الرّاعي: العدالة وحقوق الإنسان والشّعوب تأتي عن طريق السّلام النّابع من الله وقلب الإنسان
"1. في هذا الأحد الّذي يلي عيد الميلاد، تحتفل الكنيسة بعيد العائلة المقدّسة: يوسف ومريم ويسوع. وفيها اعتلان لبنوّة يسوع الإلهيّة، ولدخول العائلة المسيحيّة في تصميم الله الخلاصيّ، ولرسالتها الخاصّة كمدرسة طبيعيّة لنموّ أولادها الجسديّ والثّقافيّ والرّوحيّ، ولإدراجهم في حياة الكنيسة هيكلًا وجماعة مؤمنة. هذا ما أوحاه وجود يسوع إبن الإثنتي عشرة سنة في الهيكل، وبقاؤه ثلاثة أيّام بين العلماء (راجع لو 2: 46).
2. نلتقي معًا للإحتفال بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ونحن في اليوم الأخير من سنة 2023. فنشكر الله عليها بحلوها ومرّها، ونشكره على كلّ النعم والبركات والخيرات الّتي أغدقها علينا، وعلى أنّه حفظنا في نعمة الوجود على الرّغم ممّا سادها من قتل وعنف وحرب ونزاعات وميتات في غير مكانها. فإذ أرحّب بكم جميعًا، أدعوكم لرفع صلاة الشّكر هذه، سائلين الله أن يبارك العام الجديد 2024 ويجعله سنة خير وسلام.
وإذ أرحبّ بكم جميعًا، أودّ التّرحيب بسيادة أخوينا المطران أنطوان شربل طربيه، راعي أبرشيّة أوستراليا ونيوزيلندا وأوقيانيا المارونيّة، والمطران سيمون فضّول راعي أبرشيّة أفريقيا الغربيّة والوسطى، والزّائر الرّسوليّ على موارنة أفريقيا الجنوبيّة، وبالوفد المرافق. وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة نسيبنا بالمصاهرة المرحوم نقولا الياس أبو مراد، الّذي ودّعناه منذ ثلاثة أسابيع مع زوجته وابنه وبناته وسائر أنسبائه. كما نوجّه تحيّةً لعائلة المرحوم جوزف الشّرتوني، الشّاعر والأديب والصّحافيّ. وقد ودّعناه مع أشقّائه وشقيقتيه وأنسبائه وأهالي شرتون العزيزة. إنّنا نذكره مع المرحوم نقولا في هذه الذّبيحة الإلهيّة راجين لهما الرّاحة في الملكوت السّماويّ ولأسرتيهما العزاء.
3. إنّ ذكرى وجود الصّبيّ يسوع في هيكل أورشليم وما أحاط بهذا الحدث يكشفان ميزات العائلة المسيحيّة الأربع:
الأولى: إنّها كنيسة بيتيّة مصغّرة تعيش الأحداث اللّيترجيّة المرسومة، لا بحسب أمور الشّريعة فقط، بل بداعي مقتضيات الإيمان وإنعاشه وتغذيته. هكذا "كانت عائلة النّاصرة تذهب في كلّ سنة في عيد الفصح إلى أورشليم" (لو 2: 41). هذه الزّيارة كانت متعبة لأنّها تستدعي مسيرة ثلاثة أيّام.
الثّانية: إنّها كنيسة بيتيّة تندرج في تصميم الله الخلاصيّ، كما يظهر من جواب يسوع لأبيه وأمّه: "أما تعلمان أنّه ينبغي لي أن أكون في ما هو لأبي؟" (لو 2: 49). بهذا الجواب نشهد ظهورًا إلهيًّا، إذ أعلن إبن الإثني عشرة سنة أنّه "إبن الله"، محدّدًا الفرق بين "أبيه بالطّبيعة الإلهيّة" و"أبيه بالشّريعة" الّذي هو يوسف، وتقول مريم عنه "أبوك". وأعلن أيضًا رسالته الإلهيّة وهي طاعته للآب وتدبيره، وهي فوق كلّ سلطة بشريّة أخرى.
الثّالثة: أنّها كنيسة تتألّم من أجل المسيح فتكتسب آلامها قيمة فداء. عندما أضاع يسوع أبواه ثلاثة أيّام تألّما ألمًا شديدًا، وهما يبحثان عنه، وتعذّبهما الأفكار السّلبيّة بشأنه: هل خطفه أحد وقتله؟ هل افترسه وحش؟ وسواها من الأفكار المؤلمة. ولمّا وجداه في هيكل أورشليم بين العلماء فرحا فرحًا عظيمًا وارتياحًا، ولاسيّما عندما سمعا باندهاش كلام الحكمة والعلم الصّادر عنه.
الرّابعة: إنّها كنيسة تمتلئ من الحكمة الإلهيّة وتربّي عليها. فمشاركة العائلة المسيحيّة في اللّيترجيا الإلهيّة أيّام الآحاد والأعياد، تتيح لها أن تسمع كلام الحكمة الإلهيّة وتغتذي منها وتنمّي إيمانها. فالمكان الّذي منه يُقرأ كلام الله (نصّ من العهد القديم، رسالة من العهد الجديد، والإنجيل) يُسمّى بالسّريانيّة "بيما" أيّ المكان الّذي تُعلن منه كلمات الحكمة الإلهيّة.
4. على هذا الأساس، عاد يسوع مع أبويه إلى النّاصرة، "وكان خاضعًا لهما، وينمو في الحكمة والقامة والنّعمة عند الله والنّاس" (لو 2: 52). أمضى ثلاثين سنة في الحياة العائليّة عاملًا بيديه في حقل النّجارة مع أبيه، خاضعًا هكذا لشريعة العمل، وكاسبًا خبزه بعرق الجبين. فقدّس العمل بالقيم الرّوحيّة والأخلاقيّة الّتي أتمّه بها، وتقدّس بهذا العمل. وبهذا دعا الجميع إلى التّحلّي بالخلقيّة والشّفافيّة والتّجرّد وطيب السّخاء في العطاء، وإلى التّحرّر من الفساد والسّرقة والاغتناء غير المشروع. وبعد أن امتلأ يسوع روحانيّة وإنسانيّة ومحبّة وحنانًا ورحمة، إنطلق إلى رسالته الخلاصيّة.
5. أنشأ الله العائلة من زواج رجل وامرأة منذ بداية الخلق والتّاريخ البشريّ. فكانت العائلة أوّل مجتمع منظّم بشرائع ورسوم منها الموحاة كتابةً، ومنها المكتوبة في صميم الطّبيعة البشريّة. وأرادها الخالق مدرسةً طبيعيّةً أولى تربّي على الحبّ النّقيّ والعاطفة والإنسانيّة والصّدق في قول الحقيقة واحترام الآخر المختلف والانفتاح على الغير والتّربية على البنوّة لله وللأخوّة الإنسانيّة الشّاملة، وروح التّضامن والتّكامل. وتربّي خاصّةً على محبّة الوطن والتّفاني في سبيله. هذه العائلة هي في عهدة الكنيسة والدّولة والمجتمع، محلّيًّا وعالميًّا.
6. لقد أفسدت الخطيئة صورة العائلة وطبيعتها وانسجام حياتها. فنرى الحقد والبغض والكراهيّة في الأعمال والمواقف والأقوال. ونجد الحروب والنّزاعات والقتل والتّهجير بسبب غطرسة وكبرياء الممسكين بزمان الحكم، وهم يبعدون الله الخالق ويجلسون مكانه، ويُنصِّبون ذواتهم أسياد الحياة والموت.
من هذا المنطلق، لا نستطيع إيجاد كلمات لإدانة حرب إسرائيل المتعجرفة والمتباهية بأسلحتها المتطوّرة الموهوبة لها، على شعب غزّة بأطفالها ونسائها ومسنّيها في بيتوتهم الآمنة والمستشفيات والمساجد والكنائس. وقد فاق عدد القتلى الإثنين وعشرين ألفًا ما عدا آلاف المفقودين تحت الأنقاض. إنّ إله أرباب هذه الحرب هو صنم السّلاح والقتل والهدم وإراقة الدّماء.
والإدانة الكبيرة نوجّهها إلى المجتمع الدّوليّ الصّامت والخجول أمام هول هذه الحرب الإباديّة المنظّمة، وقتل المدنيّين العزّل المبرمج، وصمتهم إمّا خوفًا، وإمّا خجلًا، وإمّا تأييدًا. ولكن ظنًّا من إسرائيل والمجتمع الدّوليّ الصّامت أنّ بهذه الحرب تُصفّى القضيّة الفلسطينيّة ويُنتهى من المطالبة بحلّ الدّولتين وعودة اللّاجئين إلى أرضهم. فإنّهم بالحقيقة مخطئون. فالظّلم يولّد ظلمًا، والحرب حربًا. وأمّا العدالة وحقوق الإنسان والشّعوب فتأتي عن طريق السّلام النّابع من الله وقلب الإنسان.
7. ونرفض امتداد هذه الحرب إلى جنوب لبنان، فيجب إيقافها وحماية المواطنين اللّبنانيّين وبيوتهم وأرزاقهم، فهم لم يخرجوا بعد من نتائج الحرب اللّبنانيّة المشؤومة. ونطالب بإزالة أيّ منصّة صواريخ مزروعة بين المنازل في بلدات الجنوب الّتي تستوجب ردًّا إسرائيليًّا مدمّرًا. أهذا هو المقصود؟ فليحترم الجميع قرار مجلس الأمن 1701 بكلّ بنوده لخير لبنان. ونأسف للصّدامات الثّلاثة الاعتدائيّة على القوّات الدّوليّة في غضون ساعات وعلى التّوالي في كلّ من بلدة الرّماديّة، وبلدة الطّيبة الحدوديّة، وبلدة كفركلا الأماميّة، بهدف الحدّ من تحرّكها. ونوجّه بالمقابل الشّكر تكرارًا للدول المشاركة في هذه القوّات الدّوليّة لحفظ السّلام في الجنوب.
8. في هذا السّياق ندين الحملة التّحريضيّة والمسيئة والخارجة عن الأخلاق والحقيقة الّتي وُجّهت في الأسبوع المنصرم إلى سيادة أخينا المطران موسى الحاج رئيس أساقفة حيفا والأراضي المقدّسة إنّه السّادس في سلسة المطارنة الّذين تعاقبوا على الأبرشيّة وعرفناهم شخصيًّا وهم البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي، والمطارنة: ميخايل ضوميط ويوسف الخوري ومارون صادر وبولس الصّيّاح. ولنا رعايا مارونيّة عديدة في فلسطين المحتلّة. إنّ سيادة المطران موسى الحاج يسير على نهجهم في إدارة الأبرشيّة والحكمة في التّعاطي مع سلطة الأمر الواقع. إنّنا نرفض وندين كلّ ما كُتب بحقّه في وسائل التّواصل الاجتماعيّ أو قيل كذبًا في محطّات التّلفزة والإذاعات، وما سُمّي "إخبارًا" كلّ هذه تمسّ بشخص هذا الأسقف المارونيّ الوقور وكرامته الأسقفيّة وفينا شخصيًّا "كأب ورأس" للكنيسة المارونيّة، وتستوجب الملاحقة القضائيّة لأصحابها المغرضين.
ومعلومٌ أنّ سيادة المطران موسى الحاج لم يكن مشاركًا في الزّيارة للرّئيس الإسرائيليّ، لانشغاله في مكان آخر في الأبرشيّة. فلو عرف هذه الحقيقة ولم يتجاهلها عمدًا، ذاك المدعوّ "أمين سرّ لقاء مستقلّون من أجل لبنان"، لوفّر على نفسه كتابة مقالته الكاذبة المنشورة في إحدى الصّحف، ولإستحقّ الملاحقة القضائيّة بسبب قدح وذمّ مجّانيّ بحقّ أسقف يستحقّ كلّ الكرامة.
9. إنّ العائلة كمدرسةٍ طبيعيّة تربّي على محبّة الوطن. بالطّبع ليس على هذه المحبّة تربّى محبّو الفوضى والنّفوذ، وناقضو الدّستور، ومعطّلو انتخاب رئيس للجمهوريّة اللّبنانيّة، ومعه تعطيل انتظام المؤسّستين الدّستوريّتين: المجلس النّيابيّ والحكومة وكوادر الإدارات العامّة والقضاء والأجهزة العسكريّة. إلى متى يستمرّ هذا التّعطيل؟ يقولون: القضيّة عند الموارنة. هذا غير صحيح، بل القضيّة عند المجلس النّيابيّ ورئيسه. فالموارنة يؤمنون بالدّيمقراطيّة وهي ثقافتهم، ويتقيّدون بمقدّمة الدّستور الّتي تنصّ على أنّ "لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة" (ج)، ويقتضي انتخابًا ديمقراطيًّا. إنّ المرشّحين الموارنة ممتازون، فلينتخب المجلس النّيابيّ واحدًا منهم، إذا كان حقًّا سيّد نفسه!
10. لنصلِّ أيّها الإخوة والأخوات من أجل حماية العائلة وصون دورها التّربويّ لمجد الله وتسبيحه: الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".