لبنان
30 كانون الأول 2019, 06:00

الرّاعي: إنّنا جميعًا مدعوّون إلى التّجدّد والعبور من زمن المحاصصات الطّائفية إلى منطق دولة المواطنة الحاضنة للتّنوّع

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاس الأحد، في كنيسة الصّرح البطريركيّ في بكركي، ألقى خلاله عظة انطلق فيها من آية إنجيل متّى 2/ 13: "يَا يُوسُف، قُمْ خُذِ الصَّبِيَّ وأُمَّهُ، وَاهرُبْ بِهِ إِلَى مِصْرَ"، فقال:

"1. عَلِمَ هيرودس من المجوس أنَّهم أتوا من البعيد باحثين عن المولود ملك اليهود ليَسجُدوا له. فاضطرب خوفًا على عرشه. وقرَّرَ للحال قتله. وقال لهم: عندما تجدون مكانه في بيت لحم، أخبروني لأذهَبَ أنا أيضًا وأسجُدَ له، مستعملاً هكذا حيلةَ الشَّيطان المجرِّب. ولكن بعد أن وجدوا الطِّفل يسوع وقدَّموا له هداياهم، أُوحيَ إليهم في الحلم ألّا يرجِعوا إلى هيرودس، فغادروا من طريقٍ آخر. عندئذٍ انكشفَتْ نوايا هيرودس الحقيقيَّة، فأمرَ بقتل جميع أطفال بيت لحم ونواحيها من عمر سنتين فما دون.

غير أنَّ الله الّذي يسود على تاريخ البشر، ويسهَر على حياة الأبرار، كلَّمَ يوسف في الحلم وقال له: "يا يوسف، قم خذ الصَّبيَّ وأمَّه، واهرب به إلى مصر" (متّى 13:2).

2. يُسعِدُنا أن نحتفل معًا بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، لنجدِّدَ فيها إيماننا بالله وبعنايته. فهو لا يترُكُ المؤمنين المخلِصِين فريسةً للأشرار، ولن يترُكَ الوطن وشعبَه سلعةً لأصحاب المصالح الخاصَّة والنَّوايا المبيَّتة. لذا يجب الإصغاء لصوته وإلهاماته بموجب إرادته الخلاصيَّة كما فعَلَ مع يوسف الّذي أوحَى إليه في الحلم أربع مرَّات: الأولى، ليأخُذَ مريم امرأته فهو زوجها والأب الشَّرعيُّ لابنها الإلهيّ (متّى 20:1)؛الثَّانية، ليهربَ بالصَّبيِّ وأمِّه إلى مصر ليُنقِذَ حياته من قرار هيرودس (متّى 2/ 13)،الثَّالثة، ليعودَ بهما إلى اليهوديَّة (متّى2: 19-20)؛والرَّابعة، ليذهبَ إلى الجليل ويَسكُن في النَّاصرة (متّى2: 22-23).

3. يَطيبُ لي أن أُرحِّبَ بكم جميعًا. وأُحيِّي بنوعٍ خاصّ مؤسَّسة البطريرك نصرالله صفير بهيئتها الإداريَّة رئيسًا وأعضاء. وهي مؤسَّسةٌ خيريَّةٌ أنشأها المثلَّث الرَّحمة البطريرك الكردينال نصرالله بطرس صفير في بيته الوالديّ في ريفون لمساعدة الطُّلاَّب الجامعيِّين بمِنَحٍ، وتَحتَوي على مركزٍ طُبِّيٍّ وثقافيٍّ واجتماعيٍّ. وأُحيِّي أيضًا رابطة آل الخوري حنَّا، رئيسًا وعمدةً وأعضاء، مع التَّقدير لنشاطاتها الاجتماعيَّة ووحدتِها الدَّاخليَّة. وأُحيِّي الوفد الآتيمن أبرشيَّتنا المارونيَّة في أفريقيا الغربيَّة والوسطى، مع التَّحيَّة لمطرانها سيادة أخينا المطران سيمون فضُّول. ونُحيِّي أخيرًا راعويَّة الخرِّيجين الجامعيِّين، مرشدًا وأعضاء، المنبثقة من العمل الرَّاعويّ الجامعيّ التَّابع لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، والمنتمية للمجلس الرَّسوليّ العلمانيّ في إطار اللَّجنة الأسقفيَّة لرسالة العلمانيِّين. نحن نقدِّر سعيَ هذه الرَّاعويَّة ليكون أعضاؤها شهودًا حقيقيّين لمحبَّة المسيح، في قلب المجتمع المهنيّ، حاملين إليه كلمة الله والقيم الإنجيليَّة.

4. إنَّ هيرودس مريض الولع بالسُّلطة لم يستطع قبول ولادة ملكٍ جديد، ظنَّه على شاكلته وشاكلةِ وُلاة هذه الأرض. همُّه إقصاء الآخرين والتَّفرُّد بالسُّلطة، فأمَرَ بإبادة "جميع أطفال بيت لحم ومنطقتها من عمر سنتين فما دون" (متّى16:2). ولا عجَب في ذلك، فإنَّه في آخر حياته أمر بقتل ثلاثةٍ من أولاده. ثمَّ أصدَرَ فيما بعد قرارًا بقتل الأكثر نفوذًا بين اليهود. لكنَّ وفاتَه حالت دون تطبيقه.

كم من مسؤولين سياسيِّين مولَعين بالسُّلطة! فيَرفُضون تداولَها، وينهَجُون نهج الاقصاء والتَّفرُّد ويَعمَدون إلى القتل إمَّا الحسِّيِّ وإمَّا المعنويّ، وسلب الصِّيت الحسن، وتأجيج نار العداوة؟ لقد مَسَحَتْ دماء أطفال بيت لحم جريمةَ هيرودس، كما مَسَحَ دم المسيح ومواكب الشُّهداء عبر تاريخ الكنيسة خطايا البشريَّة جمعاء، وشرَّ الأشرار. المسيح الإله الملك الجديد، الّذي صار إنسانًا في الفقر والتَّجرُّد، بدَّلَ مفهوم السُّلطة فجعَلَها خدمةً وتفانيًا وذبيحة ذاتٍ من أجل الجميع (راجع متّى 28:20).

5. من هذا المنطلق الجديد لمفهوم السُّلطة، ومن الزَّمن الجديد الّذي أدخَلَ فيه الرَّبُّ يسوع البشريَّة، نرى وكأنَّ وطننا دخل منذ 17 تشرين الأوَّل الماضي في مخاضٍ لولادة "لبنان الجديد". إنَّ تضحيات شباب وصبايا هذه الانتفاضة الوطنيَّة الإيجابيَّة، تُوجب إعطاءها قيمتها، لكي لا ندفع بهم الى اليأس من تحقيق آمالهم وطموحاتهم في رحاب الوطن، فتتحوَّل عندئذٍ إلى انتفاضةٍ سلبيَّةٍ هدَّامة. لذلك ها نحن نُكَرِّر التَّأكيد على مطلبهم في تشكيل حكومةٍ مستقلَّةٍ عن الأحزاب السِّياسيَّة، تَجمَعُ فريقًا متجانسًا من الاختصاصيّين الكفوئين والنَّزيهين، لوضع خطَّة إنقاذٍ وتنفيذها، تحت إشراف المجلس النِّيابيّ، الّذي يُمثِّلُ كلَّ مكوِّنات المجتمع اللُّبنانيّ. لم يعُدْ لدينا المجالُ للمغامرة، فلا التَّاريخ ولا شعب لبنان المنتفض من أجل كرامته وحقوقه ولقمة عيشه يمكنهما أن يرحَمَا بعد الآن التَّلاعب بمصير وطننا وشعبه.

6. إنَّ هذا الزَّمن الوطنيَّ الجديد يتطلَّبُ منهجيَّةً جديدةً في العمل السِّياسيِّ، ترفُضُ ذهنيَّة المحاصصات السِّياسيَّة بإسم الطَّوائف والمذاهب، الّتي أفقدَتِ الوطن مقدّراته، ورمَتْ بالشَّعب تحت خطِّ الفقر وفي خطر المجاعة. ينبغي أن تستندَ هذه المنهجيَّة الجديدة إلى المهنيَّة والشَّفافيَّة في العمل الحكوميّ المنتظَر لإنقاذ الوطن، على ما قال السَّيِّد المسيح: "لا أحد يقتطعُ رقعةً من ثوبٍ جديدٍ، ويرقَعُ بها ثوبًا باليًا، وإلاَّ فإنَّه يُمزِّق الجديد، والرُّقعة التي يقتطِعُها منه لا تتلاءم مع الثَّوب البالي" (لو36:5).

إنَّنا جميعًا مدعوُّون إلى التَّجدُّد والعبور من زمن المحاصصات الطَّائفية إلى منطق دولة المواطنة الحاضنة للتَّنوُّع الّتي تَرفُضُ أن نتقاسَمَ الوطن ومقدّراته بإسم الميثاقيَّة، فهذه تَقُوم على الشَّراكة في تحقيق وحدة الوطن وخير شعبه بطريقةٍ خلَّاقة ومبدعة. فلبنان لا يُحكم لا بالغلبة ولا بالهيمنة، ولا بالمواجهة، ولا بحكومة اللَّون الواحد. بل يجب ألّا يَشعُرَ أيُّ مكوِّنٍ أساسيٍّ في لبنان بأنَّه مُقصًى أو مُهمَّشٌ. بل يجب استيعاب الجميع من أجل قيام الوطن اللُّبنانيّ بمؤازرة الجميع، وبنجاح الحكومة الجديدة في هذا المسعى.

7. فلننفتح جميعًا "للزَّمن الجديد" الّذي دشَّنه المسيح الرَّبُّ، ونعملْ كلُّنا بروح المسؤوليَّة من أجل ولادة "لبنان الجديد" من قلب المحنة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والماليَّة والاجتماعيَّة الّتي بلغَتْ ذروتها. فنرجو أن تتمَّ في وطننا كلمة الرَّبّ يسوع: "حبَّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أعطَت ثمرًا كثيرًا" (يو24:12).

فنرفع نشيد المجد والتَّسبيح للثَّالوث القدُّوس، الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".