الرّاعي في يوم السّلام العالميّ: نصلّي من أجل إحلال السّلام في العائلات والمجتمعات والأوطان
وفي عظة ألقاها تحت عنوان "ها هو حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (يو1: 29)، قال الرّاعي:
"1. تأتي شهادة يوحنّا المعمدان هذه عن يسوع، غداة معموديّته، وقد مشى يسوع في موكب الخطأة التّائبين السّائرين نحو يوحنّا لقبول المعموديّة، وكأنّه خاطي، هو الّذي لم يعرف خطيئة، بل لكي يحمل خطايا البشر أجمعين، ويفتديها بموته على الصّليب. تضمّنت شهادة يوحنّا أبعادًا أخرى من شخصيّة يسوع. فبالإضافة إلى كونه حمل الله، فهو يعمّد لمغفرة الخطايا والولادة الجديدة، وهو إبن الله الّذي صار إنسانًا لكي يكون إلى جانب كلّ إنسان في مسيرته على وجه الأرض، وينعم بالسّلام الدّاخليّ والخارجيّ.
2. إنّ الكنيسة في لبنان تحتفل في هذا الأحد بيوم السّلام العالميّ السّابع والخمسين، الّذي أسّسه القدّيس البابا بولس السّادس سنة 1968. وأكّد أنّ "كلمة السّلام لا تعني الاستسلام، أو الجبن والكسل في الحياة، بل تنادي بالأحرى بأسمى وأشمل قيم الحياة، قيم الحقيقة والعدالة والحرّيّة والمحبّة."
إعتاد البابوات توجيه رسالة خاصّة بيوم السّلام. فالرّسالة الّتي يوجّهها قداسة البابا فرنسيس لهذه السّنة هي بعنوان: "الذّكاء الاصطناعيّ والسّلام". فيسعدني أن أوجّه تحيّة إلى اللّجنة الأسقفيّة "عدالة وسلام"، بشخص رئيسها سيادة أخينا المطران مارون العمّار ونائب الرّئيس سيادة أخينا المطران جول بطرس، وسائر الأعضاء. وأشكرهم على تنظيم هذا الاحتفال الّذي نصلّي فيه من أجل السّلام في لبنان وغزّة والعالم كلّه.
3. أحيّيكم جميعًا، وأوجّه تحيّة خاصّة الى سيادة اخينا المطران مارون ناصر الجميّل مطران ابرشيّة سيّدة لبنان في فرنسا والزّائر الرّسوليّ على أوروبا الغربيّة والشّماليّة. وأحيّي عائلة سيادة أخينا المطران المرحومة نوال الياس مطر، شقيقة سيادة أخينا المطران بولس مطر، رئيس أساقفة بيروت السّابق. فنحيّي زوجها عزيزنا حبيب عزيز أبو عيسى، وابنها وابنتيها وأشقّاءها وشقيقاتها. وقد ودّعناها معهم الأربعاء الماضي مع أهالي الجيّة العزيزة. نصلّي لراحة نفسها وعزاء أسرتها. ونوجّه تحيّةً خاصّة أيضًا إلى عائلة المرحوم الخوري إسطفان جرجس الخوري الّذي ودّعناه معها في مطلع الأسبوع المنصرم، ومع أهالي حدشيت الأعزّاء. نصلّي لراحة نفسه، وعزاء أسرته.
4. فيما نصلّي من أجل إحلال السّلام في العائلات والمجتمعات والأوطان، نتأمّل في مفهومه على ضوء موضوع رسالة قداسة البابا فرنسيس: "الذّكاء الإصطناعيّ والسّلام".
المقصود من هذا الموضوع كما من سواه في الرّسائل البابويّة، هو الحاجة الملحّة إلى بناء حضارة المحبّة والسّلام. ولهذا يفتتح قداسة البابا فرنسيس رسالته بالتّأكيد على الكرامة السّامية الّتي يمنحها الله للإنسان لكي يشارك في إدارة الكون ويُجري تحويلات في العالم بفضل تقدّم العلوم والتّقنيّات. وتحدّد الرّسالة التّحدّيات الّتي تطلقها التّقنيّات الجديدة من أجل بناء عالم أكثر عدالة وأكثر أخوّة.
يرى البابا فرنسيس في الذّكاء الاصطناعيّ "علامة الأزمنة" الّتي تعني واقعًا بشريًّا جديدًا، يولد من كلّ ما هو حاصلٌ حولنا، وتعمل الكنيسة على تفسيره في ضوء الإنجيل، وترى فيه علامات مجيء ملكوت الله في مسيرة التّاريخ.
ولكن هذا القول يقتضي قراءة معمّقة من أجل إيضاح ثلاثة أمور:
1- التّأكّد من أنّ الذّكاء الاصطناعيّ هو بالحقيقة في خدمة الخير العامّ.
2- إنّه يحمي قيمة الشّخص البشريّ، الّتي لا بديل عنها.
3- إنّه يعزّز حقوقنا الأساسيّة.
5. يقدّر البابا فرنسيس المساهمة الّتي يقدّمها للبشريّة التّقدّم العلميّ والتّكنولوجيّ. ذلك أنّ هذه المكتسبات تقدّم خدمة ثمينة للأشخاص وكرامتهم وحقوقهم. ولكن إذا كان المقياس التّقنوقراطيّ القاعدة الوحيدة الّتي تحكم الذّكااء الاصطناعيّ من أجل الرّبح والمصالح الفئويّة، فإنّه يشكّل في هذه الحالة أخطارًا جانبيّة أهمّها: عدم المساواة، الظّلم، النّزاعات. أمّا التّحدّيات الّتي يولّدها الذّكاء الصطناعيّ لا تنحصر بالمساحات التّقنيّة، بل تشمل أيضًا المساحات الأنتروبولوجيّة والتّربويّة والاجتماعيّة والسّياسيّة.
6. وثمّة آخطار أشار إليها قداسة البابا، أهمّها ثلاثة:
1) استعمال الذّكاء الاصطناعيّ لغايات الحرب، مع تبرئة المسؤوليّة البشريّة عن مسرح الحرب.
2) تهديد العدالة الاجتماعيّة في حقل العمل حيث جاءت الآلة الذّكيّة لتحلّ محلّ العامل، وتلغي بالتّالي العديد من مجالات العمل، وفي الوقت عينه تسبّب ازديادًا مرتفعًا لعدد الفقراء.
3) على مستوى وسائل التّواصل، يقدّم الذّكاء الاصطناعيّ وسائل جديدة لتبديل الكلمات وتغيير الصّور وتركيبها من أجل إيصال الخبر المختلف. وبذلك يوضع النّظام المدنيّ والحكم الدّيمقراطيّ في خطر.
7. المطلوب حيال هذه الأخطار تربية الشّبيبة على حسن استعمال الوسائل التّقنيّة الجديدة، وعلى تقييم نتائجها. فالتّقنيّات الجديدة هذه تتطلّب سهرًا ومراقبة في كلّ مراحل تكوينها: من تصميمها إلى التّجارة بها، وحتّى استعمالها الفعليّ. فمن أجل انتظام الذّكاء الاجتماعيّ واستعماله بنوع مسؤول، يجب وضع قواعد فاعلة في داخل كلّ دولة، بالإضافة إلى اتّفاقيّات موسّعة ومعاهدات ملزمة بين الدّول. والكلّ يهدف إلى حماية حقوق الإنسان الأساسيّة، والحقوق الاجتماعيّة والاعتناء ببيتنا المشترك.
8. هذه الرّسالة موجّهة إلى رؤساء الدّول، والسّلطات السّياسيّة، وقادة المجتمع المدنيّ، لكي يمارسوا مسؤوليّتهم المشتركة في هذا الظّرف التّاريخيّ الخاصّ. ويوصي قداسة البابا بعدم ترك مسؤوليّة القرار إلى أصحاب هذه التّقنيّات والعاملين على إنمائها. الكلّ مدعوّون إلى الانتباه وحسن الاختيار، إذا شئنا تسليم الأجيال المستقبليّة عالمًا أفضل وأكثر سلامًا وتضامنًا وعدالة.
ويختم قداسة البابا بالصّلاة في بداية هذه السّنة الجديدة كي لا يزيد النّموّ السّريع لأشكال الذّكاء الاصطناعيّ أعداد الاجيال الفقيرة ضحايا عدم المساواة والظّلم الموجودة اليوم في العالم.
9.عندما حوّل الرّبّ يسوع شريعة "العين بالعين، والسّنّ بالسّنّ... ومبادلة الشّرّ بالشّرّ"، إلى شريعة الغفران والمحبّة (راجع متّى 5: 38-39 و43-44)، جعل السّلام ميزة الدّين المسيحيّ. ولذلك، لا تتوقّف الكنيسة عن إدانة الحروب، والدّعوة إلى السّلام، وحلّ النّزاعات بالتّفاوض والطّرق السّياسيّة والدّيبلوماسيّة. نحن بدورنا ندين الحرب وندعو إلى السّلام بالتّفاوض في كلّ مناسبة. وكذلك بالنّسبة إلى حرب إسرائيل على غزّة، وامتدادها إلى جنوب لبنان عن غير رغبة من أيّ لبنانيّ، ومن الدّول الصّديقة، لا سيما وأنّ لبنان مصان من الحرب مع إسرائيل بقوّة قرار مجلس الأمن 1701. فيجب على الجميع التّقيّد به، منعًا لامتدادات الحرب إلى لبنان رغمًا عن إرادة اللّبنانيّين المحبّين لوطنهم وللسّلام في ربوعه.
10. السّلام هو ثمرة العدالة. كيف يمكن الكلام عن السّلام الدّاخليّ في لبنان، وقد رأينا في هذه الأيّام أنّ مشروع الموازنة ظالمًا بحقّ الشّعب اللّبنانيّ، وفقًا لما سمعنا وقرأنا من داخل المجلس النّيابيّ. فنتساءل مع المتسائلين:
- هل يجوز تحميل المواطنين في مشروع الموازنة الجديدة أكثر ممّا تحمّلوا من كلفة الانهيارات الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، من خلال زيادات ضريبيّة ورسوم وغرامات عشوائيّة؟
- كيف يتعامى واضعو مشروع الموازنة عن التّهرّب الضّريبيّ والجمركيّ الّذي يغذّي الإقتصاد غير الشّرعيّ في لبنان بمليارات الدّولارات؟
هذه التّساؤلات تدلّ على الضّرر النّاتج عن عدم وجود رئيس للجمهوريّة، فبغيابه يسود الفلتان وعلى المكاسب غير المشروعة الّتي يجنيها معطّلو انتخاب الرّئيس، وعلى ازياد فقر المواطنين.
إنّنا نطالب السّادة النّوّاب بالتّعاون الوثيق مع لجنة المال والموازنة النّيابيّة من أجل تعديل مشروع الموازنة الحكوميّ والحدّ من أضراره على المواطنين. وهذا واجب وطنيّ، يتيح لمجلس النّوّاب ممارسة المادّة 86 من الدّستور، وتجنّب صدور الموازنة على علّاتها بمرسوم وزاريّ.
11. فلنصلِّ إلى الله، أيّها الإخوة والأخوات، كي يوقف الحروب بقدرته اللّامتناهية، ويقي لبنان وجنوبه الحدوديّ من شرّها ومخاطرها، ويزرع في القلوب حضارة السّلام. له المجد والتّسبيح، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."