل خطرًا سياسيًّا وديموغرافيًّا وأمنيًّا وثقافيًّا. فمن واجب جميع القوى السّياسيّة توحيد صوتها في المطالبة بحلّ قضيّة اللّاجئين الفلسطنيّين، وعودة النّازحين السّوريّين إلى بلادهم. لأنّ سوريا هي وطنهم ولهم فيها تاريخ وثقافة. وإنّي أقول لهم إنّ البلدان لا تقوم فقط بالأرض إنّما بالثّقافة. عودوا إلى بلادكم وتابعوا تاريخكم وثقافتكم ولا تهملوها. وفي حال عدم عودتكم فإنّكم بذلك بحرب ثانية على سوريا وهذه المرّة بأيديكم. فالحرب الأولى فرضت عليكم وهدّمت الحجر وهجّرتكم، أمّا الثّانية فستهدّم التّاريخ والثّقافة وأقول ذلك محبّةً بكم.  

رابعًا، الإقتصاد أساس النّشاط الاجتماعيّ والحدّ من الهجرة

8. لا يمكن أن تتوفّر الحاجات الإجتماعيّة وحقوق المواطنين الأساسيّة وممارسة العدالة الاجتماعيّة والحدّ من الهجرة من دون اقتصاد قويّ.

الإقتصاد أو إيكونوميا (economia) لفظة يونانيّة ظهرت حوالي عام 400 ق. م. وتعني فنّ إدارة البيت والجماعة، لتصبح فنّ تدبير شؤون المال سواء بتكثيره وتأمين مصادره، أم بتوزيعه.

إقتصاد الدّولة هو حالتها الماليّة وكلّ ما يتعلّق بهذه الحالة مثل الإنتاج والتّوزيع والإنفاق وأسواق العمل وغيرها. من هذا المنطلق يوجد دول ذات اقتصاد قويّ، أيّ وصلت إلى اكتفاء ذاتيّ وحقّقت النّموّ والوفرة في المال، وغيرها ذات اقتصاد ضعيف.

9. الإقتصاد فنّ قائم على التّحليل الاقتصاديّ الجزئيّ المعروف بـ (microéconomie) الّذي يدرس السّلوك الاقتصاديّ للعناصر الاقتصاديّة، بما فيها الأفراد والشّركات، وطريقة تفاعلها من خلال الأسواق وندرة الموارد، والأنظمة الحكوميّة، وهذا ما يُسمّى عادةً دراسة العرض والطّلب؛ وقائم على التّحليل الاقتصاديّ الكلّيّ (macroéconomie) الّذي يدرس الاقتصاد ككلّ ليوضح تأثير العوامل الاقتصاديّة على اقتصاد البلدان، كتأثير الدّخل القوميّ ومعدّلات التّشغيل (التّوظيف)، وتضخّم الأسعار، ومعدّل الاستهلاك الكلّيّ، ومعدّل الإنفاق الاستثماريّ ومكوّناته. كما يدرس تأثيرات كلّ من السّياسة النّقديّة والسّياسيّة والماليّة المتّبعة في البلاد.

مرّة أخرى نتطلّع إلى هذا المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ لوضع الخطّة العمليّة من أجل تحقيق النّهوض الاقتصاديّ بموجب هذا الفنّ. ونطالب الحكومة الأخذ بعين الاعتبار ما يقدّمه هذا المجلس لأنّ لا أحد يمكنه أن يحلّ محلّه وأن يتمّ عمله، لأنّه أُسّس لهذه الغاية. نحن نشدّد على أيديكم ونشجّعكم ونشدّد على ضرورة استعانة الحكومة بهذا المجلس والنظر بعيونهم لأنّ المستشارين لا يمكنهم أن يقوموا بعمله، وهذا هو دوره.  

10. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ النّشاط الاقتصاديّ هو من صلب مشروع الله الّذي منح الإنسان الأرض وخيراتها ليحرسها ويحرثها ويأكل من ثمارها" (تك 2: 15-16). فدخل هذا المشروع الإلهيّ في صلب تعليم الدّيانة المسيحيّة، الّتي وضعت له تشريعات ومبادئ وقواعد أخلاقيّة ورسائل البابوات عديدة في الشّأن الاقتصاديّ منذ عهد البابا لاوون الثّالث عشر سنة 1883 إلى اليوم. وهكذا كان همّ الكنيسة تنظيم حياة الإنسان الاقتصاديّة والمادّيّة وفقًا لإرادة الله. إنطلاقًا من هذا الواجب أدانت الممارسات الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي أدّت إلى تفشّي الفساد وسوء الأخلاق، وتكديس الثّروات الهائلة في أيدي عدد محدود من المواطنين، وغياب الشّعور بالتّضامن والتّكافل.

ومن المؤسف أن يبلغ الأمر إلى سيطرة الفساد الاقتصاديّ والمضاربات والصّفقات غير المشروعة، وقد أصبحت شطارة اقتصاديّة وماليّة، لا تشكو عيبًا في نظر الكثيرين، إذ إنّ الخطّ الفاصل بين الحلال والحرام في الحياة الاقتصاديّة قد زال تدريجيًّا من الحياة العامّة والخاصّة.

11. من أهمّ الإصلاحات في الاقتصاد اللّبنانيّ، توجيه لبنان نحو مجتمع إنتاجيّ، نظرًا لميزاته الطّبيعيّة الهامّة: جمال الطّبيعة، الموقع الجغرافيّ على ضفاف البحر الأبيض المتوسّط، التّربة الخصبة، وفرة المياه العذبة، القدرات البشريّة العلميّة والثّقافيّة الخلّاقة.

معروف أنّ العديد من البلدان الصّغيرة تخطّت محدوديّة رقعتها وفراغها من المواد الأوّليّة، وأقامت اقتصادًا مكثّفًا، فباتت المراكز التّكنولوجيّة الصّناعيّة المرموقة في الاقتصاد الدّوليّ (جزيرة سنغافوره، الدّانمارك، تايوان، جزيرة صغيرة كانت في عداد البلدان الأكثر فقرًا، ومجتمعها كان ريفيًّا، فأصبحت من بين العمالقة في صناعة الإلكترونيّات في العالم.)  

لبنان قادر بهمّكتم وبهمّة أمثالكم، بالإدارة الطّيّبة والوعي والتّحرّر من النّفوذ المعرقل والنّافذين المعرقلين، على أن يغلب الاتّجاهات السّلبيّة الّتي يسلكها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ليؤسّس نهضة إنتاجيّة شاملة. فيعود لبنان إلى طبيعته الأصليّة والأصيلة.  

شكرًا لإصغائكم."