لبنان
18 آذار 2016, 14:43

التنشئة المسيحية : أحد الشعانين دخول يسوع ملكًا إلى أورشليم

يسوع ملك السلام وأخلاقية السلطة السياسية : مع أحد الشعانين نبلغ إلى نهاية الصوم الأربعين الذي دام ستة أسابيع على أن نكمّل مسيرة الصوم، بالصيام والتوبة وأعمال المحبة والرحمة، طيلة أسبوع الآلام. وبذلك نحن أمام محطتين:

المحطة الأولى، مع أحد الشعانين، ترمز إلى الاستعداد الداخلي لاستقبال المسيح في "أورشليم" نفوسنا وعائلاتنا ومجتمعنا ووطننا. والمحطة الثانية، مع أحد القيامة، حيث "نعبر" مع فصح المسيح بالموت عن إنساننا العتيق إلى قيامة إنساننا الجديد.

في مساء أحد الشعانين تجتمع جماعة المؤمنين للاحتفال "برتبة الوصول إلى الميناء"، بعد سفر الصوم الأربعين عبر بحر هذا العالم.

 

شرح نص الانجيل

من إنجيل يوحنا 12: 12-22

لَمَّا سَمِعَ الجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم، حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصْرُخُون:"هُوشَعْنَا! مُبَارَكٌ الآتِي بِٱسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل". ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب: "لا تَخَافِي، يَا ٱبْنَةَ صِهْيُون، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكِبًا عَلى جَحْشٍ ٱبْنِ أَتَان". ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوع، أَنَّ ذلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعُوهُ لَهُ.والجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ. مِنْ أَجْلِ هذَا أَيْضًا لاقَاهُ الجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أَنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة. فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: "أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!".

 الجماهير تتقاطر إلى أورشليم لثلاثة أسباب رئيسية: الأول، للاحتفال بالفصح اليهودي، بحسب مقتضى الشريعة التي تفرض القيام بعيد الفصح في مدينة أورشليم (تثنية 16: 5)؛ الثاني، لرؤية يسوع الذي ذاع صيته في كل مكان كمعطي الحياة، وصانع الآيات العجيبة (يو 12: 55-56)؛ الثالث، لمشاهدة لعازر الذي أقامه يسوع من الموت (يو 11: 32-44).

 هذه الجماهير استقبلت يسوع بعفوية كملك بأغصان النخل والزيتون، هاتفين به مخلصًا بالمفهوم السياسي ومحررًا من نير الاحتلال الروماني لأرض يهوه، ومن نير الظلم والاستبداد ومن حالة الفقر.

في القديم كانت الجماهير تستقبل، بأغصان النخل والزيتون والتصفيق والهتاف، الملك العائد إلى وطنه بعد انتصاره على الأعداء. هذا ما حصل مثلاً لسمعان المكابي الذي قاد ثورته ضد اليونان سنة 164 ق.م.، وعاد منتصرًا، فنُصّب ملكًا على أورشليم (راجع 1 مكابيين 13: 51).

إن هتاف الجمع:"هوشعنا، يا رب خلّص، مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل"، والآية النبوية، والاستقبال الشعبي العفوي، كلّه، كان نبويًا، لكونه استباقًا لانتصار يسوع على الخطيئة والموت، بموته وقيامته، فأصبح ملك الملوك وسيّد السادة. هذا ما أشار إليه يوحنا الرسول بقوله:"وما فهم تلاميذه ذلك، أوّل الأمر، ولكنّهم تذكروا، حين مُجّد يسوع، أن ذلك كُتب عنه" (يو 12: 16).

 ليس المسيح ملكًا كسائر الملوك، بل هو ملك المحبة والتواضع والسلام والفداء. ولذا استبدل حصان الملوك بجحش، والسلطان والهيمنة بالخدمة وبذل الذات حتى الموت على الصليب، فداءً للجنس البشري الذي يشكّل مملكته الجديدة، المتمثّلة بالكنيسة. فهي بداية ملكوت المسيح على الأرض، وتكتمل في مجد السماء.

في الكتب المقدسة، يسوع هو "صاحب كل سلطان في السماء والأرض" (متى 28: 18)، والجالس على العرش، وماسك الكواكب وكل الأشياء بكلمة قدرته، والممسك بمفاتيح السلطان الكوني (عبرا 1: 3؛ رؤيا 1: 17-18). ولذا كل سيادة في السماء وعلى الأرض تنبع من المسيح، وهي له "فإن به خَلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشًا ام سيادات أم رئاسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق (كول 1: 15-16) وهو "رأس كل رئاسة وسلطان وفوق كل سيادة وقوة وكلِ أسم يُسمّى ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضًا. وأخضع كل شيء تحت قدميه (كول 2: 10؛ أفسس 1: 21-22).

 ظهرت ملوكية يسوع على الأرض في تعليمه الذي شمل إعلان إنجيل الخلاص، ومصالحة الناس مع الله، والمبادئ الأخلاقية والسياسية السامية للعيش في المجتمع في سلام. ونرى في تعليم يسوع فلسفة سياسية عملية تفيد المؤمنين في إدارة شؤونهم، وشؤون مجتمعهم الأرضي. وعندما قال "أنا ما جئت لأنقض الشريعة وتعاليم الأنبياء بل لأكملها" (متى 5: 17)، يكون كل ما سبق وكُتب في أسفار العهد القديم، هو من صلب فكر المسيح السياسي كما الروحي. فهو "المشترع ومعطي القوانين" الذي بشّر به الأنبياء. وهو واضع الشريعة الطبيعية الأخلاقية وقد طبعها في الطبيعة البشرية، وعليها تتأسس القوانين الوضعية اللاحقة. لقد زرعها في ضمير الناس وأعطاهم الشرائع الحسنة ليعيشوا بموجبها. عن المسيح تنبّأ آشعيا:"هوذا قد جعلته مشترعًا ورئيسًا وموصيًا للشعوب" (اشعيا 55: 4).

كل تعليم يسوع السياسي موجّه إلى الإنسان في أي مجتمع كان، رافعًا مستوى الفكر الإنساني لقبول الآخر، وللمساواة بين الناس، بعيدًا عن التعصب والتمييز العنصري أو الديني أو الإتني.

 لقد ثار يسوع على سؤ استعمال الشرائع والوصايا من قبل الفرّيسيين ومعلمي الشريعة الذين أضافوا عليها تقاليد أبطلت فعليًا وصايا الله. وقد عنّفهم بقوله:"لماذا تخالفون أنتم وصية الله من أجل تقاليدكم، وتُبطلون بها كلام الله؟" (متى 15: 3 و6). لقد زادوا على الوصايا أحمالاً ثقيلة وصعبة لم يستطع الناس حملها. أما هم فلم يمسّوها بأحد أصابعهم (متى 23: 14؛ لو 11: 46).

 لم يكن يسوع ثائرًا على شريعة الله ووصاياه التي تقيّد بها وأطاعها، بل ثار على التقاليد المنافية لها. فهو لا يساوي التقاليد والأعراف بالوصايا الإلهية. والرب يسوع لم يقبل يومًا بالحرية الفردية التي يدّعي بها بعض الناس، وبخاصة في أيامنا، لعدم الخضوع للقوانين الإلهية والكنسية، ما يجعلهم فوضويين يهدمون بُنية المجمتع الأخلاقية والاجتماعية والوطنية.

ليست شريعة الله ووصاياه وتعليم الكنيسة عبئًا وعراقيل في حياة الانسان والشعوب، بل هي طريق يقي العثار ويبلغ بالانسان والمجتمع إلى ما هو حق وخير ونافع، وما هو عدل وانصاف.

 ملوكية يسوع مبنية على الشريعة القديمة الاساسية التي لم تطبّق أبدًا، فأعاد إحياءها: وهي "محبة الله بكل القلب والنفس والفكر والقدرة، ومحبة القريب كمحبة الذات". "وما من وصية أعظم من هاتين الوصيتين" (مر 12: 29-31).

على أساسها أعطى دستور مملكته الجديدة المعروف بانجيل التطويبات (متى 5: 1-12) وما تبعه من تعليم يفوق ويكمّل كل قديم في الفصول 5 و6 و7 من انجيل متى.

إن لقب "معلم" الذي ميّز يسوع، وقد "أُعجبت الجموع بتعليمه لأنه كان يعلّمهم كمن له سلطان، لا مثل معلمي الشريعة" (متى 7: 28-29)، جعل منه "يسوع المشترع".

 لكن نظرة الشعب، بما فيهم تلاميذ يسوع، كانت تختلف. فكانوا ينتظرون منهأن يأتي بتعليم ونضال سياسي علني يقودانهم إلى التحرر من نير الرومان وحكامهم أمثال بيلاطس والملوك الذين ولّوهم عليهم. كان الناس يرجون مسيحًا يقود ثورة تحرير وطني على النمط المكابي، ثم يملك، وهم تكون لهم أدوار في مملكته المنتظرة.

أما هو فقد خذلهم نوعًا ما، لأنه لم يأتِ كمحرّر وطني، ولا ليؤسس مملكة سياسية أرضية. بل جاء ليتمم مشروعًا خلاصيًا يحتاج إليه جميع البشر. فقد "جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو 19: 10). وبذلك يعمل على تغيير العالم، إنما بطرق مختلفة عن تلك التي يعتمدها المناضلون السياسيون وعلماء السوسيولوجيا والانتروبولوجيا والسياسة. فبينما يعمل هؤلاء العلماء على تغيير المجتمع وظروف الانسان الحياتية الشخصية، يعتمد المسيح والكنيسة خطة تغيير الانسان من الداخل ليصير قادرًا على إصلاح مجتمعه وجعل ظروفه أفضل وأكثر إنسانية.

هذه هي فلسفة المسيح السياسية التي تعتمدها الكنيسة بكل نشاطاتها وفي مؤسساتها.

 بسبب خيبة أمل الشعب وانتظاراته، بدأت الموأمرة على قتله يوم الشعانين بالذات. فيوم دخول يسوع أورشليم واستقباله العفوي كملك، "قال الفرّيسيون بعضهم لبعض: أنظروا، إنكم لا تنفعون شيئٍا! ها هو العالم قد ذهب وراءه" (يو 12: 19). وقد قالوا قبلها:"إذا تركناه على هذه الحال, آمن به جميع الناس، فيجيئ الرومانيون ويدمّرون هيكلنا وأمّتنا" (يو 11: 48). حينئذٍ قال قيافا رئيس الكهنة "إن موت رجل واحد فدىً عن الشعب خير من أن تهلك الأمّة كلها" (يو 11: 49-50).

علّق يوحنا الرسول في انجيله على قول قيافا:" تنبّأ قيافا أن يسوع سيموت فدى الأمّة. ولكن لا فدى الأمّة فقط، بل يموت ليجمع شمل أبناء الله" (يو 11: 51-52).

في الواقع عندما حضر فيليبس واندراوس ليقودا اليونانيين إلى يسوع، وقد أعربوا عن "رغبتهم في أن يروا يسوع" (يو 12: 20-22). حدّثهم الرب عن سرَ الفداء هذا، مشبّهًا موته وقيامته وولادة البشرية الجديدة، المتمثّلة بالكنيسة، "بحبة الحنطة التي إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير" (يو 12: 24).

وهكذا، تستقبل أورشليم اليوم بحشودها يسوع ملكًا فاتحًا، وبعد ستة أيام ستصلبه مرذولاً. يناديه الجموع اليوم "هوشعنا" أي "خلصنا"، وهم أنفسهم سيصرخون بعد ستة أيام:"خذه، خذه، أصلبه" (يو 19: 15). مأساة أورشليم تتكرر كلّ يوم في كلّ أصقاع العالم. كل مدينة هي أورشليم، إذا أبت أن تعرف المسيح، وتراه في كنيسته التي هي جسده السرّي، وفي وجه كل فقير ومتألم ومريض وجائع ومظلوم وسجين، وفي وجه كل محتاج ماديًا أو روحيًا، معنويًا أو ثقافيًا.

*

صلاة

أيها الرب يسوع، أهّلنا في ختام رحلة الصوم الأربعيني، وفي مسيرة سنة الرحمة المقدسة، أن نستقبلك في قلوبنا المنقّاة بالتوبة، وفي عائلاتنا الموحّدة بروابط المحبة والاحترام، وفي مجتمعنا المتصالح بك مع الله ومع ذاته، وأن نعترف بك ملكًا وسيّدًا أوحد على حياتنا وعلى تاريخ البشر.

لقد أشركتنا في ملوكيتك بنعمة المعمودية والميرون، وجعلتنا بهذه الصفة شهودًا للمحبة وللحقيقة، وبناة عدالة وسلام. أعطنا أن نحترم شريعتك الإلهية، الطبيعية والموحاة، وشريعة الكنيسة الوضعية، لكي نساهم في بناء مجتمع إنساني أفضل، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. أدخلنا يا رب، بعد وصولنا إلى ميناء الخلاص، في اسبوع فصحك الذي يعبر بنا إلى قيامة القلوب بانسان متجدد بنعمة موتك وقيامتك.

وإليك وإلى أبيك المبارك وروحك الحيّ القدوس، نرفع نشيد المجد والتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

المصدر : راديو فاتيكان