الراعي : الكنيسة حاجة للإنسان والعائلة والمجتمع والدولة لتنيرهم بالحقيقة المؤتمنة عليها
1. عندما أعلن سمعان في قيصريّة فيليبّس إيمانه "بالمسيح ابن الله الحيّ"، جعله الربّ يسوع صخرة بنى عليها كنيسته المقدّسة، وسمّاه بطرس. في هذا الأحد تحتفل الكنيسة بعيد تقديسها الذي نفتتح به السنة الطقسيّة. وهي سنة نتأمّل أثناءها، على مدى اثني عشر شهرًا، في أسرار المسيح الخلاصيّة: التجسّد والفداء والتقديس. وتقيم اليوم عيدَها مؤسّسةُ Apostolica التي أنشأها ويرئسها سيادة أخينا المطران عاد أبي كرم، راعي أبرشيّة أوستراليا السابق. وهي تهدف إلى إعلان الإنجيل لمسيحيِّي الشَّرق الأوسط، بحيث يقرأونه قراءة متجدّدة، ويسلّطون ضوءه على التحدّيات المعاصرة، من أجل استشراف آفاق جديدة، وعيش رجاء جديد، وتأمين حضور فاعل ومتفاعل في محيطهم الشرق اوسطي. وبالمناسبة تطلق Apostolica مشروع ثقافة القداسة.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة التي يتجلّى فيها سرُّ قداسة الكنيسة، والتي منها مصدر تقديسنا، على أساس من الإيمان بيسوع المسيح ابن الله الذي أرسله الآب لخلاصنا بموته وقيامته، ولتقديسنا بروحه القدوس. ويطيب لي أن أرحّب بكم، وبخاصّة بأسرة Apostolica. كما أرحّب بسموّ الأمير Charles Emmanuel de Bourbon Parme وزوجة سموّ الأميرة Constance، والسيدة جينا فنيانوس رئيسة لجنة Bal International des Débutantes لعام 2017. وتندرج هذه الزيارة في اطار الاحتفال الدولي العشرين بسهرة أُقيمت أمس السبت، ويُخصَّص ريعها لتقديم سيارة إسعاف للصليب الأحمر اللبناني. إنّنا نشكرهم على هذه المبادرة الكريمة، وندعو لهم بكلّ خير. ونعرب في المناسبة عن تقديرنا للصليب الأحمر، رئيسًا وإدارة ومتطوّعين، على ما يقومون به من خدمات صحّية واجتماعية.
3. اليوم، نعلن مع سمعان بطرس إيماننا بالمسيح ابن الله. وبهذا الإيمان نعلن إيماننا أيضًا بالكنيسة، جماعة المؤمنين المدعوّين، التي أسّسها المسيح الربّ على صخرة الإيمان، مشبِّهًا إيّاها ببيت مبني على صخر، فلا تقوى عليها رياح الشّر والاضطهاد والاعتداء، سواء أتت من الداخل أم من الخارج. ذلك أنّ الكنيسة، كجماعة المؤمنين، هي سكنى الله الذي يقدّسها بحضوره فيها. أمّا الكنيسة الحجرية بثوبها البهي وبمحتواها الإلهي أعني: كلامَ الله في الكتب المقدّسة، وذبيحةِ الفداء، ووليمةَ جسد الربّ ودمه، وعملَ الروح القدس، فهي تجسيدٌ لقداسة الكنيسة، التي هي جسد المسيح السّرّي، وهو رأسه. ويسمّيه القديس أغسطينوس "المسيح الكلِّي".
إلى هذه الكنيسة المقدّسة نحن ننتمي بالمعمودية والميرون والقربان، وبالتالي مدعوّون للقداسة، بدعوة شاملة وشخصيّة من المسيح نفسه: "كونوا قدّيسين، كما أبوكم السماوي قدّوس هو" (متى5: 48).
4. تطلق اليوم مؤسّسة Apostolica مشروع "ثقافة القداسة" الذي تبثّه على شاشة "تلي لوميار/نورسات". يهدف هذا البرنامج الأسبوعي "إلى مساعدة المؤمنين وتشجيعهم وتثقيفهم على أهمّية حياة القداسة، وإمكانيّة عيشها وتجسيدها في حياتهم اليوميّة".
إنّنا نهنِّئ Apostolica على هذا المشروع الذي يشكّل حاجة دائمة لجميع الناس: للمؤمنين كي ينموا في حياتهم الروحيّة، ويقدِّسوا حياتهم من خلال أعمالهم وأتعابهم، وأفراحهم وأحزانهم، وتطلّعاتهم وآمالهم؛ للغرقى في شؤون الأرض ومادّياتها واستهلاكيّاتها وظلمها واستبدادها وانحرافاتها الأخلاقيّة، كي يرتفعوا من مستنقعاتهم إلى قمم الروح؛ للبعيدين عن الكنيسة، لأيّ سبب، كي يستمدّوا الإيمان بها، ويقتربوا من ينابيعها التي تروي عطشهم، وتعطي معنى لحياتهم، وتهديهم إلى دروب القداسة.
5. هذه الكنيسة المقدّسة هي "عمود الحقّ ودعامتُه" (1طيم3: 15)، كما يسمِّيها بولس الرسول. رسالتُها إتمام إرادة الله، وهي "أن يبلغ جميع الناس إلى معرفة الحقيقة، وينالوا الخلاص" (1طيم2: 4). هذه الحقيقة التي تعلنها الكنيسة، وقد تلقّتها من المسيح ومن انوار الروح القدس، إنّما هي "حقيقة تحرِّر" (يو8: 32)، "وحقيقة تجمع".
يعيش عالمُ اليوم أزمة حقيقية، ذلك أن بعضًا اعتمدوا نهج الكذب والتضليل؛ وبعضًا انخرطوا في تيّار النسبيّة، بحيث أضحت الحقيقة عندهم تلك التي يرونها هم وفقًا لمصالحهم وقناعاتهم ونظراتهم إلى الحياة، من دون أن يرجعوا إلى الحقيقة المطلقة التي أعلنها المسيح الربّ عن الله والإنسان والتاريخ، والتي تعلّمها الكنيسة؛ وبعضًا يشكِّكون في كلّ شيء لامتلائهم من ذواتهم؛ وبعضًا لا يريدون معرفة الحقيقة، ربما لأنّهم يخافون منها، مثل بيلاطس الذي، عندما قال له يسوع: "أنا وُلدت وجئت إلى العالم حتى أشهد للحقّ. فمَن كان من أبناء الحقّ يستمع إلى صوتي"، وسأل يسوعَ: "ما هو الحقّ؟ خرج للحال ، من دون أن يسمع الجواب، خوفًا من الحقيقة (راجع يو18: 37-38).
6. الكنيسة حاجة للإنسان والعائلة والمجتمع والدولة، لتنيرهم بالحقيقة المؤتمنة عليها، والتي تعلنها فيحسنوا العيش والتصرّف وإداء الواجب وممارسة السلطة. الحقيقة تنقّيهم من ظلمة الشّر، والظلم والإهمال والفساد والاستبداد والاستكبار.
في الحياة العامّة، الدستور والميثاق الوطني والقوانين نورٌ يبدّد ظلمة المخالفة لنصّه وروحه، ولميزة لبنان في تعدّديته السياسيّة والإدارية، فلا يجرّه أي فريق إلى حيث لا يريد سواه، ولا تُحكم البلاد بالمحاصصة والاستئثار والإقصاء من قِبل نافذين؛ ولا تَسْلَم السّيادة السّياسيّة، إذا كان ولاء فريق لبلد خارجي، وفريقٍ ثانٍ لبلد آخر على حساب لبنان.
7. لقد أسفنا جدًا لاستقالة دولة رئيس الحكومة الشّيخ سعد الحريري الّتي أعلنها بالأمس، وللظّروف الّتي قادته إليها. ونخشى تداعياتها على الاستقرار السّياسي وما يرتبط به من نتائج. فإنّنا نضمّ صوتنا إلى صوت فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، داعين إلى حماية الوحدة الوطنيّة وتعزيزها، وإلى التّروّي في اتّخاذ القرارات، وتجنيب البلاد أيّة أزمة سياسيّة وأمنيّة تأتي من النّزاعات والحروب الدّائرة في المنطقة. ينبغي أن تكون المصلحة الوطنيّة العليا فوق كل اعتبار، فتُطفئ الأحقاد، وتليّن المواقف المتعنّتة، وتوقف ردّات الفعل المضرّة.
ويجب التنبّه، بالوعي الكامل، إلى أيّة مكيدة أو أي مخطّط تخريبي يهدف إلى ضرب الإستقرار في الوطن، أو إلى استدراجه للإنخراط في محاور إقليميّة أو دوليّة، لا تتلأم وطبيعته وقيمه ودوره كعنصر تعاون واستقرار وعيش مشترك في محيطه الشّرق أوسطي.
في كل ذلك نرفع صلاتنا الى الله لكي يجنبنا كل شرّ. ونرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *