الرّاعي في افتتاح أحد الكلمة وأسبوع الكتاب المقدّس: في هذه الظّروف الصّعبة فلنرجع إلى الكتاب المقدّس
"1. بسلام المسيح، سلام القلب والعقل والضّمير، نحتفل بأحد كلمة الله، مفتتحين أسبوع الكتاب المقدّس، الّذي أوصى به الإرشاد الرّسوليّ للسّعيد الذّكر البابا بندكتوس السّادس عشر الصّادر في أعقاب سينودس "الكنيسة في الشّرق الأوسط" سنة 2012. فيسعدني أن أقيم معكم الاحتفال باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان في رحاب جامعة سيّدة اللّويزة الزّاهرة مشكورة. أحيّي اللّجنة المنبثقة من هذا المجلس، والرّابطة الكتابيّة، وجمعيّة الكتاب المقدّس في لبنان، أشكرهم على تحقيق توصية الإرشاد الرّسوليّ، وعلى اختيار موضوع سنة 2024: "السّلام في الكتاب المقدّس"، وموضوع أحد كلمة الله "سلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم" (يو 14: 27).
وأوجّه تحيّةً خاصّة إلى الشّبيبة في لقائهم الّذي يحييون فيه هذا الاحتفال ونرجو لهم أن تكون كلمة الله النّور الهادي لحياتهم وقراراتهم ودروب حياتهم، وأن يكون سلام المسيح ساكنًا في قلوبهم لينشروه ثقافةً وحضارة في بيئتنا المشرقيّة الّتي لا تعرف سوى الحقد والبغض والقتل والحروب. إنّنا نتطلّع إليكم يا شبابنا لتكونوا كما سمّاكم صديق الشّبيبة القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، "القوّة التّجدّديّة في الكنيسة والمجتمع" عندما زار لبنان سنة 1997 والتقى الشّبيبة في بازيليك سيّدة لبنان.
2. كلمة السّلام في الكتاب المقدّس تختصر كلّ الخيور والنّعم والبركات الّتي يغدقها الله على البشر من جودة محبّته وعنايته. ولذا، نجدها في الكتاب المقدّس 374 مرّة، منها 284 في كتب العهد القديم، و90 مرّة في كتب العهد الجديد. ما يعني أنّ السّلام عطيّة من الله استودعنا إيّاها نحن البشر لننعم بها ونشرك غيرنا بها، ونبني بواسطتها مجتمع سلام مبنيًّا على الحقيقة والعدالة والمحبّة والحرّيّة، كزوايا أربع لأيّ مبنى.
3. في كتب العهد القديم، يتّصف السّلام بمفاهيم وفقًا للأسفار المذكور فيها تارة كسلام تصنعه الشّعوب (قض 4: 17؛ يش 9: 15)، وتارة كسلام بين الأفراد (تك 16: 31؛ أش 54: 13). هذان النّوعان من السّلام بحسب نبوءة أشعيا (2: 4؛ 32: 17) يضعان العالم في حالة سلام تجلب الأمن والازدهار والسّعادة. فتتحوّل الأسلحة إلى أدوات لحياة أفضل: "السّيوف سككًا للفلاحة، والرّماح مناجل للحصاد".
كم نتألّم عندما نرى في بيئتنا الّتي تجلّى فيها سرّ الله أنّ كلّ شيء يتحوّل إلى أسلحة فتّاكة مدمّرة ومبيدة لشعب بأطفاله ونسائه وشبابه! وتبقى كتب العهد القديم ولاسيّما المزامير والنّبوءات تردّد أنّ الله هو الّذي يعطي السّلام للشّعوب إذا تبعوا رسومه ووصاياه (مز 29: 11؛ ملا 2: 5). وبالتّالي لا سلام داخليّ في الإنسان ما لم يعطَ من الله (مز 119: 165؛ أش 26: 3). من لا يملك هذا السّلام الإلهيّ، لا يستطيع أن يعطيه.
4. في كتب العهد الجديد يتبلور مفهوم السّلام لأنّه اتّخذ اسمًا في التّاريخ هو "يسوع المسيح". فعند إعلان ميلاده في مغارة بيت لحم أنشد الملائكة "السّلام على الأرض" (لو 2: 14). والقدّيس بولس الرّسول أعلن لأهل أفسس أنّ "يسوع سلامنا" (أفسس 2: 14) وفي ليتورجيا القدّاس الإلهيّ السّلام المعطى من الكاهن للجماعة هو المسيح إيّاه.
يسوع- السّلام يعطينا سلامًا لا يعطيه العالم. سلامه سلام العقل الثّابت في الحقيقة، وسلام الإرادة الموجَّهة إلى الخير، وسلام القلب المملوء بالمحبّة والمشاعر الإنسانيّة، وسلام الضّمير الّذي هو صوت الله في أعماق النّفس.
لقد أعطانا سلامه بعطيّة الرّوح القدس، وهو السّلام الدّاخليّ والفرح الحقيقيّ. بهذا السّلام تصالحنا مع الله ومع بعضنا البعض (راجع فيل 4: 7).
5. سلام المسيح هو ثمرة الشّركة أيّ الاتّحاد بالله، والوحدة مع جميع النّاس. هذه الشّركة تتصّف بثلاثة أبعاد: الشّركة مع الذّات في داخلنا، والشّركة مع الآخرين، والشّركة مع الله:
السّلام هو ثمرة الشّركة في داخلنا: وهذا ما نسمّيه الاستقامة! حيثما يوجد التّوازن والاتّزان في الدّاخل، يوجد السّلام. توازن بين ما أرغب به وما أفعله، بين ما أفكّر فيه وما أتكلّم به، بين ما أؤمن به وما أحياه في حياتي اليوميّة. هذه الاستقامة في حياتي الدّاخليّة تُولّد فيّ السّلام مع الذّات. وطالما أتمزّق في داخلي بين رغبات متضاربة ومتناقضة، فلن أستطيع أن أجد السّلام في داخلي.
السّلام هو ثمرة الشّركة مع بعضنا البعض: وهذا ما نسمّيه العدالة! والعدالة ليست شعور شفقة أو رحمة، بل هي فضيلة تعكس صورة الإله العادل في حياتي وفي علاقتي مع الآخر. العدالة تدعوني لأن أكون عادلاً في طرقي، في طرق تفكيري، وحديثي، وتصرّفي، وقراراتي. العدالة هي أن أحترم الآخر ككائن حرّ، متمايز، مخلوق على صورة الله ومثاله. العدالة هي الجناح الآخر للسّلام، إنّها تقدير لأهمّيّة الآخر وتعزيز للشّركة الحقيقيّة بين بعضنا البعض. حيثما توجد العدالة، يوجد السّلام!
السّلام هو ثمرة الشّركة مع الله: وهذا ما نسمّيه الإيمان! السّلام الحقيقيّ هو فعل إيمان، ينبع من علاقة وثيقة مع الله مصدر وجودنا وخالقنا. في وقت يبدو العالم المعاصر باذلاً أقصى جهده لقطع ذاته عن الله مصدر وجوده وسلامه، يحيا قلقًا ومضطرب القلب، لأنّ قلبنا، مهما تمرّد، لن يجد راحته ما لم يستقرّ في الإله، مصدر حياتنا ووجودنا، على ما يقول القدّيس أغسطينوس.
6. عندما يولد السّلام في قلب الإنسان، يمكننا عندها أن نجد الأجوبة على المشاكل الّتي تواجه مجتمعنا اليوم. عندها فقط تتحرّك قلوب شبيبتنا وضمائرهم ويطلقون الصّرخة ضدّ اللّامبالاة تجاه المتألّم، وضدّ معاناة الفقراء والمهمّشين. وحين نصبح هذا الكائن المسالم، يمكن لصوت الله أن يرتفع في داخلنا، ويحرّك إيماننا ويدفعنا إلى العمل، فنعمل بعزم على تعزيز ثقافة الحياة، والدّفاع عن كرامة الإنسان منذ أولى لحظات تكوينه في حشا أمّه حتّى انتقاله الطّبيعيّ نحو بيت الآب، ونعمل على استقبال المشرّدين والغرباء، ومؤازرة المرضى، ونفتح آذاننا على صرخة الفقير والمتألّم من نقص العدالة.
7. في هذه الظّروف الصّعبة للغاية الّتي يمرّ فيها لبنان بنتيجة سوء الأداء السّياسيّ، الّذي يبدو مقصودًا لغايات خاصّة وفئويّة ليست لصالح لبنان، فلنرجع إلى الكتاب المقدّس حيث نجد لبنان الملتصق بالوحي الإلهيّ، لكي نستمرّ في الرّجاء، ونعمل على المحافظة عليه، وعلى إنمائه.
لبنان في الكتاب المقدّس مثال على ملكوت السّلام والفرح والازدهار لمن يريد أن يعرف كيف يكون الملكوت. هو أرض الجمال والسّلام والعيش برفقة الله، فهو خطّيبة الله (نشيد الأناشيد 4: 7)، وهو رمز لما يجب أن يكون عليه اتّحاد الأضداد بالمحبّة، وهو رمز التّناغم بين المختلفين دون خلاف؛ وهو بجباله رمز الارتباط بين السّماء والأرض، وبأرزه رمز لاجتماع الكلّ، "ففي أغصانها عشعشت كلّ طيور السّماء، وتحت فروعها وُلدت كلّ وحوش البرّيّة، وفي ظلّها سكنت جميع الأمم العظيمة..." (حز 31 :6).
8. نختم هذه الافتتاحيّة بالدّعاء نرفعه إلى أمّنا مريم العذراء: "مع مريم، أم يسوع وأمّنا، هي الّتي آمنت بكلمة الله وانطلقت نحو المستقبل بالرّجاء والإيمان بقوّة حضور الكلمة في حياتها، ننطلق نحن أيضًا، متّكلين على ربّنا أمير السّلام، لنعمل على بناء حضارة المحبّة والسّلام، حيث لا ظلم، ولا تهميش، ولا عنف ولا قسوة، بل محبّة وعدالة وتعاضد، لنبني معًا حضارة السّلام، وليحلّ ملكوت الله في عالمنا، ملكوت عدالة وأخوّة وسلام، آمين".