لبنان
01 شباط 2017, 07:10

التنشئة المسيحية - تذكار الكهنة المتوفّين

ألقى البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي التنشئة المسيحيّة متحدثًا فيها عن تذكار الكهنة المتوفّين كما وتكلّم عن سنة الشهادة والشهداء التي ستُفتتح الأحد استعدادًا لعيد القديس مارون وتنتهي في عيد البطريرك الأوّل القدّيس يوحنا مارون في 2 آذار 2018، وقد جاء في التنشئة:

 

تبدأ مع هذا الأحد أسابيع التذكارات الثلاثة: تذكار الكهنة المتوفّين، وتذكار الأبرار والصدِّيقين الذين دخلوا مجد السماء، وتذكار الموتى المؤمنين، قبل الدخول في زمن الصوم الكبير. اليوم نذكر الكهنة الذين أدّوا خدمتهم في الكنيسة ورقدوا بالربّ، ملتمسين لهم "ثواب الوكيل الأمين الحكيم". ونصلّي من أجل الكهنة الأحياء، لكي يكونوا كما يريدهم المسيح، الكاهن الأزلي، الذي أشركهم في كهنوته وأوكل إليهم رعاية النفوس التي افتداها بدمه، ليؤدّوها بحكمة وأمانة. ونصلّي أيضًا لكي يثبّت المسيح الربّ الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة، وينعم على كنيستنا بدعوات جديدة مقدّسة، لتلبية الحاجات في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار.

ونفتتح في هذا الأحد "سنة الشهادة والشهداء" استعدادًا لعيد أبينا القدّيس مارون الذي تبدأ معه، وتنتهي في عيد أبينا البطريرك الأوّل القدّيس يوحنا مارون في 2 أذار 2018.

 

أوّلاً، شرح نص الإنجيل

 

من إنجيل القديس لوقا 12: 42-48

 

قَالَ الرَّبُّ يِسُوع: «مَنْ تُرَاهُ ٱلوَكِيلُ ٱلأَمِينُ ٱلحَكِيمُ الَّذي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُم حِصَّتَهُم مِنَ الطَّعَامِ في حِينِهَا؟ طُوبَى لِذلِكَ العَبْدِ الَّذي، مَتَى جَاءَ سَيِّدُهُ، يَجِدُهُ فَاعِلاً هكذَا! حَقًّا أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ مُقْتَنَياتِهِ. أَمَّا إِذَا قَالَ ذلِكَ العَبْدُ في  قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي في مَجِيئِهِ، وَبَدأَ يَضْرِبُ الغِلْمَانَ وَالجَوَارِي، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَر، يَجِيءُ سَيِّدُ ذلِكَ العَبْدِ في يَوْمٍ لا يَنْتَظِرُهُ، وَفي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُها، فَيَفْصِلُهُ، وَيَجْعلُ  نَصِيبَهُ مَعَ الكَافِرين. فَذلِكَ العَبْدُ الَّذي عَرَفَ مَشِيئَةَ سَيِّدِهِ، وَمَا أَعَدَّ شَيْئًا، وَلا عَمِلَ بِمَشيئَةِ سَيِّدِهِ، يُضْرَبُ ضَرْبًا كَثِيرًا. أَمَّا العَبْدُ الَّذي مَا عَرَفَ  مَشِيئَةَ سَيِّدِهِ، وَعَمِلَ مَا يَسْتَوجِبُ الضَّرْب، فَيُضْرَبُ ضَرْبًا قَلِيلاً. وَمَنْ أُعْطِيَ كَثيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ الكَثِير، وَمَنِ ٱئْتُمِنَ عَلَى الكَثِيرِ يُطالَبُ بِأَكْثَر.

 

1. يعرب الربّ يسوع عن رغبته الشديدة بأن يكون الكهنة وكلاء أمناء وحكماء في ما يأتمنهم عليه. فيقول: "من تراه"، للدلالة على شوقه ورغبته في أن يكون كلّ كاهن وكيلًا أمينًا حكيمًا. لا يسمّيه مسؤولًا بل "وكيلًا". ما يعني أنّ الكاهن لا يستمدّ كهنوته ورسالته ومسؤوليّته من ذاته، بل من المسيح ومن سلطانه الإلهي. ما يعني أنّ الكهنوت ليس رتبة اجتماعيّة أو سلطة مدنيّة، بل هو سلطان إلهي يمنحه المسيح الربّ للمدعو إلى الكهنوت، من دون أيّ استحقاق منه.

بقوله: "من تراه" يعني الربّ يسوع أنّه يبحث عن الكاهن المخلص والمندفع، الذي يرسله إلى النفوس التي افتداها وحيث تدعو الحاجة، تمامًا مثلما دعا أشعيا النبي: "سمعت صوت السيّد قائلًا: من أرسل؟ من ينطلق؟ فقلت: هاءنذا أرسلني" (أش6: 88).

هذا جرى من بعد أن مسّ الملاك شفتَيه بالجمرة المطهِّرة. هكذا الكاهن مسّته جمرة الروح القدس بمسحة الميرون، ليصبح أهلًا للرسالة وفيًّا لها ومندفعًا إلى ادائها. فهي ليست له ولا منه، لكي يتحكّم بها كما يشاء وعلى هواه. فهو سيؤدّي حسابًا عنها، كما يؤكّد الربّ يسوع في إنجيل اليوم، وينال إمّا الثواب، وإمّا العقاب.

وفيما الشعب مدعو ليرى، في مسلك الكاهن وأقواله وافعاله، وجه المسيح، وعلى هذا الأساس يبني علاقة معه لكونه يعمل باسم المسيح وبشخصه، من واجب الكاهن بالمقابل أن يكون كذلك.

2. يقتضي المسيح الربّ وجود شرطَين في الكاهن: الأمانة والحكمة (الآية42). هما فضيلتان أساسيّتان في شخص الكاهن. الأمانة هي لقدسيّة الكهنوت وللرسالة الموكولة إليه؛ والأمانة للمسيح الكاهن الأزلي الذي دعاه ووكّله؛ والأمانة للنفوس الموكولة إلى عنايته الروحيّة والراعويّة، إلى محبّته وسهره واندفاعه. الأمانة تنبع من الإيمان، وتتشدّد بالرجاء، وتكتمل بالمحبة. هذه الفضائل الإلهيّة الثلاث تجد واقعها من خلال الحياة في الأمانة لواجب الحالة.

أمّا الحكمة فهي حسن التصرّف والتعامل والقيام بالواجب وممارسةِ المسؤولية. إنّها أولى مواهب الروح القدس السبع التي تنير الإيمان وتصوِّب العقل نحو كلّ ما هو حقّ وخير وجمال. الحكمة قوّة خلّاقة في الكاهن، على صورة الحكمة التي كوّن بها الله كلّ خلقه، فأتى جميلًا، كما يردّد سفر التكوين (راجع1: 31). الحكمة هي أن ينظر الكاهن من منظار المسيح الكاهن الأسمى الذي دعاه، وائتمنه على رسالته الخلاصيّة، لكي يؤدِّيها كما لو أنّ المسيح نفسه يقوم بها، بالرّغم من الضعف الشخصي والمحدوديّة. ما يتطلّب منه اتِّحادًا دائمًا بالمسيح، وتنشئة روحيّة وعلميّة وراعويّة مستمرّة، لكي يكون على مستوى التحدّيات اليومية.

هاتان الفضيلتان، الأمانة والحكمة، مطلوبتان من كلّ مسؤول، ليس فقط في الكنيسة، بل وفي العائلة والمجتمع والدولة، لأنّهما لا تنفصلان عن أيّة مسؤوليّة أو سلطة.

3. رسالة الكاهن هي أن "يعطي الطعام في حينه" للنفوس خاصّة المسيح التي يسمّيها "اهل بيته" (الآية 42). هذا الطعام يشمل مسؤوليّات الكاهن الأساسيّة الثلاث: كلمة الله التي تولِّد الإيمان وتنير العقول والقلوب، ويقدِّمها للجميع بالكرازة والتعليم والإرشاد والكتابة؛ تقديس النفوس بتوزيع نعمة الأسرار، وتأدية الخدم الليتورجيّة، وإحياء الصلاة الفرديّة والجماعيّة لدى المؤمنين، والسّهر عليهم، وتقويم كلّ مسلك أوتصرّف منافٍ للإنجيل ولتعليم الكنيسة الرسمي الروحي والأخلاقي؛ خدمة المحبة برعاية النفوس وتكوين جماعة متحابّة وموحَّدة ومتضامنة؛ وبالاهتمام بالفقراء والمرضى والمسنّين واليتامى وذوي الحاجات الخاصّة؛ وبتّ النزاعات بين الأزواج أو بين سواهم بالمصالحة والتفاهم، وتجنّب الحلول القضائية إلّا في الحالات المستعصية.

من واجب المؤمنين أن يطلبوا هذا الطعام الروحي والاجتماعي، ويسعوا إليه، ويقبلوه، ويعاونوا الكاهن في تقديمه لأبناء رعيته، من خلال المبادرات الفردية، عبر المجالس واللجان والمنظّمات الرسوليّة وسواها من الترتيبات الكنسيّة.

بالنسبة إلى أصحاب المسؤوليّات في العائلة أو المجتمع أو الدولة، فيتنوّع "الطعام" المطلوب أن يؤدّوه. لكنّه دائمًا خير الأشخاص والخير العام، وفقًا لتنوّع المسؤوليّات والمهمّات والوظائف.

4. على كلّ وكيل، بل كلّ صاحب مسؤوليّة وسلطة، أن يؤدّي حساب وكالته، لكي ينال جزاءه، ثوابًا أم عقابًا. هذا ما يؤكّده الربّ يسوع في هذا الإنجيل.

فالوكيل الذي يلتزم بواجبه ينال ثوابه، إذ "يقيمه سيّده على جميع مقتنياته" (الآية 43 و44)، فيقول السيّد: "طوبى لذلك الخادم". كلمة "طوبى" تشير إلى الخلاص الأبدي، إلى النعيم في ملكوت السماء. هذا ما ينبغي أن يسعى إليه الكاهن. فإذ يشركه المسيح في كهنوته من أجل تحقيق مشروعه الخلاصي الشامل، عليه، من خلال التزامه بواجب خدمته، أن ينال هو أوّلًا ثمار الخلاص، ليستطيع إشراك المؤمنين فيها. فحيث يدخل الرأس، يدخل الجسم كلّه. فينبغي أن تقدّس الخدمة الكهنوتيّة الكاهن الذي يقوم بها. وكون الكاهن إنسانًا ضعيفًا كغيره، ومسؤوليّته كبيرة، فإنه يحتاج إلى صلاة المؤمنين ودعمهم وتشجيعهم وتفهّمهم واحترامهم.

"أن يقيمه على جميع مقتنياته" يعني ثواب المشاركة في الحياة الإلهيّة التي لا تثمَّن. وبالتالي يرتضي الوكيل من أجلها التضحيات والتعب وبذل كلّ جهد في تأدية رسالته وواجبه. "فآلام الدهر لا توازي أفراح المجد الآتي" (راجع روم8: 17-18).

5. أمّا الوكيل الذي لم يلتزم بواجب وكالته، بل أساء استعمالها وأفرط بها واستغلّها للتسلّط والظلم، ونسي أنّه موكَّل، وظنّ أن مسؤوليّته صادرة منه (راجع الآية 45). هذا، عندما يأتي سيّده، أي عندما يُطلب منه تأدية حساب وكالته في هذه الدنيا وعند ساعة موته، ينال شرّ عقاب: "يفصله ويجعل نصيبه مع الكافرين" (الآية 46)، في حالة هلاك أبدي لا تنفع فيه ساعة الندم.

من الضروري أن يُجري الكاهن وكلّ مسؤول، في نهاية يومه، حسابًا وجدانيًّا مع نفسه. يتساءل حول أمانته وحكمته في اداء واجبه، لكي يعي النقص والشّر والمخالفة، ويستغفر الله عنها، ويجدّد مقاصد الإصلاح والالتزام.  فخاتمة كلّ نهار مقدِّمة لخاتمة العمر.

تبقى القاعدة الأساسيّة: "من أُعطي الكثير يُطلب منه الكثير، ومن ائتُمن على الكثير يُطالب بأكثر" (الآية 48). كلّ مسؤوليّة تستجلب حسابًا ودينونة يتناسبان مع درجتها وكبرها. الكهنوت مسؤوليّة عظيمة لا حدود لها، لكون الكاهن يواصل رسالة المسيح، بل من خلاله وبواسطته يتواصل عمل المسيح الخلاصي. فإذا علّم الكاهن كلام الله، هو نفسه المسيح الذي يتكلّم، وإذا مارس أيّ سرّ من اسرار الخلاص، المسيح نفسه يمارسها. بقلب الكاهن المسيح يحب، وبعقل الكاهن ولسانه يفكّر بالحقّ وينادي به، وبإرادة الكاهن يعمل الخير، وبيده يبارك ويعطي. بعين الكاهن ينظر إلى حاجات الناس، وبأُذن الكاهن يسمع أنين المساكين.

 

ثانيًا، سنة الشهادة والشهداء

نفتتح في هذا الأحد السابق لعيد أبينا القديس مارون "سنة الشهادة والشهداء" التي تمتدّ من يوم عيده في 9 شباط وتنتهي في 2 اذار 2018 عيد أبينا البطريرك الأوّل القدّيس يوحنا مارون.

لقد اخترناها بقرار من سينودس أساقفة الكنيسة المقدّس المنعقد ما بين 10 و18 حزيران 2015، لمناسبة مرور 1500 سنة على استشهاد رهبان القدّيس مارون (517-2017) وتعيّد لهم كنيستنا في 31 تموز، ومرور 734 سنة على استشهاد البطريرك ارميا الحدشيتي (1277-1283)، ومرور 650 سنة على استشهاد البطريرك جبرائيل حجولا (1367-2017)، ومرور 157 سنة على استشهاد الطوباويّين الإخوة المسابكيّين الثلاثة مع عدد كبير من الموارنة سنة 1860 في دمشق وتعيّد لهم كنيستنا في 10 تموز.

تهدف هذه السنة اليوبيليّة إلى إحياء ذكرى جميع هؤلاء الشهداء، وإلى استذكار الشهداء المنسيِّين والمجهولين الذين استشهدوا في حقبات مختلفة من التاريخ ولا سيّما  في أيام المماليك والعثمانيّين، مرورًا بمجاعة الحرب العالميّة الأولى، وصولًا إلى شهداء الحرب اللبنانية الأخيرة. كما تهدف أيضًا إلى وضع لائحة بأسماء المجهولين والمنسيّين الذين سقطوا من أجل إيمانهم بالمسيح.

لقد وجّهتُ رسالة عامّة خاصّة بسنة الشهادة والشهداء من أربعة فصول: مسوّغات الاحتفال بسنة الشهادة والشهداء، مفهوم الشهادة والاستشهاد، ميزة الكنيسة المارونية ككنيسة الشهود والشهداء، توجيهات للاحتفال بهذه السنة.

نأمل أن تقود هذه الرسالة العامّة خطانا، حتى نواصل مسيرة الآباء والأجداد في الشهادة ليسوع المسيح، ولو حتى الدم. "فدم الشهداء بذار المسيحيّين".

 

صلاة

أيّها الربّ يسوع، أذكر برحمتك الكهنة والأحبار المتوفّين، الذين اخترتهم ليحملوا إلى الناس ثمار الفداء الخلاصي الذي تمّمته بموتك وقيامتك. أَشركهم في نعيمك الأبدي، مثلما أشركتَهم في خدمة كهنوتك على هذه الأرض. إغفرْ لهم بفيض من رحمتك ما ارتكبوا من خطايا وزلّات ونواقص. جمِّل كهنتك الذين يواصلون الخدمة في كنيستك بفضيلتَي الأمانة والحكمة والصفات الكهنوتيّة. أرسلْ، يا ربّ، لكنيستك دعوات كهنوتيّة مقدّسة تخدم رسالتك في الأبرشيّات والرعايا والأديار في لبنان والمشرق وعالم الانتشار، بشفاعة أمّنا مريم الكلِّية القداسة، أمّ الكهنة، وليرتفع من أفواههم ليل نهار نشيد المجد والتسبيح للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.