لبنان
17 آذار 2025, 06:00

الرّاعي: طريق المسيح يجب أن يكون طريق الدّولة الّتي أولى واجباتها تأمين الخير العامّ

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد شفاء النّازفة، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي.

وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عظة بعنوان: "إيمانك خلّصكِ ... آمن فقط" (لو 8: 48 و 50)، قال فيها:

"1. تحيي الكنيسة اليوم آية شفاء المرأة النّازفة منذ اثنتي عشرة سنة، الّتي أنفقت مالها على الأطبّاء، ولم يستطع أحد شفاءها. هذه أتت خلسة من وراء يسوع بين الجمع الغفير، ولمست طرف ثوبه، فتوقّف للحال نزيف دمها. ولمّا لم يخف أمرها على الرّبّ الّذي سأل: "من لمسني؟ إنّ قوّةً خرجت منّي". جاءت مرتجفة واعترفت لأيّ سبب لمسته. فقال لها يسوع: "تشجّعي يا ابنتي، إيمانك خلّصكِ، إذهبي بسلام" (لو 8: 48).

وتحيي الكنيسة اليوم أيضًا إقامة ابنة يائيروس من الموت. فعندما كان يسوع متّجهًا مع يائيروس رئيس المجمع إلى بيته لشفاء ابنته، وهي في الثّانية عشرة من عمرها، جاءه رسول يقول له: "إنّ ابنتك ماتت، فلا تزعج المعلّم". فقال له يسوع: "لا تخف، آمن فقط، وابنتك تحيا" (لو 8: 50).

2. بهاتين الحالتين تبيّنت قيمة الإيمان وقوّته. الإيمان الصّامت لدى المرأة النّازفة. فهي لم تلتمس شفاءها من يسوع، بل لمست طرف ردائه بإيمان أنّها ستشفى. إيمانها علّمها، وإيمانها شفاها. الإيمان المقتنع لدى يائيروس. آمن بكلام يسوع: " لا تخف، آمن فقط، وابنتك تحيا". صدّق يائيروس كلام الرّبّ، فواصل السّير معه إلى بيته وشاهد آية قيامة ابنته من الموت، بمجرّد كلمة: "يا صبيّة قومي" (لو 8: 54).

إنّهما آية أيّ علامة لنا ولكلّ إنسان يقرأهما. شفاء النّازفة يدلّ على شفائنا ممّا تحدثه الخطيئة فينا من نزيف قيم روحيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة واجتماعيّة، بمجرّد إيماننا بالمسيح القادر وحده على شفائنا. وقيامة ابنة يائيروس من الموت دليل على أنّ المسيح وحده قادر أن يقيمنا ويقيم كلّ إنسان ماتت عنده المشاعر الرّوحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة، أيًّا تكن مظاهر هذا الموت.

3. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا لنحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ولالتماس شفائنا من نزيف قيمنا الرّوحيّة والأخلاقيّة، ومن موت هذه القيم فينا بسبب خطايانا المتراكمة من دون توبة. ولكن أين نلتقي المسيح؟ نلتقيه في أسرار الخلاص السّبعة حيث يمنحنا النّعمة الإلهيّة الّتي تغفر خطايانا في سرّ الّتوبة، ونعمة الحياة الإلهيّة في سرّ الإفخارستيّا، ونعمة الولادة الجديدة أبناء وبنات لله في سرّ المعموديّة، ونعمة هيكل الرّوح القدس في سرّ التّثبيت، ونعمة الشّفاء من خطايانا ومن مرضنا في سرّ مسحة المرضى، ونعمة تقديس الزّوجين في سرّ الزّواج، ونعمة تصوّرنا على صورة المسيح الكاهن في سرّ الكهنوت.

4. الجوّ جوّ إيمان من والد الصّبيّة الّذي "جاء وارتمى على قدميّ يسوع وطلب أن يأتي بيته ويشفي ابنته الوحيدة المشرفة على الموت" (لو 8: 41-42) ومن يسوع الّذي قدّر هذا الإيمان بانطلاقه مع يائيروس. فأدركت المرأة النّازفة بأنّ يسوع القادر أن يشفي الصّبيّة، آمنت بأنّه قادر أن يشفيها هي أيضًا من نزف دمها.

لكنّها لا تستطيع أن تفعل مثلما فعل يائيروس. بل تخفّت وجاءت من ورائه، وسط الجمع المحيط بيسوع، ومسّت طرف ردائه، لإيمانها بأنّها إذا فعلت تشفى. وفي الواقع "وقف للحال نزف دمها"(لو 8: 44).

لماذا تخفّت؟- لأنّ شريعة موسى وَصَفت بالدّنس كلّ امرأة مصابة بنزف دم، ومنعتها من الحضور علنًا بين الشّعب ومن الحياة الاجتماعيّة، ومن لمس أيّ شخص؛ وتمنع أيّ إنسان من لمسها لئلّا يتدنّس (راجع سفر الأحبار الفصل 15 و 17).

5. علّق القدّيس افرام السّريانيّ: "كما أنّ المرأة شهدت بفعلتها للّاهوت يسوع، أراد الرّبّ، بشفائها وإعلان أمرها أن يشهد لإيمانها. وهكذا بشفائه امرأة يراها الجمع، مكّنهم من رؤية لاهوت لا يُرى. تجلّى بالشّفاء لاهوت الابن، وتجلّى به إيمانها. أجل، في هذه الحادثة-الآية، كانت المرأة شاهدة على لاهوت يسوع، وهو كان على إيمانها شاهدًا. لقد خاب سعي الأطبّاء في علاجها، وتألّقت قدرة يسوع. تفوّق الإيمان العظيم على معالجات الطّبّ وفنونه. هذه رسالة لنا ولكلّ مريض متألّم في جسده أو روحه أو معنويّاته أو كرامته. ويبقى المسيح الرّبّ الشّافي والمعزّي والمقوّي، والمتضامن معنا في آلامنا الّتي تصبح خلاصيّة.

6. إنّنا نتساءل: أين عالم اليوم من حقيقة المسيح، في إنسانيّته ولاهوته؟ أين هو من احترام قدسيّة بشريّته وألوهته؟ مهما كان الأمر، يبقى الإنسان، كلّ إنسان، لاسيّما المشوّه بخطيئته وشروره، والميت بنفسه وروحه وضميره، طريق المسيح، وبالتّالي طريق الكنيسة (فادي الإنسان، 14). ويجب أن يكون طريق الدّولة الّتي أولى واجباتها تأمين الخير العامّ، الّذي منه خير الجميع وخير كلّ مواطن، ومن أهمّ عناصر الخير العامّ:

أوّلًا، احترام الشّخص البشريّ بحدّ ذاته في دعوته وحقوقه الأساسيّة، وفي حرّيّاته الطّبيعيّة، وحمايتها والدّفاع عنها.

ثانيًا، إنماء الشّخص البشريّ بكلّ أبعاده الرّوحيّة والإنسانيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة، وتوفير ما يحتاج إليه لحياة كريمة، أيّ الغذاء، والكسوة والصّحّة والعمل والتّربية والثّقافة، والاستعلام الصّحيح، والحقّ في تأسيس عائلة.

ثالثًا، توفير السّلام والعدالة والاستقرار الأمنيّ بواسطة مؤسّسات الدّولة النّظاميّة والأمنيّة (الكنيسة في عالم اليوم 7، شرعة العمل السّياسيّ ص 7).

هذا ما ينتظره الشّعب اللّبنانيّ من السّلطة السّياسيّة الحاليّة الّتي كسبت ثقته وثقة الدّول العربيّة والغربيّة.

7. لنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، لكي يزيدنا الله إيمانًا لنلجأ إليه، ملتمسين شفاءنا من خطايانا بنعمته، فالصّوم هو زمن المصالحة مع الله والنّاس. ونرفع نشيد المجد والشّكر للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."