لبنان
04 نيسان 2022, 05:00

الرّاعي: أن ننتخب يعني أن نغيّر فليبادر الشّعب اللّبنانيّ بكلّيّته إلى انتخاب الأفضلين

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد شفاء الأعمى، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، صلّى خلاله من أجل أن يمنح المسيح نعمة الشّفاء لكلّ إنسان من عمى البصيرة، وألقى عظة قال فيها:

"1. يسوع الّذي أعلن ذات يوم عن نفسه أنّه "نور العالم" (يو 8: 12)، آمن به طيما أعمى أريحا، أنّه يستطيع أن يُعطي النّور لعينيه المنطفئتين منذ الولادة. ما يعني أنّ يسوع قد أنار بصيرة قلبه، فآمن.

وفي الواقع لمّا سمع الأعمى أنّ "يسوع النّاصريّ" يمرّ، ناداه باسمه الإيمانيّ "إبن داود حامل الرّحمة، ارحمني". ولمّا سأله يسوع: "ماذا تريد أن أصنع لك؟ أجاب من دون تردّد :"رابوني أن أبصر" ( مر 10: 51).

نصلّي لكي يمنحنا المسيح- النّور ويمنح كلّ إنسان، ولاسيّما الغرقى في عمى القلب والضّمير، ويهيمون في ظلمات مصالحهم وشرورهم، نعمة الشّفاء من عمى البصيرة، الّذي هو العمى الحقيقيّ والأدهى والأخطر من عمى العينين.

2. يسعدني أن أحيّيكم جميعًا فيما نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلتين عزيزتين محزونتين: عائلة المرحومة جانيت سلامة زوجة عزيزنا الأستاذ المحامي جان حوّاط، ووالدة عزيزينا باتريسيا ونسيب وقد ودّعناها معهم ومع الأنسباء والأصدقاء الكثر في جبيل بالأسى الشّديد؛ وعائلة المرحومة سيّدة الحاج أبو ناضر الّتي ودّعناها بكثير من الأسى في بسكنتا مع إبنها وبناتها ونذكر من بينهنّ الإعلاميّة ربيكا، إذ نعزّيها، الّتي نبارك لها بانتخابها عضوًا في الهيئة التّنفيذيّة للرّابطة المارونيّة. نصلّي لراحة نفس المرحومتين جانيت وسيدة، وعزاء عائلتيهما.

3. وإنّي أرحّب باللّجنة التّمثيليّة للأساتذة المتعاقدين في الجامعة اللبنانيّة، الّتي تضمّ 86000 طالبًا وطالبة. إنّها تمرّ بأزمة إداريّة وماليّة واقتصاديّة خانقة أدّت- بكلّ أسف- إلى إقفال أبوابها، وتشتّت طلّابها، وهجرة أساتذتها. نأمل من الحكومة والوزارة المعنيّة أن تجد سريعًا الحلول اللّازمة والعادلة. فلا يجوز أن ينهار هذا الصّرح التّربويّ الوطنيّ الكبير أمام أعيننا، بعد إحدى وسبعين سنة من تأسيس هذه الجامعة على أسس متينة.

وفيما أحيّي نقيب الأطبّاء، أودّ أن أوجّه تحيّة إلى الحكومة طالبًا منها أن تولي اهتمامًا خاصًّا بالأطبّاء بسبب تردّي ظروف عملهم بسبب ما نعيشه من أزمة ماليّة. فإذا فقدنا الجامعة وفقدنا الأطبّاء وفقدنا المصارف ماذا يبقى في لبنان الّذي كان معروفًا بجامعة العرب ومستشفى العرب ومصرف العرب.  

4. سقط نداء الأعمى الإيمانيّ في صميم قلب يسوع، فيما كان أناس ينتهرونه ليسكت، أمّا يسوع فأمرهم بأن يدعوه إليه. ولمّا جاء لم يطلب صدقة كان يستعطيها من النّاس، بل طلب منه ما عنده دون سواه: "أن يبصر". طلب النّور لعينيه المنطفئتين. فقال له يسوع :"أبصر، إيمانك خلّصك" (مر 10: 52). ذاك الأعمى كان المبصر الحقيقيّ بين الجمع كلّه. هذا ما أراد يسوع إظهاره للملء.

وهكذا، اكتمل الأعمى في إنسانيّته: بعينين خارجيّتين تنظران جمال خلق الله، وببصيرة القلب المستنير بالإيمان الّتي ترى ما وراء المحسوس والمنظور في عالمنا وفي حياتنا اليوميّة وأحداثها، وكلّنا بحاجة لنور البصيرة الدّاخليّة لنعرف كيف نقرأ علامات زمننا المتلاحقة والمتجدّدة.

5. أعطى يسوع ما عنده للأعمى. لا أحد يعطي ما ليس عنده. أعطاه النّور أوّلًا لبصيرة قلبه، ثمّ لعينيه. بفضل شفاء الأعمى انكشفت هويّة يسوع ورسالته. هويّته أنّه النّور، ورسالته أنّه ينير كلّ إنسان يأتي إلى العالم (يو 1: 4). إنّه نورنا بشخصه وكلامه وأفعاله وآياته. وهو بروحه القدّوس ومواهبه السّبع ينير العقل والإرادة والقلب. وقد "أرسله الآب نورًا يتجلّى للأمم" (راجع لو 2: 32).

6. في هذه الفترة القصيرة الاستعداديّة للانتخابات النّيابيّة في 15 أيّار المقبل، يحتاج شعبنا النّاخب لأن يستمدّ النّور الإلهيّ لكي يحسن انتخاب من هم الأفضل لإجراء التّغيير المنشود في الهيكليّات والقطاعات والأداء، ومن هم مخلصون للبنان دون سواه ومخلصون لشعب لبنان. فقيمةُ الانتخاباتِ في المجتمعات الدّيمقراطيّة أنّها مناسبةٌ للشّعوب لتغييرِ واقعِها نحو الأفضل. أنْ ننتخبَ يعني أن نُغيّرَ. أن نَقترعَ يعني أن نختارَ الأفضل. وإذا كانت الانتخاباتُ ركيزةَ الدّيمقراطيّة، فلا يجب أن تكونَ الشّعبويّةُ ركيزةَ الانتخابات. وجديرٌ بالمرشّحين أن يُحدّثوا اللّبنانيّين عن مشاريعهم الإصلاحيّة الممكنة، بدلًا من التّراشق باتّهامات تزيد في الانقسام والضّغينة، وقد شبعنا منها. فليبادر الشّعب اللّبنانيّ بكلّيّته إلى انتخاب الأفضلين، إذا أراد حقًّا التّغيير وإصلاح الواقع. وهذا لا يتمّ إذا ظلّ المواطنون في منازلهم والانتخابات جارية.

إنّ انتخابات نيابيّة ناجحة في إجرائها ونتائجها هي ضمانة لنجاح انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة قبل شهرين من نهاية الولاية الحاليّة بموجب المادّة 73 من الدّستور، رئيس يكون على مستوى تحدّي النّهوض بلبنان.

7. وبالمقابل، على الحكومة اللّبنانيّة الإسراع في إجراء الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة، لأنّ سرعة الانهيار تفوق بكثير بطء الإصلاحات . أسطع مثل على بطء الإصلاحات مشروع "الكابيتال كونترول" الّذي يحاولون تمريرَه بعدما فَرَغت صناديقُ المصارف، فيما كان عليهم اعتمادُه لدى بَدءِ الأزمةِ النّقديّةِ سنةَ 2019. بقطع النّظر عن طريقة تأليف اللّجنة التّنظيميّة بحيث تنأى عن التّسييس والمذهبيّة وتفتيت صلاحيّة حاكميّة مصرف لبنان، فإنّ فائدةَ الـ"الكابيتال كونترول" في كونه جُزءًا من مشروعٍ إصلاحيٍّ متكامِلٍ، وإلّا يُصبح سيفًا مُصلَّتًا على النّاس يَمنعُهم من التّحويلات إلى الخارج ومن سحبِ الأموال في الدّاخل أيضًا. فكيف يعيشون؟

ما لم يُعَدَّل هذا المشروعُ ليتلاءمَ مع واقعِ لبنان واقتصادِه الحرِّ وحاجةِ النّاس، سيكون مشروعَ حَقٍّ يُرادُ به باطلٌ، إذ سيَعزِلُ لبنان عن الدّورةِ الماليّةِ العالميّةِ، كما سيَدفع ثمنَه المودِعون والمستثمِرون والمستورِدون والمصدِّرون والمغترِبون وجميعُ القطاعاتِ الاقتصاديّة. فيجب حماية النّظامِ اللّيبراليِّ الّذي شكّل، طَوالَ تاريخِ لبنانَ الحديث، أساسَ النّموِّ والازدهارِ وبوليسةَ تأمينٍ للودائعِ اللّبنانيّةِ والعربيّةِ والدُّوليّةِ الّتي كانت تُوظَّفُ في المصارف اللّبنانيّة، لكونها حتّى الأمس القريب وُجهةً مضمونة. وحريٌّ بالمسؤولين الّذين يتفاوضون مع صندوق النّقد الدّوليّ أن يشرحوا له وضعيّةَ لبنان الخاصّةَ ومدى ارتباطِ حياةِ اللّبنانيّين المقيمين بتحويلاتِ المغتربين ومدى ارتباطِ الطّلّاب اللّبنانيّين في الخارج بتحويلات أهاليهم من لبنان. إنَّ لكلِّ بلدٍ وضعيّةً خاصّة، ولا توجد بالتّالي وَصفةٌ سحريّةٌ تَصلُح لكلِّ زمانٍ ومكانٍ ولكلِّ البلدان.

8. ويظلّ يقرع على باب ضمير الحكومة الإسراع في إقرارِ الإصلاحاتِ الحقيقيّةِ، وفي طليعتِها: جدولةُ الدّينِ العامّ، وقفُ الهدرِ، منعُ التّهريبِ، مراقبةُ المعابرِ البرّيّةِ والبحريّةِ والجوّيّةِ، إصلاحُ قطاعِ الكهرباءِ الّذي يشكّلُ أكبرَ مصدرٍ للهدرِ والفساد، ترشيدُ الإدارة، تخفيضُ عددِ موظَّفي القطاعِ العامّ، وبخاصّة موظّفي المحسوبيّات السّياسيّة، وقد ناهز عددُهم نحو 350 ألفِ موظّفٍ، بحيث لا يتقاضى رواتب موظّفون لا يعملون.  

9. وتزدادُ الشُّبهاتُ حولَ مسارِ القضاءِ في لبنان الّذي أصبحَ بجزءٍ منه أداةً في يدِ السّلطةِ السّياسيّة تَستخدمها ضدَّ العدالة. ونَتساءل هل نحن أمامَ مكافحةِ الفسادِ أم أمامَ مكافحةِ الأخصامِ السّياسيّين؟ كيف للسّلطةِ القضائيّةِ إلّا تَحسِمَ بعدُ مصيرَ التّحقيق في تفجير مرفأ بيروت؟ ولماذا لم تَبُتّ بعدُ بصلاحيّةِ قاضي التّحقيقِ العدليِّ ليستكملَ تحقيقاتِه في هذا الشّأن؟ ولماذا يَمتنِعُ التّفتيشُ القضائيُّ عن توضيحِ مِلفّاتِ القضاةِ المحالِين عليه؟ ولماذا الادّعاءُ التّمييزيُّ العامّ لا يُنفّذُ القراراتِ الّتي يُصدرها؟ في الحقيقةِ لم نَشهَد في أيِّ زمنٍ سابقٍ هذا الاضطرابَ في عملِ القضاءِ وهذه التّبعيّةِ للمنظومةِ السّياسيّة، وهذا التّردّد لدى الهرميّةِ القضائيّةِ في وضعِ حدٍّ لهذه الظّاهرةِ الفوضويّة.

10. نصلّي بإيمان أعمى أريحا، ملتمسين النّور الهادي إلى كلّ ما هو حقّ وعدل واستقرار وسلام. هذا ما نلتمسه في هذا الصّوم المقدّس الّذي تزامن أمس مع صوم رمضان المبارك. فنبارك للإخوة المسلمين، ونسأل الله أن يجعل من هذا الزّمن الصّياميّ المقبول مناسبة للتّجدّد الرّوحيّ فينا، الّذي منه كلّ تجدّد في العائلة والمجتمع والدّولة. لله، الآب والإبن والرّوح القدس، كلّ مجد وتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين."