لبنان
27 أيلول 2021, 05:00

الرّاعي شاجبًا ما يتعرّض له القضاء: لدعم عمل المحقّق العدليّ ليصل إلى الحقيقة

تيلي لوميار/ نورسات
في اليوم العالميّ المئة والسّابع للمهاجرين واللّاجئين، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في كنيسة الدّيمان، ألقى خلال عظة قال فيها على ضوء الآية الإنجيليّة متّى 24: 10: "حينئد يبغض بعضهم بعضًا":

"1. بعد أن تنبّأ الرّبّ يسوع عن خراب هيكل أورشليم، ظنّ التّلاميذ أنّ هذا يعني نهاية العالم ومجيء الرّبّ الثّاني بالمجد. فسألوه عن وقت حدوثه. أمّا جواب يسوع فتناول نتائج هذا الخراب المزمع أيّ: تضليلات وفتن وحروب ومجاعات وظلم وتعدّيات، وجفاف المحبّة في القلوب، "وحينئذٍ يبغض بعضهم بعضًا" (متّى 24: 10).

2. الرّابط بين خراب هيكل أورشليم، المدينة المقدّسة، وهذه المآسي التّاريخيّة الّتي تتواصل من جيل إلى جيل، هو إقصاء الله عن الذّات، وعن حياة الجماعة. وعند ذلك لا حاجة إلى هيكل يُعبد الله فيه بالشّفاه، فيما أعمال الشّرّ وأفكار السّوء والحقد والبغض والحروب تتواصل. كانت علامة خراب الهيكل ونتائجه هذه ما جرى عند صلب يسوع، الإله المتأنّس لخلاص البشر، وموته فوق الخشبة، كما يروي الإنجيليّون: "وصرخ يسوع صرخةً عظيمة وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشقّ شطرين، من فوق إلى تحت، والأرض تزلزلت، والصّخور تشقّقت" (متّى 27:50-51). فلأنّ ربّ الهيكل قُتل، لا حاجة بعد الآن إلى هيكل حجريّ. وهكذا تمّت النّبوءة بعد أربعين سنة على يد الرّومان أيّ سنة 70.

3. إستبدل الرّبّ يسوع الهيكل الحجريّ بالهيكل الشّخصيّ، هيكل كيان الإنسان المؤمن الّذي يصبح "منزل الله" (يو 14: 23)، وهيكل الرّوح القدس (1 كور 6: 19). أمّا كنائسنا الحجريّة فهي المكان الّذي نلتقي فيه الله، وحيث نتقبّل وسائل الخلاص: كلمة الله، ونعمة ذبيحة الفداء، والحياة الجديدة بتناول جسد الرّبّ ودمه، وحيث نعيش شركة البنوّة لأب واحد سماويّ، والأخوّة فيما بيننا وتجاه كلّ الناس.

أجل، إقصاء الله، إقصاء كلامه ووصاياه، ونعمته، والحياة الجديدة، يهدم الهيكل الشّخصيّ مع تأثير هذا الهدم على الحياة الاجتماعيّة والوطنيّة، فتفكّك عراها، وتسود الأنانيّة، والمصلحة الذّاتيّة والرّوح المادّيّة والاستهلاكيّة. وينفرط عقد العائلة الصّغيرة والكبيرة.

4. تحيي الكنيسة في هذا الأحد اليوم العالميّ المئة والسّابع للمهاجرين واللّاجئين. فوجّه للمناسبة قداسة البابا فرنسيس رسالة بعنوان "نحو "نحن"أوسع وأوسع"، يؤكّد قداسته أنّ مشروع الله الخالق هو أن يشكّل البشر على تنوّعهم عائلة بشريّة واحدة، ويؤلّفون معًا الـ"نحن" الّذي يجب أن يصبح أوسع وأوسع بتكاثر الأجيال. فقد خلقنا الله على صورته، على صورة كيانه الواحد والثّالوث، لنكون شركة في التّنوّع.

5. سمعتم أن فجر أمس دخل لصوص كاتدرائيّة مار مارون في بيونس أيرس- الأرجنتين، ونهبوا محتوياتها الثّمينة المتنوّعة، حتّى أنّهم دنّسوا جسد الرّبّ، إذ فتحوا بيت القربان، وسرقوا الكؤوس ورموا القربانات المقدّسة أرضًا. إنّنا ندين مع سيادة أخينا المطران يوحنّا حبيب شاميّة، راعي الأبرشيّة، ومع أبنائنا الآباء المرسلين اللّبنانيّين الموارنة، ومع كلّ المؤمنين، هذا التّدنيس والتّعدّي على جسد الرّبّ، وعلى هيكل الله، ونقيم هذه الذّبيحة المقدّسة تعويضًا وتكفيرًا عن هذا الشّرّ التّدنيسيّ. وقد علمنا أنّ قدّاسًا مماثلًا يحتفل به اليوم راعي الأبرشيّة بحضور رئيس الوزراء الجديد المارونيّ واللّبنانيّ الأصل الدّكتور خوان منصور، وبحضور أبناء الجالية المارونيّة واللّبنانيّة والمؤمنين المحليّين بيونس أيرس.

6. عندما أقصى الإنسان الله، عاد ربّنا فصالحه بكثرة رحمته الأسرة البشريّة كلّها، كلّ الشّعوب. وهذا كشفه على لسان يوحنّا الرّسول في رؤياه: "هوذا مسكن الله مع النّاس، يسكن الله معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله معهم يكون لهم إلهًا" (رؤيا 21: 3).

ويقول البابا فرنسيس: "يتبيّن لنا في الوقت الحاضر أنّ الـ"نحن" الّتي أرادها الله هي اليوم محطّمة ومشرذمة ومجرَّحة ومشوّهة. وهذا ظاهر في القوميّات المنغلقة والعدوانيّة والفرديّة المتطرّفة. والثّمن الأغلى يدفعه أولئك الّذين يصبحون "الآخرين"، وهم الغرباء والمهاجرون والمشرّدون والمظلومون والمهمّشون الّذين يعيشون في الضّواحي الوجوديّة.

7. ويقول البابا فرنسيس في رسالته لنحقّق الشّركة في التّنوّع، والتّوفيق بين الاختلافات، من دون أن نفرض أبدًا توحيدًا يزيل سمة الشّخصيّة عن أيّ واحد أو جماعة. هذه بالحقيقة ميزة لبنان وهو بحاجة إلى استعادتها.

فمنذ إنشاء دولة لبنان، كانت ميزته التّعدّديّة الثّقافيّة والدّينيّة، أيّ شركة في التّنوّع. وهذا واضح في دستور الجمهوريّة الأولى سنة 1926 وجاء الميثاق الوطنيّ سنة 1943 ليعبّر عن هذه الشّركة في التّنوّع بكلمة العيش المشترك الّذي أدخل في مقدّمة دستور الجمهوريّة الثّانية سنة 1990 بعد اتّفاق الطّائف (1989).

إنّ سوء الأداء السّياسيّ والخيارات السّياسيّة الخاطئة، وعدم الولاء للوطن، والاستقواء بالخارج، شوّه هذه الميزة عندنا، وأوصل البلاد إلى الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والاجتماعيّة والأمنيّة الخانقة.

8. يتطلّع الجميع إلى الحكومة الجديدة رابطين تأييدهم لها بتخفيفها معاناة الشّعب، وحلّ مشاكل الحياة اليوميّة، وإطلاق الإصلاحات، وتصدّيها لكلّ ما ينال من سيادة الدّولة وهيبتها وحرمة حدودها. مسؤوليّتها أن تُحيي الأملَ بلبنانَ الواحِد في إطارِ الحِياد، واللّامركزيّةِ الموسّعةِ، والتّفاعلِ الحضاريِّ بين مُكوِّناتِه تحت سقفِ دولةٍ حرّةٍ ومستقِلَّةٍ ومستقِرّة. وفي هذا الإطارِ من واجب الحكومة أن تُحِّركَ المؤسّساتِ والأجهزةَ للقيامِ بواجباتِها حثيثًا، فالأمر الواقع بات يهدّد وحدة لبنان وصيغة الشّراكة الوطنيّة.  

لقد نَظرنا جميعًا بثقةٍ إلى المحادثاتِ الّتي جَرت في باريس منذ يومين، وثمَّنا موقفَ الرّئيسِ الفرنسيّ إيمانويل ماكرون الصّامِد تجاه لبنان والدّاعمِ إيّاه في المحافل الأوروبيّةِ والدّوليّةِ، كما أكّد لرئيس الحكومة السّيّد نجيب ميقاتي. ويبقى على الحكومةِ اللّبنانيّةِ أن تفيَ بالتزاماتِها الإصلاحيّة لكي يتحوّلَ هذا الدّعمُ إلى فعل حسيِّ وتأتي لبنان المساعدات الموعودَة.

9. إنّ شعب لبنان بحاجة إلى ثروته المثلّثة: التّربيّةِ والتّعليمِ والثّقافة. هذه الثّلاثيّةُ كانت في أساسِ وجودِ لبنان المميّز في الشّرقِ الأوسط. وما بدأ لبنانُ يتهاوى إلّا مع كسوفِ هذه الثّلاثية. إنّ أحد نتائجِ إفقارِ اللّبنانيّين، وهذا ما يرجوه البعض، أنْ يُصبحوا عاجزين عن التّحصيلِ العلميّ، وعن اتّباعِ مناهجَ تربويّة متطوِّرة، وعن شِراءِ الكتبِ والاطّلاعِ على الثّقافةِ العالميّة فَيُحاصَرونَ في ثقافةِ هي أقربُ إلى الجَهالةِ منها إلى المعرفة.  

لذلك أوّل واجبات الدّولة، قبل سواها، دعمُ قطاعِ التّربيّةِ والتّعليمِ فورًا بإطلاق المدارس والجامعات، وتوفيرُ الكتبِ العالميّةِ بأسعارٍ تشجيعيّةٍ من خلالِ اتّفاقيّات ثقافيّةٍ مع الدّولِ الصّديقة، وتأمين مساعدات ماليّة تمكّن الأهل من دفع الأقساط المدرسيّة، ومن اختيار المدرسة الّتي يريدونها لأولادهم. وواجب الدّولة أن تساعد أصحابَ المدارس الخاصّة، ولاسيّما الكاثوليكيّة منها على حسن التّعاون مع أهالي التّلامذة والمعلّمين، والتَّصُّرفِ على أساسٍ إنسانيٍّ أوّلًا. فجميعُنا يَمُرّ في ظروفٍ صعبةٍ تُحتِّمُ أن نتضامنَ بعضُنا مع البعضِ الآخر.

10. إنّنا ما زلنا نعيش في عمق قلوبنا مأساة أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت الـ208 والأكثر من ستّة آلاف جريحًا، ومئات العائلات الّتي تشرّدت، والمنازل الّتي تهدّمت. ونطالب اليوم وكلّ يوم بكشف الحقيقة وحسن سير العدالة.

ومع ذلك نشجب التّعرّضَ للقضاءِ بهدفِ تعطيلِ التّحقيقِ. ويجدرُ بأركان الدّولةِ اللّبنانيّة أن يستنكروا ما يَتعرّضُ له القضاءُ، ويَدعموا عملَ المحقّقِ العدليّ ليصلَ إلى الحقيقة. كما نعترضُ على الكيلِ بمكيالين لجهة المدعوّين للتّحقيق معهم. كم كنّا نتمنّى لو أنّ جميع الّذين يتمتّعون بحصانة سارعوا ورفعوها عنهم طوعًا أمام هول الكارثة الّتي تُعدّ ثاني كارثة عالميّة بعد هيروشيما.

11. إنّنا نكل إلى رحمة الله واقعنا اللّبنانيّ، ونصلّي لكي يعود الجميع إلى الله، فنعيش جمال البنوّة له والأخوّة بعضنا إلى بعض. له المجد والتّسبيح، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."