الرّاعي للّبنانيّين: لليقطة والاستعداد لمواجهة الالتفاف على الإرادة الشّعبيّة
"1. يكشف الرّبّ يسوع في هذا الظّهور جوهر الكنيسة المتمثّلة بالتّلاميذ، كهنة العهد الجديد: إنّها شاهدة للمسيح الّذي مات فداء عن خطايا البشر أجمعين، وقام من الموت ليقيمهم لحياة جديدة. وتحمل مسؤوليّة الكرازة بإعلان إنجيل التّوبة، من أجل نيل ثمار الفداء بغفران الخطايا وعيش حياة جديدة من روح القيامة، وبثّ السّلام في القلوب. هذا ما أكّده الرّبّ بترائيه للتّلاميذ في مساء قيامته: "المسيح يتألّم ويموت وفي اليوم الثّالث يقوم، ويُكرز باسمه لمغفرة الخطايا" (لو 24/ 48).
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأن أحيّيكم جميعًا مع تحيّة خاصّة إلى عائلة المرحوم الشّابّ ريان ملحم في الذّكرى السّنويّة الأولى لوفاته. إنّنا نقدّم هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفسه، ولعزاء عائلته العزيزة على قلبنا. في هذا الأحد ترتفع الصّلوات بمناسبة عيد القدّيسة ريتا العزيز على قلب اللّبنانيّين وسواهم؛ وأيضًا بمناسبة اليوم الثّاني والعشرين من الشّهر حيث يتقاطر المؤمنون من كلّ صوب إلى عنّايا ويقومون بتطواف من المحبسة إلى ضريح القدّيس شربل، رافعين الصّلوات من عميق قلوبهم، متذكّرين آية شفاء السّيّدة نهاد الشّامي.
في هذا الأحد أيضًا ترتفع الصّلوات بمناسبة اليوم العالميّ للصّلاة من أجل مسيحيّي الشّرق. وتُعنى بإحيائه مؤسّسة L’Œuvre d’Orientالّتي هي في خدمة مسيحيّي الشّرق، فنحيّي مديرها العامّ الخورأسقف بسكال Gollnisch، ونشكره على تفانيه في هذا السّبيل.
3. هي الكنيسة، بأبنائها وبناتها ومؤسّساتها، برعاتها ومؤمنيها، تشهد أنّ المسيح القائم من الموت حاضر فيها ومعها، في سرّ الإفخارستيّا، المرموز إليه بعلامات الصّلب في يديه وصدره، الّتي أظهرها للتّلاميذ كهويّته الجديدة. إنّه الحمل المذبوح الـمُمجّد الحاضر الآن وهنا، حيث وفي كلّ مرّة تحتفل الكنيسة باللّيتورجيا الإلهيّة. إنّها ذبيحة يسوع الخلاصيّة على الصّليب، ووليمة جسده ودمه، تحت شكلي الخبز والخمر، المحوَّلين جوهريًّا إلى جسد المسيح ودمه، الّذي حوله وبواسطته تلتئم جماعة المؤمنين، وتتكوّن دائمًا من جديد، كنيسة محلّيّة، هي كنيسة الشّركة مع الله وبين كلّ أعضائها، وتنبسط إلى جميع النّاس على تنوّع عرقهم وثقافتهم ودينهم.
4. وتشهد الكنيسة أنّ يسوع القائم من الموت حاضر فيها ومعها أيضًا بكلمته في الكتب المقدّسة الّتي تختصرها "بالكلمة الّذي صار بشرًا" (يو 1/ 14). وهي كلمة حيّة، وموجّهة وفاعلة تنير العقول والضّمائر والقلوب، لأنّها صادرة من فم المسيح، وهي هو إيّاه. هكذا وقف يسوع وسط التّلاميذ، وقال لهم كلمته بشأن موته وقيامته بدءًا بتوراة موسى مرورًا بالأنبياء والمزامير، فوصولًا إليه. ما يعني أنّ كلّ كتب العهد القديم إنّما كُتبت عنه واكتملت في العهد الجديد. "فالقديم" يتّضح في "الجديد" المختبئ فيه؛ و"الجديد" يشرح "القديم" لأنّه اكتماله. يسوع المسيح يجسّد وحدة العهدين العضويّة، وبالتّالي وحدة تصميم الله الخلاصيّ في التّاريخ، على ما قال الرّبّ يسوع "ما جئتُ لأنقض بل لأكمّل" (متّى 5/ 17).
أساس إيماننا المسيحيّ وحياتنا ورسالتنا، حيثما كنّا، هو كلمة الله الّتي نقلها إلينا الرّسل وتقليد الكنيسة الحيّ وتعليمها عبر الأجيال.
5. نشكر الله على أنّ اللّبنانيّين اقترعوا واختاروا مجلِسًا نيابيًّا جديدًا يُمثِّلُ مختلفَ الاتّجاهاتِ السّياسيّةِ الموجودةِ في لبنان وبلاد الانتشار. فأدّت هذه الانتخاباتُ، إلى مُناخٍ وطنيٍّ جديدٍ أعطى المواطنين جُرعةَ أملٍ بحصولِ تغييرٍ إيجابيٍّ ووطنيٍّ من شأنِه أن يُشجِّعَ المجتمعَ الدُّوليَّ، بما فيه العربيّ، على مساعدةِ لبنان جِدّيًّا، لا رمزيًّا، على الخروجِ من ضائقتِه الاقتصاديّةِ ومن أزْمتِه الوجوديّة.
ولكن ما لَفَتنا وأَلمنا هو أن تَندلِعَ، غداةَ إعلانِ نتائج الانتخابات، اضطراباتٌ أمنيّةٌ، وأن تعودَ أزمةُ المحروقات، ويَنقطِعَ الخبزُ، وتُفقَدَ الأدويةُ، وتَرتفع الأسعار، ويَتمَّ التّلاعبُ باللّيرةِ والدّولار؟ ألم يكن من المفتَرضِ أن يحصُلَ عكسَ ذلك فيَتأمّنُ ما كان مفقودًا ويَرخُصُ ما كان غاليًا؟ إنّ هذا التّطوّرَ المشبوه يؤكّدُ مرّةً أخرى إنَّ هناك من يُريد تعطيلَ واقعَ التّغييرِ النّيابيٍّ وحركةَ التّغييرِ السّياسيِّ، والانقلابَ على نتائجِ الانتخاباتِ والهيمنةِ على الاستحقاقاتِ الآتية. إنّنا نرفض هذا الأمر وندعو جميعَ المسؤولين والقادة إلى تحمّل المسؤوليّة وندعو الشّعب إلى التّصدّي له.
وإذ كنّا نتوقّع أن يبدأ التّغيير بإصلاح أداء بعض القضاة، والالتزام بأصول المحاكمات، بحيث تتوقّف "فبركة" الملفّات ولصق "تهمة" التّعاون مع العدوّ، والتّوقيف ظلمًا وتشفّيًا لأسباب سياسيّة وحزبيّة. وقد زارنا مساء أمس عدد غفير من المستنكرين الرّافضين توقيف السّيّد طوني خوري لدى المحكمة العسكريّة منذ أسبوعين لسبب لا يستحقّ هذا الإجراء. فإنّنا نطلب من السّلطات القضائيّة المعنيّة رفع الظّلم والتّقيّد بالأصول القضائيّة، لئلّا يتحوّل نظامُنا الدّيمقراطيّ إلى نظام قمعيّ توتاليتاريّ واستبداديّ. فيا حبّذا لو يقوم القضاء بواجباته بشأن تفجير مرفأ بيروت، وتجاه الّذين نهبوا المال العامّ وأفلسوا الدّولة، وزجّونا في العتمة، والّذين يخزّنون الأدوية ويتلاعبون بالدّولار ويحطّون من قيمة اللّيرة اللّبنانيّة. لكنّ هؤلاء، وبكلّ أسف، محميّون من النّافذين المستفيدين. فيا للعار!
ويجدر القول، إنّ قيمةَ القِوى الفائزةِ بالأكثريّةِ ليست بعددِ نوّابِها، بل بقُدرتِها على تشكيلِ كُتلٍ نيابيّةٍ متجانِسةٍ ومتَّحدةٍ ومتعدّدةِ الطّوائف حولَ مبادئ السّيادةِ والاستقلال والِحياد واللّامركزيّة. على أن تصبح هذه المبادئ الوطنيّةَ نقاط تلاقٍ يُجمِعُ عليها جميعُ النّوّاب لأنّها ثوابتُ لبنانيّةٌ تاريخيّةٌ ومٌرتكزاتُ الهُويّةِ اللّبنانيّةِ ومنطَلقُ أيِّ تغييرٍ تقدميّ يشمل مختلِف قطاعاتِ حياتِنا الوطنيّةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّة، ويشكّل حركةً وطنيّةً وحضاريّةً.
6. إنَّ انتخابَ مجلسٍ نيابٍّي جديدٍ هو بَدءُ مرحلةٍ مصيريّةٍ يتوقّف عليها مُستقبلُ لبنان وشكلُ الدّولةِ اللّبنانيّة. فنحن أمام استحقاقاتٍ تبدأ بانتخابِ رئيسٍ للمجلسِ النّيابيِّ الجديد على أسُسِ الدّستورِ والميثاق، وتَمرُّ بتأليفِ حكومةٍ وطنيّةٍ على أسُسِ التّفاهمِ المسبَقِ على المبادئ والخِيارات والإصلاحات فلا تَتعطّل من الدّاخل، ثمّ تَصل إلى انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجُمهوريّة على أسُسِ الأخلاقِ والكفاءةِ والتّجرّدِ والشّجاعةِ والموقِفِ الوطنيّ.
ليس الفوزُ في الانتخاباتِ النّيابيّةِ نهايةَ النّضالِ بل بدايتَه. لذلك ندعو جميعَ المواطنين، لاسيّما أولئك المؤمنين بالتّغييرِ الإيجابيِّ وبالسّيادةِ الوطنيّةِ وبوِحدةِ السّلاحِ وبالحيادِ وباللّامركزيّةِ إلى اليقظةِ والاستعدادِ لمواجهةِ الالتفافِ على الإرادةِ الشّعبيّةِ حتّى لا يَضيعَ صوتُ الشّعبِ الصّارخ في وجهِ المصالح السّياسيّةِ والتّسوياتِ والمساوماتِ وتقاسم المناصب على حسابِ المبادئ.
7. فيما نرفع صلاة الشّكر لله على إجراء الانتخابات النّيابيّة، نسأله تعالى أن يقود ذوي الإرادات الحسنة إلى استكمال هذه المرحلة الدّستوريّة بتأليف حكومة جديدة تتولّى مسؤوليّاتها العديدة والضّروريّة لكي تستعيد البلاد حيويّتها الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة. فنرفع المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."