الرّاعي في فرنسا، ما كانت أبرز محطّات الزّيارة؟
بداية، وبدعوة من رئيس أساقفة باريس، عقد البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي لقاءً في العاصمة الفرنسيّة، شارك فيه مدبّر الأبرشيّة المارونيّة في فرنسا المطران بيتر كرم، والوكيل البطريركيّ في باريس المونسنيور عصام أبي خليل.
وقد جرى خلال اللّقاء التّداول في شؤون كنسيّة والتّأكيد على أهمّيّة استمرار التّنسيق والتّعاون بين الكنائس الشّرقيّة وكنيسة فرنسا.
كما حضر الاجتماع النّائب الأسقفيّ ومدير جمعيّة L’Œuvre d’Orient ، حيث تمّ التّطرّق إلى الأوضاع الاجتماعيّة والتّحدّيات الّتي تواجه لبنان وفرنسا في المرحلة الرّاهنة.
وأكّد البطريرك الرّاعي حرص الكنيسة المارونيّة على تعميق روابط الشّراكة مع الكنيسة في فرنسا، لما فيه خير المؤمنين وتعزيز قيم الإيمان والعدالة والسّلام في المجتمعين اللّبنانيّ والفرنسيّ.
هذا واحتفل البطريرك الرّاعي، يوم الجمعة، بالقدّاس الإلهيّ في كنيسة سيّدة لبنان في العاصمة الفرنسيّة، توجّه حلاله بعظته لكلّ الحاضرين، فرنسيّين ولبنانيّين من مختلف المقامات الرّوحيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة ومؤمنين، بالقول :
"الرّبّ يسوع يؤكّد لنا في إنجيل اليوم ألوهيّته وملوكيّته، نعم هو الملك، أتى إلى أرضنا كي يشهد فقط للحقيقة، هذه الرّسالة الّتي يحملها المسيحيّون، الشّهادة للحقيقة.
حقيقة الله الّذي تعرّفنا عليه بشخص يسوع المسيح والّذي تمرّسنا معرفته منذ الصّغر بالإيمان ونتعمّق أكثر مع العمر من خلال إنجيلنا وتعاليم كنيستنا بغية بلوغ نضوج الإيمان .
حقيقة الإنسان ،من أنا ولماذا الحياة والموت؟ لماذا الشّرّ؟ ولا جواب إلّا بالمسيح، وحده المسيح يقول لي من أنا ...
حقيقة التّاريخ، وهو صورة تاريخ الخلاص من خلال تاريخ البشر ومعرفة هذا التّاريخ لا يفهم إلّا من خلال المسيح بمشروعه الخلاصيّ الملكيّ وقد جعلنا ملوكًا في قلبه وأرادنا معه كما في الأرض كذلك في السّماء .
إذًا في لبنان أو في فرنسا مشروعنا كمسيحيّين، هو إعلان الحقيقة .
حقيقة الله والإنسان والتّاريخ .
وحقيقة لبنان لخّصها البابا يوحنّا بولس الثّاني عام ١٩٨٠ حين طلب من اللّبنانيّين أن يختاروا ٢٢ تشرين الثّاني، يوم ذكرى استقلالنا، كتاريخ لإعلان حقيقة لبنان الحقيقيّة كوطن وهو أكثر من وطن وقد وصفه في السّينودس المخصّص لأجل لبنان أنّه وطن الرّسالة.
والإنتماء لهذا الوطن، لبنان، أينما كنّا يلخّص بواجبنا أن نلتزم بإعلان حقيقة هويّته الشّاملة والجامعة."
وأضاف الرّاعي في صلاته:
"إجعلنا يا يسوع شركاء ملوكيّتك فلا نشهد إلّا للحقيقة أينما حللنا".
بعد القدّاس، أقام السّفير اللّبنانيّ في فرنسا الأستاذ ربيع الشّاعر مأدبة عشاء على شرف البطريرك الرّاعي والوفد المرافق.
وللمناسبة، توجّه الشّاعر بكلمة قلبيّة إلى الرّاعي جاء فيها: "بصفتي سفير لبنان في فرنسا، يشرّفني كثيرًا، ويملؤني شعور مميّز شخصيّ خاصّ، وأنا أستقبلكم هذا المساء في مقرّ سفارة لبنان في باريس.
صاحب الغبطة، إنّ زيارتكم إلى العاصمة الفرنسيّة بمناسبة تدشين دير القدّيس شربل للرّهبنة اللّبنانيّة المارونيّة، حدث بالغ الرّمزيّة. فهو يحتفي بحيويّة كنيستنا وقوّة حضورنا الرّوحيّ والثّقافيّ في باريس، هذه المدينة الّتي يحملها كثير من اللّبنانيّين في قلوبهم، والّتي لطالما احتلّت مكانة مميّزة في تاريخ وطننا.
إنّ باريس بالنّسبة إلينا مدينة استقبال وحوار وثقافة وحرّيّة- وهي قيم يشترك لبنان في عمقها، وتجسّدونها أنتم يا صاحب الغبطة من خلال التزامكم الدّائم بالوحدة والسّلام وسيادة لبنان.
إسمحوا لي، وبفخر متواضع، أن أذكر أنّني حظيت بشرف أن أكون أحد طلّابكم في الجامعة. وما زلت أحتفظ بذكرى أستاذ نادر المطالب، يجمع بين العمق الفكريّ والإيمان الحيّ- وهي صفات تحملونها اليوم على رأس كنيستنا بحكمة وعزم.
واليوم، فيما ينخرط لبنان في مسيرة نهوضه، فإنّنا محظوظون بأن يكون لنا رئيس وحكومة تتلاقى مواقفهما الوطنيّة مع مواقفكم: مواقف لبنان الحرّ، السّيّد، المحايد، والأمين لرسالته في العيش المشترك والانفتاح.
إنّ حضوركم بيننا هذا المساء ليس فقط بركة روحيّة، بل هو أيضًا رسالة قويّة: رسالة لبنان القائم، المتجذّر في قيمه، والمتّجه نحو المستقبل.
مرحبًا بكم، صاحب الغبطة، في هذا البيت الّذي هو بيتكم، وفي باريس الّتي تبقى قلبًا نابضًا لجميع اللّبنانيّين في العالم."
أمّا الأحد، فترأّس البطريرك بشارة الرّاعي القدّاس الإلهيّ في رعيّة مار شربل- سورين، حيث كانت له عظة بعنوان: "من أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن خادمًا للجميع" (مرقس 10: 44)، فقال:
"1. طلب يعقوب ويوحنّا من يسوع قائلين: "إئذن لنا أن نجلس، واحد عن يمينك والآخر عن يسارك، في مجدك" (مرقس 10: 37). فربط يسوع هذا الطّلب برغبتهما في المشاركة في سرّ آلامه وموته، الّذي عبّر عنه بعبارتي "يشربان الكأس" و"ينالان المعموديّة" (مرقس 10: 38). ولمّا أظهرا استعدادهما لمشاركته في الآلام، وعدهما يسوع بالمشاركة في المجد، دون أن يضمن لهما الأماكن عن يمينه ويساره، لأنّها معدّة لمن أُعدّت لهم (مرقس 10: 40).
وعندما سمع سائر التّلاميذ بذلك، غضبوا على يعقوب ويوحنّا، فانتهز يسوع الفرصة ليشرح لهم معنى دعوته على طريق الفصح، والمعنى الحقيقيّ لملكوته. أوضح لهم أنّ "الملوكيّة الزّمنيّة" تُمارَس عبر التّسلّط وطلب المجد، بينما "ملوكيّة المسيح" تُعاش في الخدمة، والتّواضع، والبذل من أجل الجميع. وهكذا، "الأعظم" في ملكوته يكون "خادمًا للجميع"، و"الأوّل" يكون "عبدًا للجميع" (مرقس 10: 43-44).
يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، لاسيّما السّلطات الكنسيّة والمدنيّة، ونحن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة على نيّة أبناء وبنات هذه الرّعيّة، وكذلك على نيّة الرّهبنة اللّبنانيّة المارونيّة والآباء الّذين يخدمون هذه الجماعة.
نصلّي من أجل رعيّة مار شربل- سورين، ومن أجل الرّهبنة، لكي يفيض الله عليهم نِعَمه وبركاته.
نصلّي أيضًا لكي يكون دير مار شربل، الّذي تمّ تدشينه بالأمس، مكانًا للصّلاة، والرّجاء، والتّعزية الرّوحيّة، والرّسالة.
في قلب الاحتفال الإفخارستيّ نكتشف دائمًا معنى الخدمة والبذل. فالقدّاس ليس طقسًا فحسب، بل هو مشاركة في سرّ المسيح الّذي بذل نفسه فداءً عن كثيرين.
نذكّر اليوم أنّ المسيحيّة ليست أماكن شرف ولا مناصب سلطة، بل هي صليب، ومحبّة، وبذل للذّات.
واجه يسوع التّلاميذ بحقيقة مؤلمة:
"أنتم تعلمون أنّ الّذين يُعدّون رؤساء الأمم يسودونهم، وعظماؤهم يتسلّطون عليهم."
بهذا، وصف منطق العالم، حيث تتحوّل السّلطة إلى تسلّط، والعظمة إلى سيطرة، والقوّة إلى قهر الآخرين.
ولكن يسوع يقلب هذا المنطق ويقول:
"أمّا أنتم، فلا يكن الأمر كذلك في ما بينكم".
إنّه أمر واضح وقاطع يغيّر كلّ المقاييس. منطق الملكوت مختلف عن منطق العالم.
القيادة في الكنيسة ليست مكان نفوذ، بل مكان عطاء. ويضيف:
"من أراد أن يكون كبيرًا بينكم، فليكن خادمكم، ومن أراد أن يكون الأوّل، فليكن عبدًا للجميع."
هكذا أسّس يسوع نظامًا جديدًا للقيم:
العظمة الحقيقيّة في الخدمة،
والأوّلية الحقيقيّة في التّواضع،
والسّلطة الحقيقيّة في بذل الذّات بالكامل من أجل الجميع.
ويختم قائلًا:
"لأنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين."
هذا التّصريح الإنجيليّ ليس مجرّد وصيّة أخلاقيّة، بل هو شريعة ليتورجيّة.
في الإفخارستيّا لا نعيش مجرّد لحظة رمزيّة، بل ندخل في سرّ المسيح الخادم والباذل.
على المذبح لا يتربّع المسيح كملك متسلّط، بل يتجلّى كخادم.
عندما نرفع الخبز والخمر، نُقدّم ثمار تعبنا اليوميّ، وتتحوّل حياتنا إلى عطاء وخدمة.
وبتناولنا القربان، نستقبل جسد المسيح لنصبح نحن أيضًا جسدًا مبذولًا من أجل الآخرين.
وهكذا يشكّل القدّاس جماعة الأحد إلى جماعة خادمة، لا إلى مجموعة امتيازات أو مناصب.
كلمات يسوع: "لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدم"، هي قلب اللّيتورجيا.
فكلّ رتبة كنسيّة- أكانت أسقفيّة أو كهنوتيّة أو شمّاسيّة- ليست امتيازًا، بل علامة خدمة.
وكلّ مشاركة في القدّاس ليست حضورًا شكليًّا، بل التزام متجدّد بعهد الخدمة.
عندما نسمع في نهاية القدّاس: "اذهبوا بسلام"، فهي ليست نهاية الاحتفال، بل بداية الرّسالة:
أن نخرج كخدّام في العائلة، وفي المجتمع، وفي العمل، وفي الوطن، وفي الخارج.
فلنصلِّ أيّها الإخوة والأخوات من أجل رعيّة مار شربل في سورين: أن يحوّل الرّبّ كلّ بيت إلى مذبح للخدمة، ومائدة للمحبّة.
ولنصلِّ من أجل الرّهبنة اللّبنانيّة المارونيّة الّتي تخدم هنا بأمانة:
أن يُكافئها الرّبّ على تعبها، ويُكثر ثمار رسالتها.
ولنصلِّ من أجل فرنسا، البلد المضيف:
فلنشكرها بامتنان على مساحة الحرّيّة والكرامة والعدالة الّتي توفّرها.
ولنصلِّ من أجل لبنان، هذه الأرض المشرّفة بأكثر من أربع وسبعين إشارة كتابيّة،
رمز البقاء، والصّمود، والعهد الثّابت مع الحياة.
ليُنِر الله عقول حكّامه، ويحفظ وحدة شعبه، ويُعيد له وجهه الأصيل:
وجه الحرّيّة المتألّقة والتّنوّع الخلّاق.
آمين!".
وفي إطار زيارته الرّاعويّة إلى فرنسا زار البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي رعيّة مار يوحنّا- مارون الجديدة في مدينة مونتيني لتبريك الكنيسة الجديدة الّتي تمّ شراؤها من قبل الأبرشيّة المارونيّة في فرنسا وكان في استقباله كاهن الرّعيّة مع المجلس الرّعويّ وأبناء الرّعيّة.