لبنان
21 كانون الأول 2020, 06:00

الرّاعي: لم أجد سببًا واحدًا يستحقّ التّأخير في تشكيل الحكومة يومًا واحدًا

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس أحد النّسبة في الصّرح البطريركيّ في بكركي، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة بعنوان "ميلاد يسوع المسيح، إبن داود، إبن إبراهيم" (متّى1: 1)، جاء فيها:

"1.إنّنا في الأحد الأخير قبل ذكرى ميلاد إبن الله الأزليّ إنسانًا من مريم عذراء النّاصرة المخطوبة ليوسف، بقوّة الرّوح القدس. هذه السّلسلة من الأجيال المتعاقبة تعني انتماء يسوع المخلّص والفادي إلى العائلة البشريّة بكاملها من أجل خلاصها وفدائها من خطاياها. بهذا الانتماء هو " إبن الإنسان" في التّاريخ، و"الإله الإبن" في الأزل، باتّحاد من دون تمازج أو تحوّل أو انقسام أو انفصال بين الطّبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة. سُجِّل الإله في سجلّات البشر، لكي يسجّلنا جميعًا في سجلّات الله الخلاصيّة.

يا لعمق تواضع الله! فالإبن الإلهيّ صار إنسانًا ليرفع الإنسان إلى الشّراكة في قدسيّة الحياة الإلهيّة وسعادتها! هذه المسيرة الانحداريّة الخلاصيّة عبر إبراهيم وداود، تقتضي منّا، بقوّة النّعمة، مسيرة تصاعديّة نحو الله بالمسيح.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأن أحيّيكم جميعًا أيّها الحاضرون معنا في كنيسة الصّرح البطريركيّ، وكلّ الّذين يشاركوننا روحيًّا عبر محطّة تلي لوميار-نورسات والفيسبوك وسواهما من وسائل الاتصال.

3.إنجيل نسب يسوع يبيّن شخصيّته التّاريخيّة كإنسان. فيسوع المعروف بالنّاصريّ هو ذاته "مشيحا" أيّ المسيح الّذي وعد الله بإرساله ليخلّص العالم من خطاياهم. وهو إبن إبراهيم من نسل البركة الذي تتبارك به جميع الأمم والشّعوب، كما وعد الله لإبراهيم. وهو "إبن داود" ومن سلالته، أيّ هو الملك الجديد الّذي يملك إلى الأبد على شعوب الأرض.

سلسلة النّسب أرادها متّى الإنجيليّ، لكي يرسّخ الإيمان بالمسيح، بكونه إلهًا حقًّا بطبعه، وإنسانًا حقًّا في تدبيره.

4. إبراهيم وداود هما صاحبا الوعد الإلهيّ بالمسيح الآتي من سبطهما. فإبراهيم هو المؤسّس لشعب الله القديم بموجب الختان. وقد وعده الله بأنّ بذريّته تتبارك جميع الأمم. وهذا تمّ في المسيح الّذي اتّخذ جسده من نسل إبراهيم (غلا 3: 16).

وداود هو الملك الأوّل من سبط يهوذا من حيث التّرتيب الملوكيّ. وقد وعد الله أن من هذا السّبط الملوكيّ يولد الملك الأبديّ، المسيح الرّبّ. فكان ذلك في الميلاد.

إنّ المسيح الرّبّ هو من نسل داود وابراهيم، لأنّ يوسف ومريم ينتسبان إلى هذه الأصول الملكيّة التي هي نسل داود، المتحدّر هو نفسه من نسل إبراهيم، أبي الأمم بالإيمان، وأبي شعب الله القديم بالجسد.

5.إنّ لمجموعة الأجيال الثّلاثة رمزيّتها ومعانيها بالنّسبة إلى يسوع المسيح. فالأجيال الأولى من إبراهيم إلى داود رمزت إلى عهد القضاة؛ والثّانية من داود إلى سبي بابل إلى عهد الملوك؛ والثّالثة من السّبيّ إلى المسيح إلى قيادة رؤساء الكهنة.مع المسيح وعبر مسار تاريخ تدبير الله الخلاصيّ، تغيّرت أوضاع الإنسانيّة المنظّمة، فلم تبقَ الأجيال تحت حماية القضاة والملوك ورؤساء الكهنة؛ بل اندرجت كلّها تحت راية المسيح الواحد الّذي هو بامتياز قاضي الحقّ، وملك المحبّة والسّلام، ورئيس كهنة أسرار الله. وظائف المسيح هذه الثّلاث، سلّمها إلى الشعب المسيحاني بحكم المعموديّة والميرون، وإلى رعاة الكنيسة بسلطان إلهي بحكم الدّرجة المقدّسة. هذه الوظائف هي الكرازة والتّقديس والتّدبير. إذا كانت سلسلة الأجيال الدّمويّة توقّفت عند يسوع ومريم ويوسف، فلأنّ عائلة جديدة تولد من الماء والرّوح، هي الكنيسة، جسد المسيح السّرّيّ، الّذي نحن كلّنا أعضاء فيه، والمسيح هو الرّأس.

6. في هذه الأيّام الأربعة الأخيرة رأيت من واجبي كبطريرك القيام بمساعٍ متنوّعة الاتجاهات لدفع عمليّة تشكيل الحكومة. وذلك شعورًا منّا بمآسي إخوتنا وأبنائنا في لبنان، الّذين هم فريسة الجوع والعوز والفقر والبطالة واليأس وفقدان الثّقة بالوطن وبمستقبل أفضل؛ ورفضًا لقبول شبح مرفأ بيروت ودمار نصف العاصمة ونكبة سكانّها ومؤسّساتها؛ وخوفًا منّا على سقوط المؤسّسات الدّستوريّة وفي مقدّمتها السّلطة الإجرائيّة المتمثّلة بالحكومة وما يتّصل بها؛ ورفضًا لتسييس القضاء وتلوينه طائفيًّا ومذهبيًّا وعرقلة مسيرته، وهو العمود الفقريّ لحياة الدّولة؛ وقراءة تشغل البال لما يجري في المنطقة من مفاوضات وتسويات وتطبيع ومن تهديدات بحروب. في كلّ الاتّصالات التي أجريتُها -ولن أتوقّف- وكانت بمبادرة شخصيّة منّي لا من أحد، لم أجد سببًا واحدًا يستحقّ التّأخير في تشكيل الحكومة يومًا واحدًا. لكنّي وجدت لدى النّاس ألف سبب يستوجب أن تتألّف الحكومة فورًا من أجل هذا الشّعب الذي هو مصدر السّلطات كلّها. وإذا كانت ثمّة معايير فكلّها ثانويّة باستثناء معايير الدّستور والميثاق.

7. أمام هذا الواقع المتشعّب نريد حكومة لا محاصصات فيها ولا حسابات شخصيّة، ولا شروطًا مضادّة، ولا ثلثًا معطّلًا يشلّ مقرّراتها، نريدها حكومة غير سياسيّة وغير حزبيّة وزراؤها وجوه معروفة في المجتمع المدنيّ بفضل كفاءاتهم وإنجازاتهم وخبراتهم، على أن يتمّ تشكيلها وفقًا لمنطوق من الدّستور، بروح التّشاور وصفاء النّيّات بين الرّئيس المكلّف ورئيس الجمهوريّة في إطار الاتّفاق والشّراكة وقاعدة المداورة في الحقائب وفقًا للمادّة 95 من الدّستور، كعلامة للمشاركة الحقيقيّة في إدارة شؤون الدّولة. نريدها حكومة تتفرّغ لمشروع الإصلاحات، وللاستحواذ على المساعدات الدّوليّة المقرّرة والموعودة. نريدها حكومة تضع في أولويّاتها إعادة بناء المرفأ واستعادة حركته وضبط إدارته ومداخيله وجمركه، وإعادة إعمار بيروت المهدّمة.

8. وكما يعنينا تشكيل حكومة في أسرع ما يمكن للأسباب المذكورة، كذلك يعنينا استمرار التّحقيق العدليّ بشأن تفجير مرفأ بيروت. إنّ النّاس لا يهمّهم الاجتهادات القانونيّة المتنازع بشأنها. ما يهمها هو معرفة من قتل أبناءها وفجر المرفأ وهدم العاصمة. يهمّها معرفة من أتى بالمواد المتفجّرة، ومن يملكها، ومن سمح بتخزينها، ومن سحب منها كميّات بشكل دوري وكيف، ومن غطّى هذه العنابر طوال سبع سنوات، ومن أهمل واجباته من السّلطات السّياسيّة والقضائيّة والأمنيّة، ومن فجرها في 4 آب 2020. وإذا كان البعض يفضّل إحالة الملف إلى المجلس النّيابيّ، ونحن نكنّ الاحترام لهذا المجلس، فإنّنا نخشى أن يموت التّحقيق ويسيّس بين الكتل النّيابيّة. وأيّ مماطلة إضافيّة في التّحقيق ستؤدّي إلى ما لا تُحمَدُ عقباه. واجباتنا دعم القضاء، هذا الصّرح الدّستوريّ الذي لم يسقط بعد، ونرجو ألّا يسقط، وإلّا، لا سمح الله، سقط هيكل الدّولة كلّه!

9. كلّ الأجيال التي سبقت مجيء المسيح كانت في مسيرة شوق إليه وانتظار. أمّا نحن فمن ضمن الأجيال التي تنطلق منه وتعود إليه باستمرار بروح التّوبة والاستعداد الدّائم للتّغيير.

أهّلنا يا ربّ لأن نستعدّ بهذه الرّوح لميلادك المجيد، ونحن نرفع آيات المجد والتّسبيح للآب الّذي أرسل إبنه لخلاصنا، وللإبن الّذي تجسّد وصار واحدًا منّا ليخلّصنا ويفتدينا من خطايانا، وللرّوح القدس الّذي يحقّق فينا ثمار الخلاص والفداء، الآن وإلى الأبد، آمين".