لبنان
17 آب 2020, 12:30

الرّاعي في عيد انتقال العذراء: أيَّ حلٍّ لا يتضمّن الحياد النّاشط واللّامركزيّة الموسّعة والتّشريع المدنيّ ليس حلّاً

تيلي لوميار/ نورسات
أحيا البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي عيد انتقال السّيّدة العذراء، في كنيسة الدّيمان، وألقى عظة قال فيها:

""ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال لأنّ القدير صنع بي العظائم" (لو 1: 48-49)

هذا النّشيد النّبويّ الّذي أطلقته مريم العذراء في بيت أليصابات، تضمَّن كلَّ عظائم الله الّتي أجراها فيها. وهي عظائم أعلنتها الكنيسة تباعًا عقائد إيمانيّةً الواحدةَ تلو الأخرى، حتّى تتوّجت هذه العظائم بانتقال مريم بالنّفس والجسد إلى المجد السّماويّ. إنّها حقًّا تحفة الخلق بقداستها الكاملة، وتحفة الفداء بانتقالها نفسًا وجسدًا إلى السّماء.

إنتقلت إلى السّماء ولم تغادر أرضنا وشعبها المفتدى بدم ابنها الفادي الإلهيّ. بل تتعهّده بأمومتها، وتقود سفينته، الّتي تتقاذفها الرّياح الهوجاء والأمواج العاتية، إلى ميناء الخلاص. وفي الوقت عينه نسمع صوت المسيح الرّبّ: "أنا هنا لا تخافوا" (يو 20:6).

ولو كنّا في حزنٍ شديد لما خلّف انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الجاري، من ضحايا وجرحى ومفقودين ومشرّدين وأضرارًا مادّيّة وهدمًا لمنازل ومستشفيات ومدارس وجامعات وكنائس ودور عبادة ومؤسّسات عامّة وخاصّة صناعيّة وتجاريّة وسياحيّة، فأودّ أن أهنّئكم جميعًا بعيد سلطانة الانتقال، لا بوجهه الاجتماعي~ المفرح، بل بمعناه الرّوحيّ واللّاهوتيّ المعزّي: مريم بأمومتها هي هنا معنا تكفكف الدّموع وتعزّي وتحتضن بكلّ حنان الأمّ. فمن عظائم الله أنّه جعل لنا في السّماء أمًّا، أمومتها لا تموت وحضورها لا ينقص.

أحيّيكم أيّها الحاضرون معنا في كاتدرائيّة الكرسيّ البطريركيّ في الدّيمان. وأحيّي بينكم عائلة المرحومة جوسلين خويري الّتي اختصرت حياتها "بقصّة مع العذراء"، وهي معروفة في لبنان والخارج بنضالها الأوّل في صفوف المقاومين من أجل لبنان، وبنضالها الثّاني الرّوحيّ الاجتماعيّ، وبنضالها الثّالث الصّبور في تحمّل آلامها، امتدادًا لآلام المسيح الفادي. لقد ودّعناها مع جميع محبّيها منذ أسبوعين. نذكرها في هذه الذّبيحة الإلهيّة، ونصلّي من أجل عزاء أسرتها.

وإنّا كأبناء لمريم العذراء الكلّيّة القداسة، نسير في موكب الّذين واللّواتي يطوّبونها من أجل عظائم الله فيها، منذ ألفي سنة.

نطوّبها لأنّ الله، في سرّ تدبيره، عصمها من دنس الخطيئة الأصليّة الموروثة من أبوينا الأوّلين، لتكون الأمّ الطّاهرة لابنه الإلهيّ الّذي سيأخذ جسدًا بشريًّا منها، ويتمّ به عمل الفداء. وهي بدورها عَصمت نفسها من أيّ خطيئة شخصيّة بقوّة النّعمة الإلهيّة الّتي كانت تملأها.

نطوّبها لأنّها تحمل اسم "والدة الإله" لكون ابن الله ولج في حشاها واتّخذ منها طبيعته البشريّة، وضمّها إلى طبيعته الإلهيّة في وحدة شخصه الإلهيّ.

نطوّبها، لأنّها كانت بتولاً في أمومتها، وظلّت بتولًا، قبل الميلاد وفيه وبعده. وبذلك هي صورة الكنيسة عروسة المسيح البتول، وأمّ أبنائها وبناتها بالرّوح المولودين أبناء لله وبناتًا من قبول الكلمة الإلهيّة وماء المعموديّة والميرون. وهي مثال المكرّسين والمكرّسات الّذين كرّسوا عفّتهم لملكوت الله.

نطوّبها، لأنّها شريكة ابنها في آلام الفداء، وقد تحمّلتها معه بصبر وتسليم حتّى أقدام الصّليب. وصارت مثالاً لكلّ إنسان يتألّم جسديًّا أو روحيًّا أو معنويًّا، في إشراك آلامه بآلام المسيح من أجل تواصل عمل الفداء.

نطوّبها، لأنّ يسوع من على الصّليب وفي غمرة آلامه وآلام أمه، جعلها بشخص يوحنّا أمَّ الكنيسة الّتي تتمثَّل فيها البشريَّة جمعاء.

نطوّبها أخيرًا لا آخرًا، لأنّ الله نقلها بنفسها وجسدها إلى مجد السّماء، وتوّجَها الثّالوث القدوس، الآبُ وهي ابنته، والابنُ وهي أمُّه، والرّوحُ القدس وهي عروسته، سلطانةَ السّماء والأرض، سيّدةَ العالم والشّعوب، إلى جانب ابنها، ملك الملوك وسيّد السّادة.

أمس، جريًا على عادة أسلافنا البطاركة، احتفلنا بعيد سيّدة الانتقال في الكرسيّ البطريركيّ في قنّوبين بالوادي المقدّس، حيث عاش البطاركة الموارنة مع النّسّاك والمؤمنين مدّة أربعماية سنة في عهد العثمانيّين بدءًا من العام 1440، عاشوا في قنّوبين بالصّلاة وعمل الأرض، وهم بين أرضٍ يتجذّرون فيها، وسماءٍ يتوقون إليها بقداسة حياتهم، ويستمدّون منها قيمهم الرّوحيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة.

عاشوا في قنّوبين مقاومين حقيقيّين ومناضلين أشدّاء من أجل حماية إيمانهم، وحفظ قرارهم الحرّ، وكرامة استقلاليّتهم. لم يشنّوا حربًا على أحد، بل دافعوا عن نفوسهم ببطولة. وقاد البطاركة هذه المسيرة حتّى ولادة دولة لبنان الكبير في أوّل أيلول 1920 بقيادة المكرّم البطريرك الياس الحويّك، وإنجاز الاستقلال الكامل عام 1943 بقيادة البطريرك أنطون عريضه، واستعادة السّيادة عام 2005 بقيادة المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال نصرالله بطرس صفير، واليوم نتطلّع مع ذوي الإرادة الوطنيّة الحسنة إلى تحصين الدّولة والاستقلال والسّيادة بنظام الحياد النّاشط.

في كلّ هذه المساعي، لم تعمل البطريركيّة المارونيّة من أجل الموارنة، بل من أجل لبنان، وكلّ اللّبنانيّين مسيحيّين ومسلمين. فوطننا مبنيّ على التّعدّديّة الثّقافيّة والدّينيّة، وعلى العيش بالمساواة وبالجناحين المسيحيّ والمسلم، وعلى الدّيمقراطيّة والانفتاح والحرّيّات العامّة، كما أقرَّتها شرعة حقوق الإنسان، وعلى الاقتصاد اللّيبراليّ الأخلاقيّ الضّامن لكرامة الشّخص البشريّ.

من هذا المنطلق، والشّعب اللّبنانيّ بأسره والأسرة الدّوليّة سئما أداء الطّبقة السّياسيّة المتحكّمة بمصير لبنان، دولةً وكيانًا وشعبًا، وحجَبا الثّقة بها، إنّ البطريركيّة تطالب بأن يكون كلُّ حلٍّ سياسيّ منسجمًا حتمًا مع ثوابت لبنان ومع تطلّعات اللّبنانيّين ونهائيّة الوطن وهويّته اللّبنانيّة وانتمائه العربيّ وميثاقه الوطنيّ. يجب على كلّ حلٍّ أن يحترمَ الشّراكةَ المسيحيّة- الإسلاميّة بما تمثّل من وحدة روحيّة وثنائيّة حضاريّة من دون تقسيم الدّيانتين وابتداع طروحات من نوع المثالثة وما إلى ذلك.

ثوابت لبنان كلٌّ لا يتجزَّأ. الإنقلاب على جزءٍ هو انقلابٌ على الكلّ. إنّ المسَّ بأسُس الشّراكة هو مسٌّ بالكيان. ونحن متمسّكون بالكيان وبالشّراكة. إنّ تطوير النّظام ينطلق من تحسين آليّات العمل الدّستوري والمؤسّساتيّ لا من تعديل الأديان والشّراكة المسيحيّة الإسلاميّة.

إنَّ أيَّ حلٍّ لا يتضمّن الحياد النّاشط واللّامركزيّة الموسّعة والتّشريع المدنيّ ليس حلًّاً بل مشروع أزمة أعمق وأقسى وأخطر. إنّ البطريركيّة، القويّة بإيمانِها وبشعبها وأصدقائها، تحتفظ بحقّ رفض أيّ مشروع حلٍّ يناقض علّة وجود لبنان ورسالته وهويّته المميّزة.

فلنرفع أفكارنا وعقولنا وقلوبنا إلى أمّنا مريم العذراء، سلطانة الانتقال، ولنسلِّمْها ذواتنا. معها ومع جميع القدّيسين نرفع نشيد المجد والتّعظيم للثّالوث القدّوس الّذي اختارها: الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."