لبنان
20 آذار 2017, 15:00

التنشئة المسيحيّة للأحد الخامس من زمن الصوم الكبير - آية شفاء المخلّع

ألقى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي التنشئة المسيحيّة للأحد الخامس من زمن الصوم الكبير، يتحدّث فيها عن آية شفاء المخلّع كما ويواصل التطرّق إلى سنة الشّهادة والشّهداء، إذ قال:

 

لقد بلغنا إلى منتصف زمن الصوم الكبير. ما يعني أنّنا أصبحنا على مقربة أكثر فأكثر من الاحتفال بفصح المسيح: بموته فداء عن خطايا الجنس البشري، وبقيامته من الموت انتصارًا على الخطيئة والشيطان، وبثًّا للنعمة والحياة الجديدة فينا. آية شفاء المخلّع أرادها الربّ يسوع مناسبة لإعلان سلطانه على مغفرة الخطايا. وهو سلطان سيمنحه إلى كهنوت العهد الجديد.

 

أولاً، شرح نصّ الانجيل

 

من إنجيل القديس مرقس 2: 1-12قالَ مَرقُسُ البَشير: عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ المَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله. فأَتَوْهُ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَال. وبِسَبَبِ الجَمْعِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الوُصُولَ بِهِ إِلى يَسُوع، فكَشَفُوا السَقْفَ فَوْقَ يَسُوع، ونَبَشُوه، ودَلَّوا الفِرَاشَ الَّذي كانَ المُخَلَّعُ مَطْرُوحًا عَلَيْه. ورَأَى يَسُوعُ إِيْمَانَهُم، فقَالَ لِلْمُخَلَّع: «يَا ابْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!». وكانَ بَعْضُ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ في قُلُوبِهِم: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ  هذَا الرَجُلُ  هكَذَا؟ إِنَّهُ يُجَدِّف! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الخَطَايَا إِلاَّ الله وَحْدَهُ؟». وفي الحَالِ عَرَفَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ  هكَذَا في أَنْفُسِهِم فَقَالَ لَهُم: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ  بِهذَا في قُلُوبِكُم؟ ما هُوَ الأَسْهَل؟ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّع: مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك؟ أَمْ أَنْ يُقَال: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَامْشِ؟ ولِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا أَنْ يَغْفِرَ الخَطَايَا عَلَى الأَرْض»، قالَ لِلْمُخَلَّع: «لَكَ أَقُول: قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، واذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!». فقَامَ في الحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا الله قَائِلين: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ  هذَا البَتَّة!».

 

 للجمع المزدحم في البيت وأمام الباب، في بيت سمعان-بطرس في بيت صيدا الجليل، كان يسوع يعلّم كلمة الله. كان الشعب يشعر بحاجة إلى كلامه الإلهي، واختبروا أن "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (متى 4: 4). وسيقول سمعان-بطرس للربّ يومًا: "إلى من نذهب، وكلام الحياة الأبدية هو عندك؟" (يو6: 68).

 

حاجة المسيحيّين اليوم كبيرة وماسّة لسماع كلام الله لكي يستنيروا به في طريق حياتهم وظروفهم الصعبة. نحن نصلّي المزمور (119: 105): "كلامُك مصباحٌ لخطاي، ونور لسبيلي". في يوم الأحد المعروف "بيوم الربّ"، يجتمع المؤمنون في كنيسة الرعيّة لسماع كلام الله عبر القراءات والعظة والصلوات والتراتيل. في القداس تحتفل جماعة المؤمنين بذبيحة الفداء، وتجلس إلىالمائدة الإلهيّة المزدوجة: مائدة كلام الله، ومائدة جسد الربّ ودمه. الأولى تهيِّئ الثانية وتكتمل بها.

ليست كنيسة المسيح مجرّد جمعيّة خيريّة. صحيح أن من صلب طبيعتها ورسالتها خدمة المحبة والفقراء، لكنّها أيضًا مؤتمنة على الكرازة بالإنجيل من أجل تثقيف الإيمان ونشر ثقافة الإنجيل وقيمه، وعلى تقديس النفوس بتوزيع نعمة الأسرار في العمل الليتورجي. دورها العمل لملكوت الله والحياة الأبديّة.

 

 "الرجال الأربعة الّذين حملوا المخلّع" (الآية 3)، جماعة آمنوا بكلمة المسيح وبقدرته على شفاء مخلّع كفرناحوم، خلافًا للجمع الغفير، وإلاّ لفتح الحاضرون الطّريق أمامهم لكي يصلوا بالمخلّع إلى يسوع فيشفى. بل لم يشفقوا عليه كي يتمكّن ولو من رؤية يسوع، هو الممدود على سريره. فما كان من هؤلاء الأربعة الممتلئين إيمانا، إلاّ أن يثقبوا السطح بكل عناء وجهد ومخاطرة وهو مؤلّف من خشب وقش وتراب، ويدلّوا المخلّع وهو على سريره إلى أمام يسوع.

إيمانُ ساطع في الأعمال، إيمانُ تحدٍ كبير. في الواقع "لمّا رأى يسوع إيمانهم"، كافأهم بمبادرتين: بمغفرة خطايا المخلّع، وبشفائه من حالة الشّلل.

 هؤلاء الرّجال الأربعة هم صورة الكنيسة التّي تصلّي وتتشفّع، حاملة أبناءها وبناتها والعالم كلّه بصلاتها. هذا ما تفعله الجماعة المؤمنة الملتئمة للصلاة في الكنيسة أو في البيت أو في أي مكان آخر. هذا ما تفعله الأخويّات والمنظّمات الرّسوليّة في صلواتها الجماعيّة والافراديّة. هذه هي غاية صلوات السّاعات الّتي يتلوها الكهنة والرّهبان والرّاهبات صباحًا وظهرًا ومساءً.

لكن ذروة صلاة الكنيسة هي الليتورجيّا الإلهيّة، ليتورجيا القدّاس الإلهي، وفيها ذبيحة المسيح المحاطة والمكلّلة بالصلوات والتضرّعات والتذكارات. من هذه الليتورجيا الإلهيّة تتفرّع سائر الصّلوات والإحتفالات الليتورجيّة الأسراريّة وغير الأسراريّة.

 

 الرّجال الأربعة يقدّمون لنا  أمثولة في الإيمان ومثالاً. إيمانهم علامة ثقة بالمسيح وبقدرته لا يخامرها أي شك. وعلامة رجاء أكيد لا يتزعزع. وعلامة حب كبير بلغ إلى التضحيّة بسطح المال الّذي يمكن إصلاحه، فهو في خدمة الإنسان، لا الإنسان في خدمته. إيمان يدلّ على قيمة الإنسان وحياته وحقّه بالصّحة الكاملة. إنّها أمثولة لعالم اليوم حيث القتل والإعتداء على حياة الإنسان وجسده وكرامته وحقوقه، فتفقد كلّ قيمتها.

فعل إيمانهم هو بالحقيقة صلاة صامتة، لا كلام فيها، بل ناطقة ومعبّرة بالأعمال. وهي صلاة تشفّع من دون كلمات. وهي من صميم حياة الكنيسة والجماعة المؤمنة. الله يريدنا أن نصلّي بعضنا عن بعض.

 

 مبادرة الرّب يسوع مزدوجة ومفاجئة. بادر المخلّع بشفاء نفسه من الخطايا: "يا ابني، مغفورة لك خطاياك" (الآية 5). هذا هو الأساس، لأنّ بمغفرة الخطايا منوط الخلاص الأبدي، بفضل المصالحة مع الله والنّاس. بادره بمغفرة خطاياه بهدف تصحيح الفكرة السّائدة عند اليهود ونقضها. وهي إنّ المرض هو نتيجة خطيئة صاحبه. فعندما التقى يسوع ذات يوم أعمى منذ مولده، سأله تلاميذه: "يا معلّم، من أخطأ؟ هذا الرّجل أم والده، حتّى وُلد أعمى؟". فأجابهم: "لا هذا الرّجل أخطأ، ولا والده. ولكنّه وُلد أعمى حتّى تظهر قدرة الله، وهي تعمل فيه" (يو 9 : 1-3). هذا الأعمى شفاه يسوع ليبيّن أنّه قادر على شفاء عميان العقول والقلوب والضمائر.

شفى يسوع المخلّع من خطاياه. لكن المخلع لم يُشفَ على الفور من شلله كنتيجة. بل شفاه يسوع فيما بعد. وهكذا قطع الرّب الرّباط بين المرض والخطيئة. المرض حالة بيولوجيّة، وليس ضربة من الله. والخطيئة فعل قائم بذاته من دون أن يستتبعه مرض أو إصابة كنتيجة.

غير أن التّفكير اليهودي القديم ما زال سائدًا عندنا اليوم. إذا حدث مرض أو وفاة أو كارثة، نلوم الله، ونسأله: "ماذا فعلنا؟"

 

 اعترض الكتبة الحاضرون على مبادرة يسوع: "هذا الرّجل يجدّف. من يستطيع أن يغفر الخطايا، غير الله وحده؟" (الآية 7). علم يسوع أفكارهم. وكانت مناسبة ليعلن سلطانه الإلهي؛ ويعطي البرهان على أنّه، وهو الله، ابن الإنسان، والوسيط بين الله والنّاس، له السلطان على مغفرة الخطايا. قام بالمبادرة الثّانية فأعطى البرهان عن سلطانه بشفاء المخلّع "لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا أن يغفر الخطايا على الأرض"، قال للمخلّع: "قم واحمل سريرك وامشِ" (الآيتان 10 و 13). فقام للوقت ومشى.

هذه المبادرة الثّانية تكشف حقيقة أساسيّة من إيماننا المسيحي، هي أن مغفرة الخطايا تفعل في النّفس، الّتي شلّتها حالة الخطيئة، ما فعل الشّفاء في جسم المخلّع. وكأن الرّب خلق فيه من جديد عروقًا وشرايين وعضلات جديدة، وضخّ فيه دمًا وقوّة. لقد خلقه من جديد. هكذا تفعل نعمة سرّ التوبة الغافرة للخطايا في نفس التّائب: فيخرج التائب من كرسي الإعتراف خروجه من جرن المعموديّة. إنّ سرّ التوبة هو بمثابة معموديّة جديدة، ويجعلنا "خلقًا جديدًا بالمسيح" (2 كور 5 : 17). هذه الآية بمعناها اللاهوتي والروحي موجّهة إلى كل واحد وواحدة منّا. فلا تنتهي في زمانها، بل تستمرّ مع كل إنسان يتوب حقًّا.

 

 "قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، واذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!». فقَامَ في الحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا الله قَائِلين: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ  هذَا البَتَّة!" (الآيتان 11 و 12).في هاتين الكلمتين تذكير مزدوج؛ بالخلق: "كن، فكان! كوني، فكانت" (1 تك 1 : 3، 6، 9، 11). هي كلمة بها خلق الله الكون. هذه "الكلمة إيّاها" صارت بشرًا (يو 1: 14)، وقالت للمخلّع "قم! فقام". من يسوع-الكلمة طلب الضّابط الرّوماني: "أنا لا أستحق، يا سيّدي، أن تدخل تحت سقف بيتي. لكن يكفي أن تقول كلمة فيشفى خادمي" (متى 8: 8). وهكذا حصل. الليتورجيا الإلهيّة، التي تجمعنا في كلّ يوم أحد، هي تمجيد لله في عظائم أعماله المذهلة. 

               

ثانيًا، سنة الشّهادة والشّهداء

 

   نواصل نقل مضمون الرّسالة الّتي أصدرناها بعنوان "سنة الشّهادة والشّهداء". فننقل اليوم الرّباط القائم بين سرّ المسيح والشّهادة والإستشهاد.

 "لقد استقت الكنيسة لاهوت الشهادة والاستشهاد من سرّ المسيح: من تجسّده وموته وقيامته. فهو في آن مثال الشاهد للحقّ والشّهيد بدمه (يو15: 12). فأصبحت الشهادة له تمثّلًا بحبّه وتماهيًا معه واستشهادًا باسمه. واتّخذت الشهادة بذلك  قِيَمًا  ثلاث أساسيّة:

أ- قيمة إيمان شخصي يقوم على المجاهرة بيسوع المسيح سيِّدًا (أع 2: 36 وروما 10: 9)لكونه الشاهد الأمين وحده (رؤ 1: 5)، وعلى  التتلمذ له والثبات في حبّه واتّباعه حتى النهاية.

ب- قيمة حبّ دينيّة إجتماعيّة، يلتزم خدمة الإنجيل (أع 6: 3) وخدمة الكنيسة (2 كور 8: 3). وتقابله شهادة الله نفسه عن رضاه، هو الذي يعرف ما في القلوب (أع 15: 8).

ج- قيمة رجاء رساليّة يأوّنها اندفاع المعمَّد والمعمَّدة لزفّ بشرى الإنجيل (متى 24: 14)، ولمتابعة رسوليّة الرسل التبشيريّة (أع 1: 8)، ومواصلة شهادتهم على أنّ الله الثالوث قريب من كلّ إنسان ويدعوه إلى وليمة الفرح (متى 22: 11).

الشاهد في المسيحيّة هو عاشق المسيح، يحبّه في كلّ إنسان، حتى في العدو. يجاهر بحضور "المسيح أمس واليوم وإلى الأبد" (عب13: 8)، ويشهد لخلاصيّة أقواله (أع 1: 22) ولقيامته (1 كور 15: 155).

الشهيد هو المتماهي مع المسيح الذي اقتدى به وامتلأ من قوّة الروح القدس ونعمة الآب، ليزفّ بإراقة دمه بشرى الإنجيل. ويشهد لإيمانه المسيحي بالآب والابن والروح القدس ولانتمائه الكنسي، ولتعلُّقه بالفضائل الإلهيّة وبتعليم  الكنيسة، ويواجه بأدوات السلام والرحمة سيف المضطَّهِد الذي يعذِّبه ويقتله بوسائل شتّى.

الاستشهاد هو فعل يقوم به الشهيد على إشهار شهادة إيمانه بالمسيح وحبّه له بحرّية وصدقيّة وفرح، راغبًا في الاقتداء الكامل بالمسيح والاشتراك في تدبيره الخلاصي. إنّه يسترجع في قرارة نفسه كلام  الربّ: "إن اضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضًا" (يو 15: 20). ليس الاستشهاد المسيحي سعيًا إلى الموت بل هو الثبات على الإيمان بالمسيح حتى الموت (راجع متى 10: 32)"[1].

*   *   *

 

صلاة

أيّها الرّب يسوع لقد شفيت المخلّع بنفسه وجسده. فأزلت من نفسه الشّلل الّذي سببته حالة الخطيئة، ومن جسده شلل المرض. فأظهرت ذاتك لنا طبيبًا للأرواح والأجساد. إليك نأتي في هذا الصّوم المقدس ونرتمي أمامك بشلل نفوسنا وأجسادنا، فالتفت إلينا بحنانك ورحمتك، مثلما التفتّ إلى مخلّع كفرناحوم. إشفنا واخلقنا من جديد، كما خلقته، مستجيبًا صلاة الكنيسة وأصوام أبنائها وبناتها وأعمال الرّحمة. بارك سنة الشّهادة والشّهداء، لكي نشهد لك فيها في عالم يكتنفه ظلام الشّر والحروب، فيهتدي الجميع بقيم الإيمان والرّجاء والمحبّة. ونرفع نشيد المجد والتّسبيح للثالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.