لبنان
24 كانون الثاني 2022, 06:00

الرّاعي: الإصلاح الاقتصاديّ يبدأ بإصلاحِ النّهجِ السّياسيّ والوطنيّ لا بتكبيد الشّعب ضرائب غبّ الطَّلب

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الثّالث بعد الدّنح، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي في كنيسة الصّرح البطريكريّ- بكركي، قدّاس "يوم كلمة الله"، مفتتحًا في الوقت عينه "أسبوع الكتاب المقدّس" الّذي تنظّمه اللّجنة الأسقفيّة اللّاهوتيّة الكتابيّة وجمعيّة الكتاب المقدّس تحت عنوان "الشّركة في الكتاب المقدّس".

وللمناسبة، ألقى الرّاعي عظة جاء فيها:

"1. حدّث الرّبُّ يسوع نيقوديموس، رئيس اليهود، الّذي جاء ليلًا يعلن إيمانه به، عن المعموديّة الأسراريّة من الماء والرّوح، وسمّاها ولادة من جديد، تُدخل المعمَّد في سرّ الملكوت الّذي هو الكنيسة، جسد المسيح السّرّيّ. إنّ هذه الولادة الجديدة تتمّ أيضًا بمعموديّة الشّوق، الّتي أساسها الإيمان كما هو أساس المعموديّة الأسراريّة، حسب قول الرّبّ يسوع: "من آمن واعتمد يخلص" (مر 16: 16).

2. يسعدنا أن نرحّب بكم جميعًا، مع تحيّة خاصّة إلى "مجموعة الشّابّات والشّبّان" الّذين منذ ثلاث سنوات يؤلّفون جماعة تلتزم بالإيمان المسيحيّ والممارسة الدّينيّة أيّام الآحاد والأعياد، ويقيمون علاقات توعية مع أقرانهم الشّباب، ويحملون هموم الوطن في مصيره، وهموم اللّبنانيّين الاقتصاديّة والمعيشيّة والمادّيّة، وهموم الشّباب الّذين لا يفكّرون إلّا بهجرة الوطن. إنّنا نبارك آمالهم وتطلّعاتهم.

3. في هذا الأحد الثّالث بعد الدّنح نحتفل "بيوم كلمة الله" وفقًا لقرار قداسة البابا فرنسيس ومجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. ونفتتح في الوقت عينه "أسبوع الكتاب المقدّس" الّذي تنظّمه اللّجنة الأسقفيّة اللّاهوتيّة الكتابيّة، وجمعيّة الكتاب المقدّس. وموضوعه "الشّركة في الكتاب المقدّس".

علّم القديّس إيرونيموس أنّ "الكتاب المقدّس هو كتاب شعب الله. بالإصغاء إليه يُنقل هذا الشّعب من الانقسام إلى الوحدة. فكلمة الله توحّد المؤمنين وتجعلهم شعبًا واحدًا". وعلّم أيضًا أنّ "من يجهل الكتاب المقدّس، يجهل الله". وعلّم آباء المجمع الفاتيكانيّ الثّاني أنّ "الكنيسة تكرّم الكتب المقدّسة، مثلما تكرّم جسد المسيح نفسه. فهي في اللّيتورجيا المقدّسة، تتغذّى بخبز الحياة من كلا المائدتين، مائدة كلمة الله، ومائدة جسد المسيح" (كلمة الله، 21). فلنجلس، نحن أيضًا في كلّ يوم أحد إلى هاتين المائدتين المهيّأتين لنا من جودة الله ومحبّته.

4. عندما أعلن نيقوديموس إيمانه بيسوع، اقتبل معموديّة الشّوق. تعلّم الكنيسة في كتاب التّعليم المسيحيّ: "معموديّة الشّوق هي أنّ كلّ إنسان يجهل إنجيل المسيح والكنيسة، لكنّه يبحث عن الحقيقة ويصنع إرادة الله وفقًا لفهمه لها، يستطيع أن يخلص. ذلك أنّه يوجد لديه إرادة ضمنيّة وشوق لقبول المعموديّة لو استطاع إليها سبيلًا أو أدرك ضرورتها" (فقرة 1260). وتعلّم أيضًا أنّ "كلّ الّذين عاشوا بموجب إلهامات النّعمة الإلهيّة باحثين عن الله وباذلين جهدهم لإتمام إرادته، إنّما يخلصون بالمسيح ولو لم يعتمدوا" (المرجع نفسه 1281، الدستور العقائديّ "في الكنيسة"، 16).

5. يدخل المعمّد، سواء بمعموديّة الشّوق أم بالمعموديّة الأسراريّة، في عمق الشّركة مع الله، الّتي تمحو منه الخطيئة الأصليّة وخطاياه الشّخصيّة، وتجعله عضوًا حيًّا في الكنيسة، جسد المسيح السّرّيّ، وهو مدعوّ ليعيش بحسب مقتضيات الرّوح الإلهيّ الّذي ناله، "فالمولود من الجسد هو جسد، والمولود من الرّوح هو روح"(يوحنّا 3: 6). كشف بولس الرّسول أنّ هذه المقتضيات هي: "المحبّة والفرح والسّلام والأناة واللّطف والصّلاح والثّقة والوداعة والعفاف" (غلاطية 5: 22-24).

6. علّم القدّيس توما الأكوينيّ أنّ أسرار الكنيسة السّبعة تكمّل مراحل الحياة الطّبيعيّة: فحياة الإنسان الطّبيعيّة تولد من الزّواج، وحياته الجديدة من سرّ المعموديّة؛ الحياة الطّبيعيّة تنمو وتتقوّى بالمناعة، والحياة الجديدة تنمو بالميرون وبمسحة الرّوح القدس؛ الحياة الطّبيعيّة تتغذّى بالطّعام، والحياة الجديدة بسرّ القربان، جسد المسيح ودمه؛ الحياة الطّبيعيّة تمرض وتتعافى بالتّطبيب، والحياة الجديدة تمرض بالخطيئة وتشفى بسرّ التّوية؛ الحياة الطّبيعيّة تتحرّر من آثار المرض بالنّقاهة، والحياة الجديدة تتعافى بسرّ مسحة المرضى نفسًا وجسدًا من آثار الخطيئة؛ الحياة الطّبيعيّة تنتظم في حياة اجتماعيّة تؤمّن الخير العامّ، والحياة الجديدة تحظى بسرّ الكهنوت  يقودها برعايته إلى الخلاص الأبديّ؛ الحياة الطّبيعيّة تتواصل في التّوالد بالزّواج، والحياة الجديدة تتواصل في سرّ الكهنوت، لتشمل جميع النّاس، وتدخلهم في ملكوت الله.

7. نحن، في لبنان بحاجة إلى حياة جديدة تبثّ روحها لدى المسؤولين السّياسيّين، ولدى كلّ المتعاطين الشّأن السّياسيّ، لكي نخرج من مآسينا المتفاقمة والمتزايدة منذ ما يفوق الثّلاثين سنة. هذه الرّوح تحثّ المسؤولين على إحياءِ المؤسّساتِ الدّستوريّة، وانعقادِ مجلسِ الوزراء طبيعيًّا، وإجراءِ الإصلاحات، والاتّفاقِ مع صندوقِ النّقدِ الدُّوَليّ، ووَقفِ الفسادِ، وتوفيرِ الظّروفِ السّياسيّةِ والأمنيّةِ لإجراء الانتخاباتِ النّيابيّة والرّئاسيّة في مواعيدها الدّستوريّة، واستكمالِ التّحقيقِ العدليّ الجاري في تفجيرِ مرفأ بيروت.

فيجب عليهم الاستفادة من الوفود النّيابيّة والوزاريّة الصّديقة الّتي تزور لبنان داعمةً له، والتّعاون مع هؤلاء الأصدقاء الّذين يحاولون إبعاده عن انعكاساتِ ما يَجري في الشّرقِ الأوسط وحولِه، وتحييدَه عنها ليعيدَ اللّبنانيّون تنظيمَ شراكتِهم الوطنيّةِ واستعادةِ سيادةِ وطنِهم واستقلالِه واستقرارِه. إنَّ جميعَ أصدقاءِ لبنان وأشقّائه المخلصين يؤمِنون بحيادِ لبنان، لكنَّ المؤسِفَ أنَّ هذا المفهومَ المنقِذَ يَغيبُ عن لغةِ المسؤولين اللّبنانيّين وعن خِطاباتهم وطروحاتِهم ويُبقون البلادَ رهينةَ المحاورِ الإقليميّة.

لقد سَبق وأعلنّا أنَّ الحيادَ ملازمٌ وجودَ لبنان، وهو مِلْحُ أيِّ نظامٍ سياسيٍّ عندنا، أكان مركزيًّا أم لامركزيًّا أم أيَّ شكلٍ آخَر، ويَحصُرُ الخلافات، ويُزيلُ أسبابَ النّزاعات، ويوطّدُ الشّراكةَ الوطنيّةَ بين جميعِ المكوّنات ويُنقّي علاقاتِ لبنان مع محيطِه والعالم، ويَضعُه على نهجِ السّلامِ الأصيلِ الّذي هو أساسُ دورِه ورسالتِه.

8. ومن ناحية أخرى، فيما الحكومة ستقرّ بدءًا من الغد موازنة الدّولة، يطلب المواطنون من الحكومة أن تنظر بعدلٍ إلى أوضاعِهم وهم رازحون تحت الفَقر والجوعِ والبطالة وفِقدانِ الضّماناتِ الصّحّيّة. وإنّا نُحِّذرُ من محاولةِ تمريرِ قراراتٍ ماليّةٍ في الموازنةِ، أو بموازاتِها، تكون أشبهَ بسلسلةِ رُتبٍ ورواتبَ جديدةٍ مُقنّعة، وبفرضِ ضرائبَ ورسومٍ مُموَّهة.

إنَّ فرضَ الضّرائب والرّسوم يَتمُّ في مرحلةِ التّعافي لا في مرحلةِ الانهيار، وفي طورِ النّموِّ لا في طورِ الانكماش، ويَتمُّ في إطارِ خُطّةِ إصلاحٍ شاملٍ، في ظلِّ سلطةٍ حرّةٍ تَحوذُ على ثقةِ شعبِها وثقةِ المجتمعَين العربيِّ والدُّوليّ. فالإصلاحُ الاقتصاديُّ يبدأ بإصلاحِ النّهجِ السّياسيِّ والوطنيِّ لا بتكبيدِ الشّعبِ ضرائبَ غُبّ الطَّلب.

9. بعدَ ضربِ النّظامِ المصرفيّ، تأتي مثلُ هذه القرارات لتَزيدَ الانهيارَ الاقتصاديَّ من دون زيادةِ القُدرةِ الشّرائيّةِ للعائلات، ولتُشكِّلَ ضربةً قاضيةً لنظامِ الاقتصادِ الحرِّ المنظَّم في لبنان. منذُ نشؤِ دولةِ لبنان، ظلّت اللّيبراليّةُ الاقتصاديّةُ سرَّ ازدهارِ لبنان ونموِّه وتقدُّمِه، والمشَجِعَّ على التّوظيفاتِ الماليّةِ والاستثماراتِ في جميعِ القطاعات ما خَلق فرصَ عملٍ وتواصلٍ بين الاقتصادِ اللّبنانيِّ والاقتصادِ العالميِّ قبل بروزِ العولمةِ. بفضل هذا النّظامُ اللّيبراليّ انتعشت الطّبقاتُ الوسطى وتَعزّزت قيمةُ اللّيرةِ اللّبنانيّة، وكان لبنانُ في العقودِ السّابقةِ في طليعةِ الدّولِ المتقدّمةِ من حيث النّموّ. في الواقع، لم يبدأ الانهيارُ إلّا مع إضعافِ اللّيبراليّةِ اللّبنانيّةِ ببُعدَيها الاقتصاديِّ والاجتماعيّ.

10. نسأل الله أن يبعث فينا وفي كلّ إنسان الحياة الجديدة من أجل خلاصنا، وبناء مجتمعٍ أفضل وأكثر تقدّمًا وإنسانيّة. له المجد والشّكر والتّسبيح الآن وإلى الأبد، آمين."