لبنان
07 آذار 2017, 06:38

التنشئة المسيحيّة - الأحد الثالث من زمن الصوم

ألقى البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الرّاعي التنشئة المسيحية للأحد الثالث من زمن الصوم تناول فيها شفاء المرأة النازفة من إنجيل لوقا كما وأكمل مضمون رسالة سنة الشهادة والشهداء، جاء فيها:

 

تحوّل آخر يُجريه الربّ يسوع بشفاء المرأة النازفة. كانت مهدَّدة بالموت من جرّاء نزيف دمها منذ اثنتَي عشرة سنة. شفاها بفضل إيمانها وشجاعتها. وهي رمز لكلّ نزيف في القيم الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. ويقيم الصبيّة ابنة يائيروس من الموت، وهذه ذروة التحوّل الذي يُجريه المسيح الربّ في حياة الإنسان المؤمن والمتّكل على عناية الله.

 

أولاً، شرح نص الانجيل

 

من إنجيل القديس لوقا 8: 40-48

 

لَمَّا عَادَ يَسُوع، اسْتَقْبَلَهُ الجَمْع، لأَنَّهُم جَميعَهُم كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ. وَإِذَا بِرَجُلٍ اسْمُهُ يَائِيرُس، وكَانَ رَئِيسَ المَجْمَع، جَاءَ فارْتَمَى عَلَى قَدَمَي يَسُوع، وَأَخَذَ يَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، لأَنَّ لَهُ ابْنَةً وَحِيدَة، عُمْرُها نَحْوُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى المَوْت. وفِيمَا هُوَ ذَاهِب، كانَ الجُمُوعُ يَزْحَمُونَهُ. وَكانَتِ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا. دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: «مَنْ لَمَسَنِي؟». وَأَنْكَرَ الجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: «يا مُعَلِّم، إِنَّ الجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ!». فَقَالَ يَسُوع: «إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي!». وَرَأَتِ المَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: «يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!».

 

 عاد يسوع إلى كفرناحوم إلى بيت سمعان-بطرس، حيث كان يتردّد ويلتقي الناس. وكانت جماهير الناس تنتظره لسماع كلامه وطلب الشفاء من أمراضهم. هذه دعوة لنا لانتظاره في قدّاس الأحد حيث يكلّمنا، ويقدّم ذاته ذبيحة فداء عنّا، ويُجلسنا على مائدة جسده ودمه لنيل الحياة الجديدة، ويوفّر لنا نعمة المصالحة بواسطة سرّ التوبة. وفي كلّ ذلك المسيح الربّ يشفينا من أمراضنا الروحيّة والأخلاقيّة ويقدّس أوجاعنا الجسديّة. كما أنّ لقاءنا مع المسيح الفادي يتمّ أيضًا في الصلاة والاحتفالات الليتورجيّة.

 

 اثنان يلتقيان يسوع في العمق: يائيروس، رئيس مجمع اليهود، يلتمس من يسوع المجيء إلى بيته لشفاء ابنته الوحيدة المشرفة على الموت. وإذ ماتت، أقامها يسوع بحنانه وعطفه وبإيمان أبيها. والمرأة النازفة منذ اثنتَي عشرة سنة شُفيت بلمس طرف ردائه، بفعل إيمان مدرك وشجاع ونيّة سليمة فامتدح يسوع إيمانها، ليظلّ دعوة لعدم اليأس والقنوط وفقدان الرجاء، وللبحث عن يسوع المخلّص التماسًا للشفاء.

 

 يبدأ المشهد الإنجيلي مع يائيروس رئيس المجمع، صاحب مكانة دينيّة واجتماعيّة بين اليهود، الذي "ارتمى على قدمَي يسوع، وأخذ يتوسّل إليه أن يدخل بيته ليشفي ابنته الوحيدة ابنة الاثنتي عشرة سنة المشرفة على الموت" (الآية 41-42). إيمان لا يخامره شكّ، وتواضع ظاهر، والتماس من القلب. هذه الثلاثة ميّزت شخصيّة الرجل، وحرّكت مشاعر الحنان والرّحمة في قلب يسوع، فتوجّه معه نحو بيته. ذلك أنّها حدّدت مكوِّنات الصلاة التي لا تُردّ. فالصلاة تنبع أوّلًا من إيمان مدرك لا شكّ فيه: كان يائيروس مقتنعًا كلَّ الاقتناع بأنّ يسوع قادر على شفاء ابنته، ولو لم يكن من اتباعه المعلنين. المكوّن الثاني للصلاة التواضع وانسحاق القلب أمام الله: يائيروس صاحب المكانة وسط جماعته وفي المجتمع "يرتمي على قدمَي يسوع" للدّلالة على وجعه وحاجته. هذا هو موقف الصلاة في حضرة الله: سجود وارتماء على الأرض، وانخفاض القلب والنظر، واستحضار الله. المكوِّن الثالث هو الالتماس بإلحاح: "إسألوا تُعطوا أطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتح لكم.

فمن يسأل ينل، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له" (مت7:7). هكذا التمس يائيروس وألحّ على يسوع لدخول بيته ورؤيته ابنته المريضة، فتشفى.

 

زمن الصوم هو المناسبة الأمثل للصلاة. لا ينفصل الصوم عن الصلاة، كما نجد في دعوة الربّ يسوع المتكرّرة. الإلحاح في الالتماس علامة الإرادة الواعية والمدركة، وبالتالي علامة إيمان ثابت وأكيد، يرجو ويحبّ. كلّ هذه الميزات تؤمّن استجابة الصلاة. ما يعني أنّ النعمة لا تعمل من دون مساعدة المؤمن.

 

 وتأتي حادثة شفاء المرأة النازفة، فيما كان يسوع ذاهبًا مع يائيروس، والجماهير تزحمه من كلّ جانب، ويسير بصعوبة، مثلما نشهد في الاستقبالات الجماهيرية (راجع الآية 40). في هذه الأثناء أتت المرأة من الوراء، خوفًا من أن ينكشف أمرها، لأنّ الشريعة كانت تعتبرها نجاسة، وتمنعها من لمس الأشياء والأشخاص لئلّا يتدنّسوا. وصمّمت المرأة، بوحي من إيمانها بقدرة يسوع، أن تلمس ثوبه. فإذا تمكّنت شفيت. وهذا ما حصل. إنّه وجه آخر للصلاة التي تلتمس: أعني الصلاة الصامتة الظاهرة بالافعال، والدالّة على إيمان عميق.

 

بفعلتها تجنّبت المرأة الشكوك. اندسّت بين الجماهير وكأنّها مجهولة من الجميع، ولمست في الزحمة طرف ثوب يسوع. وكانت على يقين أنّها لن تدنّس يسوع بلمسها ثوبه، بل على العكس ينقّيها هو من نجاستها. إنّها بذلك لم تخالف شريعة موسى، بل رفعتها إلى ربّ الشريعة الذي يعطيها روحًا ويؤنسنها. فالشريعة، إذا خلت من روح ينعشها بالرحمة والإنصاف والمشاعر الإنسانيّة، أصبحت حرفًا يقتل على ما يقول بولس الرسول: "الحرف يقتل، والروح يُحيي" (2كور3: 66).

 

 لقد وجدت المرأة طبيبها الحقيقي بعد أن أنفقت كلّ مالها على الأطبّاء من دون جدوى مدّة اثنتَي عشرة سنة. الطبيب الحقيقي هو يسوع المسيح. عالم اليوم ضائع منهمك في كثرة البحث عن سعادة على وجه الأرض، وقلّما يجدها. إنّه عالم  منهمك بالركض وراء المادّيات، ولذلك يبقى متوتّر الأعصاب وغير سعيد في داخله. كم هي صادقة كلمة القدّيس اغسطينوس: "لقد خلقتَنا لك، يا ربّ، ويبقى قلبُنا قلقًا مضطربًا فينا، إلى أن يستقرّ فيك!"

 

 لقد فاجأها يسوع وكشف أمرها، بسؤاله: "مَن لمسني؟ - إن واحدًا لمسَني، لأنّي شعرتُ أنّ قوةً خرجت مني!" (الآية 46).

 

ما إن لمست المرأة طرف ثوب يسوع، بإيمانها الموصوف، حتى توقّف للحال نزف دمها. فجاء سؤال يسوع بهدف إعلان إيمانها العظيم وجعله قدوة ومثالًا. فقال: "إنّ واحدًا لمسني"، غير كلّ الجمع الذي يزحمه من كلّ جانب. هذا يعني أنّ يسوع لا يتعاطى معنا كأعداد، بل كلّ شخص منّا له عنده فرادته ومكانته. إنّه يشعر بي وبكلّ ما أفعل وأقول، كما جرى مع لمسة تلك المرأة.

 

كان متوجِّهًا بسرعة مع يائيروس إلى بيته، لأنّ الابنة على حافّة الموت. لكنّ الربّ يسوع وقف ليسأل ويسمع ويعلن: وقف يسأل: "مَن لمسني؟" الجواب: "الجمع يزحمك من كلّ جانب!" – "إن واحدًا لمسني لأنّ قوة خرجت منّي!" عندها أتت المرأة خائفة وأسمعت يسوع والجمع أنّها هي فعلت ذلك وشفيت من نزيف دمها بلمس طرف ثوبه.

عندئذ أعلن يسوع: "يا ابنتي، إيمانك خلّصك، إذهبي بسلام" (الآية 48). لقد تبنّاها الربّ بوافر رحمته وحنانه، كما تبنّانا بموته على الصليب وقيامته، ويشركنا في بنوّته بواسطة سرَّي المعمودية والميرون، ويُجلسنا إلى  مائدة كلمته وجسده ودمه كأحبّاء. وزرع في قلبها السلام الذي يعطيه لكلّ إنسان مؤمن يلجأ إليه. وهو "سلام غير سلام العالم" (راجع يو14: 27).

 

إذا أكملنا قراءة الحدث الإنجيلي (لو8: 49-56)، نجد أنّ في هذه الأثناء، جاء مَن يخبر يائيروس أنّ ابنته الوحيدة ماتت، ولا حاجة لإزعاج المعلّم (الآية 49). أدرك يسوع مرارة ألم هذا الوالد لوفاة وحيدته ابنة الاثنتَي عشرة سنة. وهنا وجهٌ جديد للصلاة: ألم الإنسان ودموعه. لم يكن يسوع بحاجة إلى كلمة من يائيروس المؤمن بأنّ يسوع كما شفى النازفة بمجرّد لمسها طرف ثوبه، وكما أنّه كان قادرًا أن يشفي ابنته وينجّيها من الموت، يستطيع أيضًا أن يقيمها من الموت. ولذا قال له الربّ: "لا تخف! يكفي أن تؤمن فتحيا ابنتك" (الآية 50). الإيمان هو مفتاح الشفاء والإحياء من الموت. ومفتاح الإيمان هو الشجاعة التي تدلّ على الثقة بالله الذي نسلّم له كلّ حياتنا.

 

قال يسوع ليائيروس: "لا تخفْ! يكفي أن تؤمن"، فلأنّ الشخص ناقل الخبر اعتبر أنّ يسوع لا يستطيع أن يفعل شيئًا بعد وفاة الصبيّة، فقال احترامًا ليسوع: "لا تُزعِجْ المعلّم". هذه الكلمة تعني أنّ يسوع قادر على شفاء الأمراض فقط، وبالتالي عاجز عن أن يقيم الموتى، وكأنّه صيدلية متنقّلة. لعلّنا نحن أيضًا نقف عند حدود صلواتنا واستجابتها، من دون أي اهتمام بشأن ملكوت الله، فيما الربّ يسوع يدعونا "لنطلب أوَّلًا ملكوت الله وبرّه، وكلّ الباقي يُزاد لنا" (مت 6: 33).

 

 "أمسك يسوع بيد الصبيّة وناداها قائلًا: يا صبيَّة، قومي" (الآية 54). "أمسك بيدها" للدّلالة على حنانه ومحبّته وعطفه. "ناداها" مثلما نادى لعازر من القبر. المناداة علامة الدعوة للخروج من الموت. وعندما أخطأ آدم ناداه الله: "يا آدم أين أنت؟" (تك3: 9). ومن تلك اللّحظة كان الوعد بإرسال المخلّص الذي سيفتديه وبنيه ابناء الجنس البشري. وقال: "قومي". إنّها قيامتها من الموت واستباق للقيامة العامة.

 

زمن الصوم، بما فيه من أصوام وصلوات وأعمال تصدّق ورحمة، هو "الزمن المقبول" (2كور6: 2) الذي ينادينا فيه الله للقيامة لحياة جديدة بقوة كلمة الله ونعمة الأسرار الخلاصيّة.

 

ثانيًا، سنة الشهادة والشهداء

نواصل نقل مضمون رسالتنا الراعوية "سنة الشهادة والشهداء" (9 شباط 2017-2 أذار 2018). فننقل اليوم تعليم الكنيسة عن الشهادة والاستشهاد: فيتعليم الكنيسة، الاستشهاد هو الشهادة السّميا لحقيقة الإيمان، شهادة تصل حتى  الموت.والشهيد يؤدِّي الشهادة للمسيح الذي مات وقام، متَّحدًا معه  بالمحبة. إنّه يؤدّي شهادة لحقيقة الإيمان والعقيدة المسيحيّة، ويحتمل الموت قويًّا، كما فعل القدِّيس اغناطيوس الانطاكي وهو يقول لشعبه: "دعوني  أصير طعامًا للوحوش. فبها سأُعطى البلوغ إلى الله" (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 2473). واعتبرت الكنيسة أنّ الشهادة معموديّة، على ما  قال القدِّيس يوحنا فم الذهب: "لا تتفاجأوا إذا اعلنت لكم أن الشهادة معمودية. فكما أن المعمَّدين يغتسلون بالماء، كذلك الشهداء يغتسلون بدمائهم" في صلاة مساء الجمعة من زمن الدنح المارونية نصلّي: "أيها الربّ يسوع، بعمادك في ماء الأردن، بدأت درب الجهاد والألم، حتى الشهادة وعماد الدم. كذلك اعتمد شهداؤك الأبطال بدمائهم". لقد حرصت الكنيسة على أن تجمع بعناية كبيرة تذكارات الذين بلغوا إلى النهاية في إعلان إيمانهم. وهي أعمال الشهداء التي تشكِّل  محفوظات الحقيقة المكتوبة بحروف من دم (التعليم المسيحي، عدد 2474).

 

وتعلّم الكنيسة أيضًا "أنّ واجب المسيحيّين، الذي يقتضي منهم المساهمة في حياتها، إنّما يدفع بهم إلى السلوك كشهود للانجيل وللموجبات الناتجة عنه. هذه الشهادة هي نقل الإيمان بالأقوال والأفعال، وهي فعل عدالة يوطِّد الحقيقة أو يعرّف بها" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 2472).

والمسيحيّون، أينما كانوا، هم ملزمون بأن يُظهروا، بمثَل حياتهم وشهادة كلامهم، الإنسان الجديد الذي لبسوه بالمعمودية، وفعل الروح القدس بمسحة الميرون (القرار المجمعي في نشاط الكنيسة الإرسالي، عدد 11).

 

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد شفَيْت المرأة من نزيف دمها، بفضل إيمانها وشجاعتها، وأقمت ابنة يائيروس من الموت لشعورك معه بشدَّة وجعه، ولتشديدك إيّاه في الإيمان. أَيقظْ فينا إيمانًا صادقًا قائمًا على المسلك والأفعال، وعلى صلاة مقرونة بالصوم وأعمال المحبّة والرحمة. إشفنا من نزيف القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، كما شفيت المرأة من نزف الدم؛ وأقمنا من موت حالة الخطيئة كما أقمت ابنة يائيروس من موتها. فنرفع إليك نشيد المجد والتسبيح، إليك وإلى أبيك وروحك القدّوس، الآن وإلى الأبد، آمين.