لبنان
09 أيار 2017, 07:16

التنشئة المسيحيّة - الأحد الخامس من زمن القيامة

ألقى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي التنشئة المسيحيّة للأحد الخامس من زمن القيامة تحدّث فيها عن إنجيل القدّيس يوحنا حيث أقام الربّ يسوع سمعان-بطرس راعيًا أعلى للكنيسة كما وألقى الضوء على رسالته العامّة "خدمة المحبّة الإجتماعيّة"، جاء فيها:

 

في هذا الأحد الخامس من زمن القيامة، نتذكّر الربّ يسوع يقيم سمعان-بطرس راعيًا أعلى للكنيسة، ويحدّد مفهوم سلطته بأنّها خدمة محبّة المسيح للخراف وهي النفوس التي افتداها واقتناها بدمه الثمين على الصليب. ليست مجرّد محبّة خارجيّة يحملها بطرس، بل هي محبّته الشخصيّة ليسوع التي يرعى بها الكنيسة. هذه المحبّة الشخصيّة هي الشرط لقبول مسؤوليّة الرعاية في الكنيسة: "أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟ - إرعَ خرافي" (يو21: 15).

 

 

اولًا، شرح نص الإنجيل

 

من إنجيل القديس يوحنا 21: 5-19

 

بَعدَ الغَداء، قالَ يسوعُ لِسِمعانَ بَطرَس: "يا سِمعانُ بْنَ يونا، أتُحِبُّني أكثَرَ مِمّا يُحِبُّني هؤلاء؟". قالَ لهُ: "نَعَم، يا رَبّ، أنتَ تَعْلَمُ أنِّي أُحِبُّكَ". قالَ لَهُ يسوع: "إرْعَ حُمْلاني". قالَ لَهُ مَرَّةً ثانيةً: "يا سِمعانُ بْنَ يونا، أتُحِبُّني؟". قالَ لَهُ: "نَعَم يا رَبّ، أنتَ تَعْلَمُ أنِّي أُحِبُّكَ". قالَ لَهُ يسوع: "إرْعَ نِعاجي!". قالَ لَهُ مَرَّةً ثالِثَة: "يا سِمعانُ بْنَ يونا، أتُحِبُّني؟". فَحَزِنَ بُطرُس، لأنَّ يسوعَ قالَ لَهُ ثَلاثَ مَرّات: أتُحِبُّني؟ قَقالَ لَهُ: "يا رَبّ، أنتَ تَعلَمُ كُلَّ شَيء، وأنتَ تَعْرِفُ أنّي أُحِبُّكَ". قالَ لَهُ يسوع: "إرْعَ خِرافي! الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لَكَ: حينَ كُنتَ شابًّا، كُنتَ تَشُدُّ حِزامَكَ بِيَدَيكَ وتَسيرُ إلى حَيثُ تُريد. ولكن حينَ تَشيخ، سَتَبسُطُ يَدَيكَ وآخَرُ يَشُدُّ لَكَ حِزامَكَ، ويَذهبُ بِكَ إلى حَيثُ لا تُريد". قالَ يسوعُ ذلِكَ مُشيرًا إلى الميتَةِ التي سَيُمَجَّدُ بِها بُطرُسُ الله. ثُمَّ قالَ لَهُ: "إتبَعني!".

 

 في ختام لقاء المحبّة القرباني الذي أجراه يسوع مع التلاميذ على شاطئ بحيرة طبريّة، وقد أتمّ الصيد العجيب، وهيّأ المائدة، وكسر الخبز وناولهم وكذلك السمك (راجع يوحنا 21: 1-13)، سلّم الربّ يسوع سلطة رعاية الكنيسة إلى  سمعان-بطرس علىأساس حبّه ليسوع حبًّا شديدًا. لأنّ مصدر السلطة في الكنيسة وقوّتها وممارستها الحسنة، إنّما هي المحبّة الشخصيّة للمسيح. لهذا السبب سأله يسوع ثلاث مرّات: "أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟ (الآيات 15، 16، 17). وكان إسناد السلطة ثلاثًا: "إرعَ خرافي!" (الآيات نفسها)، على أساس الجواب المثلّث: "نعم يا ربّ، أنت تعلمُ أنّي أحبّك" (الآيات نفسها).

 

هذا على شاطئ بحيرة طبريّة. امّا في قيصريّة فليبس، فكان الأساس الأوّل لتسليمه السلطة العليا في الكنيسة إيمانه الكبير بيسوع. فلما أعلن هذا الإيمان بجوابه على سؤال يسوع عمّا يقولون أنّه هو، إذ قال أنت هو المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16:16)، امتدح يسوع إيمانه وسلّمه قيادة الكنيسة: "طوبى لك يا سمعان بن يونا، لأنّه لا لحم ولا دم أظهر لك ذلك، بل أبي الذي في السماء. وأنا أقول لك ايضًا انّك انت هو الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. ولك أعطي مفاتيح ملكوت السماوات..." (متى 16: 17-19).

 

 وجّه يسوع سؤالَه إلى بطرس: "أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟" لكنّه يوجّهه إلى كلّ واحد وواحدة منّا، ولا سيّما إلى صاحب أيّة مسؤوليّة، في العائلة والمجتمع والكنيسة والدولة؛ وعلى كلّ مَن يُطلب منه قبول السلطة والمسؤوليّة، يطرح السؤال: "أتحبُّني؟". وهو بحسب اللّفظة اليونانيّة الأصل "Agapée"، يعني الخروج من الذات وهبة القلب والعقل والإمكانيّات لمحبّة المسيح، ولمحبّة كلّ إنسان. إنّها المحبّة "لا بالكلام بل بالعمل والحق" (1يو3: 18). نحبّ المسيح بشخصه، ونحبّه عبر الاتّحاد به، ونحبّه بحفظ كلامه ووصاياه (راجع يو14: 21). والسؤال يعني محبّة المسيح محبةً تفضيليّة لكي نتمكّن من محبّة كلّ إنسان.

 

فلا بدّ من طرح السؤال في مساء كلّ يوم: "هل أنمو في محبّة المسيح؟ كيف أحببتُه اليوم؟ هل اليوم أفضل من أمس؟ أيّ جهد قمتُ به لأحبَّه أكثر في الصلاة وحفظ كلّ كلامه ووصاياه، وفي القيام بواجب حالتي؟

 

الرئيس هو الذي يرئس بالمحبة، ويرئس خدمة المحبّة، والرأس في المحبة.

 

 جواب بطرس: "يا ربّ، أنت تعلمُ كلّ شيء، وأنت تعلمُ أنّي أحبّك" (الآية 17)، يحمل مضمونًا إنسانيًّا ولاهوتيًّا كبيرًا. استعمل بطرس لفظة يونانيّة غير Agapée، وهي  Philantropie، التي تدلّ على العاطفة التي في القلب، والتي  يعرفها يسوع، وهي تغطّي ضعفه ومحدوديّته البشريّة. الله يميّز بين ضعفنا وبين مكنونات قلبنا، فيقول: "يا بنيّ أعطني قلبك".

 

لا يتّكل بطرس في جوابه على ضعفه المعروف والظاهر للجميع، وقد بلغ ذروته بإنكاره ليسوع ثلاث مرّات، بل على ما في قلبه، والذي يعرفه يسوع: "انت تعلمُ كلّ شيء، وأنت تعلم أنّي أحبّك". يقول القدّيس افرام السرياني: "أنا سعيد يا ربّ، لأنّك أنت سوف تدينني في اليوم الأخير. سعيد لأنّك أنت وحدك، ولا أحد سواك، لأنّك أنت وحدك تعلم ما في قلبي تجاهك".

 

عملُ الشيطان أنّه يحاول إقناعي بضعفي وبعدم قدرتي وبتذكيري بسقطاتي، لكي لا أثق بالنّعمة الإلهيّة، ولا بذاتي. فأكفّ عن السعي إلى القداسة والسّير في سلّم الفضائل المسيحيّة، معتبرًا أنّي ضعيف وأن طريق القداسة ليس لي، فيكسب هو المعركة.

 

 بتسليم الرعاية لبطرس، نجد في النص فعل "إرعَ" وثلاثة أسماء: "حملاني" (الآية 15)، "نعاجي" (الآية 16)، "خرافي" (الآية 17).

 

"إرعَ" في التسليم الأوّل يعني حسب اللّفظة الأصليّة "أَطعِمْ" للدّلالة على أنّ الرعاية لا تقتصر على الإدارة وإصدار الأوامر والمراسيم، بل تشمل أيضًا وخاصّة إطعام الجائع ومداواة المريض وتعزية الحزين وتقوية الضعيف...

 

الحملان هم المؤمنون، إخوة يسوع الصغار. إنّهم يعرفون الله، ولكنّهم يحتاجون إلى مَن يهتمّ بشؤونهم. دور الكنيسة الأوّلالاهتمام بأبنائها وبناتها في مختلف حاجاتهم. والكنيسة تشمل هنا الإكليروس والعلمانيّين. ومعًا يحملون الهمّ الراعوي في الرعيّة والأبرشيّة، على أرض الوطن وفي بلدان الانتشار.

 

"إرعَ" في التسليم الثاني، يختلف الفعل ويُترجم "بأَرشِدْهم". و"النعاج" تمثّل غير المؤمنين. إنّه البعد الرسولي والرسالي في الكنيسة أي إعلان إنجيل المسيح لجميع الشعوب والثقافات. إنّه إنجيل محبّة المسيح الفادي التي تهدم الأسوار التي الفاصلة بين الناس.

 

كلّ مسيحي رسول بحكم معموديّته ومسحة الميرون. إنّه مسؤول تجاه أخيه الإنسان، عن الشهادة لمحبّة المسيح الظاهرة في الأعمال والمبادرات والمواقف وإشاعة الفرح. يشهد بحياته أنّه وجد المخلّص الوحيد للجنس البشري الذي وحده يعطي معنى وقيمة فريدة لهذا العالم. لا يحقّ لنا، نحن المسيحيِّين، أن نحرم غيرنا من معرفة المسيح ومحبّته. هذا ما جعل بولس الرسول يقول بكلّ مسؤوليّة: "الويلُ لي إنْ لم أكرزْ بالإنجيل" (1كور9: 16).

 

 في التسليم الثالث، لفظة "إرعَ" تعني "أَطعِمْ" كما في التسليم الأوّل. ولفظة "نعاج" تعني غير المؤمنين كما المؤمنين. المحبة الراعوية لا تفرّق، ولا تميّز في الإطعام والخدمة والعناية. كلّنا مخلوقون على صورة الله، وإخوة في الإنسانيّة، وأبناء لله بالابن الوحيد يسوع المسيح. هذه هي ثقافتنا المسيحيّة التي يحتاج إليها عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى.

 

 لمّاذا سأل الربّ يسوع بطرس ثلاث مرّات "أتحبُّني؟". نقول بحسب الشرّاح الروحيّين لخمسة أهداف:

 

الأوّل، ليذكِّر بطرس بإنكاره ليسوع ثلاث مرّات، وليقول له أنّه كان إنكارًا من الشفاه لا من القلب، مؤكِّدًا أنّه يعرف ما في قلب الإنسان، وعلى هذا الأساس يدعوه ويثق به، ويميل نظره عن ضعفه.

 

الثاني، ليذكِّره والجميع بأنّ يسوع مات ومكث في القبر ثلاثة أيّام، وبأنّ الكنيسة ولدت من سرّ موته وقيامته، وقد دفع عنها ثمن دمه الغالي. هذه الكنيسة الغالية يوكلها إليه وإلى رعاة الكنيسة وإلى أبناء الكنيسة وبناتها. فلا يحقّ لأحد التفريط بها، أو إهمالها، أو التقصير في خدمتها.

 

الثالث، ليقول لبطرس ولنا: أنت قويّ بقيامتي إذا صبرت "أيّامًا ثلاثة" على الصعوبة والمحنة. "فالربّ لا يدع الصدّيق يضطرب إلى الأبد" (مز55: 23).

 

الرابع، ليعطي بطرس المحبّة كدواء للإنكار، بجرعات ثلاث: "أتحبُّني". بها يقوى على كلّ ضعفه، وينسى سقطاته. رأس الكنيسة هو رأس بالمحبة والخدمة والعناية. بها يداوي كلّ نقص في الأفراد والجماعة.

 

الخامس، ليبيِّن أنّه يختار بطرس في ضعفه، ويكشف للعالم أنّ الكنيسة تُبنى وتنمو بقوّة المسيح ونعمته، من خلال ضعف بطرس ورعاتها وأبنائها وبناتها. وبهذا يتمجّد الله الذي هو وحده القوي والمقوِّي للجميع. أليس في ذروة ضعفه هتف يسوع: "الآن نفسي قلقة ماذا أقول؟ يا أبتِ نجّني من هذه الساعة. أيّها الآب مجّد اسمك" (يو12: 27-28).

 

 ينتهي كلام الربّ يسوع بدعوة بطرس إلى اتِّباعه عبر مسيرة صليب الفداء "عندما تشيخ ستبسطُ يدَيك، وآخر يشدُّ حزامك، ويذهب بك إلى حيث لا تريد. وبهذا أشار إلى  الميتة التي سيمجِّدُ بها بطرسُ الله. ثمّ قال له: اتبعني" (الآيتان 18 و19).

 

تبلغ رعاية بطرس للكنيسة ذروتها بالألم والاستشهاد على مثال الربّ يسوع. يخبر التقليد أنّ بطرس استشهد في روما مصلوبًا، رأسًا على عقب بحسب طلبه، بأمر من نيرون في سنة 67. صُلب في ميدان الخيل قرب تلّة الفاتيكان ودُفن خارج الطريق. فراح المسيحيّون يبنون مزارات صغيرة حول قبره، إلى أن بنى الأمبراطور قسطنطين بازيليك ضخمة فوق القبر مباشرة.

 

ويخبر التقليد قصة Quo vadis. وهي عندما لم يعد بإمكان بطرس تحمّل الاضطّهاد في روما، قرّر العودة إلى فلسطين. ومن بعد أن عبر أسوار المدنية مشى بطريق Appia باتّجاه الشرق، ليأخذ سفينة من نواحي نابولي، تراءى له الربّ يسوع آتيًا باتّجاه المدينة. فسأله بطرس: "إلى أين أنت ذاهب؟ Quo vadis". فأجابه الربّ: "إلى روما لأصلب من جديد!". فارتعد بطرس ولصقت رجلاه ببلاط الطريق حيث كان واقفًا. وفهم أنّ عليه هو أن يُصلب، لا يسوع الممجّد. فعاد إلى روما، وكان الصلب، ونمت الكنيسة. فأصبح مركز الأمبراطورية الرومانية الوثنية قلب الكنيسة الكاثوليكية وعاصمة الكثلكة. "دمُ الشهداء بذار المسيحيين".

*   *   *

 

ثانيًا، خدمة المحبة الاجتماعية

ننقل اليوم من رسالتي العامة الخامسة، "خدمة المحبة الاجتماعية" (25 أذار 2017) الانطلاق نحو المستقبل من الفقرتين 47 و48: "المحبة الاجتماعية هي من صلب رسالة الكنيسة إلى جانب الكرازة بالإنجيل، والإحتفال باسرار الخلاص كينبوع النّعم الإلهيّة. وتدعونا هذه الصفحات إلى كتابة صفحات جديدة في تاريخ المحبّة الاجتماعيّة تكون بمستوى الحاجات الجديدة المتزايدة. لقد رسم البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني في الفصل السادس من الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" الذي أصدره ووقّعه في بيروت بتاريخ 10 أيار 1997، في أعقاب جمعيّة السينودس الخاصّة بلبنان، الخطّ الذي ينبغي على كنائسنا الكاثوليكيّة أن تتبعه على مستوى الخدمة الاجتماعيّة، في ما يختصّ بمواجهة الأزمة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة، وإدارة أملاك الكنيسة، والتعليم الأكاديمي والجامعي، ودور وسائل الإعلام، والالتزام السياسي، وحقوق الإنسان[1].

 

عالج المجمع البطريركي الماروني المنعقد ما بين 2003 و2006، كلّ هذه المواضيع وسواها، وهي في معظمها مطروحة في الإرشاد الرسولي المذكور، وراحت كنيستنا المارونيّة تعمل، في خدمة المحبّة، انطلاقًا من المبادئ الأساسيّة في تعليم الكنيسة الإجتماعي، وهي، كما يختصرها لنا النّصّ المجمعي "الكنيسة المارونيّة والشَّأن الإجتماعي"، التالية[2]:

 

أ- التضامن الذي يعني العزم الدّائم على العمل من أجل الخير العام، والشّعور بانّنا جميعنا مسؤولون حقًّا عن الجميع.

 

ب- العدالة بمفهومها المزدوج: العدالة الطّبيعيّة وهي من صنع الله، وتعني المساواة في الكرامة الإنسانيّة، والتّمتّع بالحقوق الأساسيّة. والعدالة الإجتماعيّة وهي من صنع البشر: الشّخص الفرد والجماعة والدّولة، بحيث يُعطى  كلّ واحدٍ حقّه في عيش ٍ  كريم، لقاء ما يؤدِّي من واجبات.

 

ج- التّرقِّي الذي يشمل الشّخص البشري والمجتمع، ويرتكز على الإنماء الإقتصادي والإجتماعي  الشّامل.

*   *   *

 

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد سلّمتَ بطرسَ الرسول رعاية الكنيسة، بفضل إيمانه بك وحبّه الشديد لك. وبذلك جعلته مثالًا وقدوة لكلّ مدعو لتحمّل مسؤوليّة في الكنيسة، كما وفي العائلة والمجتمع والدولة. ودعوته لاتّباعك بإيمان صامد، على طريق المحبّة المتفانية في سبيل كلّ إنسان، من أجل إسعاده. ساعدْ بنعمتك كلّ مسؤول، وهبه فضيلة الإيمان، واملأ قلبه محبة، لكي يشهد بالقول والعمل لإنجيلك الخلاصي، ويسهم في نشر ثقافة المحبّة. وإنّا نرفع نشيد المجد والتسبيح لله-المحبّة، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.