الفاتيكان
09 كانون الأول 2022, 12:15

التّأمل الثّاني لزمن المجيء مع واعظ القصر الرّسوليّ

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "باب الرّجاء" ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثّاني لزمن المجيء في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس.

إستهلّ كانتالاميسا تأمّله بالقول: "إنَّ هيكل أورشليم - نقرأ في سفر أعمال الرّسل - كان له باب يسمّى "الباب الحسن"؛ وهيكل الله الذي هو قلبنا له أيضًا باب "حسن"، وهو باب الرّجاء. وهذا هو الباب الذي نريد اليوم أن نفتحه للمسيح الذي يأتي. ولكن ما هو هدف "الرّجاء" الذي نعلن في كلّ قدّاس أنّنا في انتظاره؟ لكي نتنبّه للحداثة المطلقة التي حملها المسيح في هذا المجال، نحتاج إلى أن نضع الوحي الإنجيليّ على خلفيّة المعتقدات القديمة حول الحياة ما بعد الموت أو الحياة الأبديّة."

وتابع بحسب "فاتيكان نيوز": "حول هذه النّقطة، حتّى العهد القديم لم يكن لديه إجابة. ومن المعروف أنّ في نهايته فقط يوجد بعض الإشارات الواضحة حول الحياة ما بعد الموت. قبل ذلك، لم يكن إيمان شعب إسرائيل يختلف عن إيمان الشّعوب المجاورة، ولاسيّما إيمان شعوب بلاد ما بين النّهرين. لكنَّ الشيء الذي ميَّز شعب إسرائيل عن سائر الشّعوب هو أنه استمر رغم كلّ شيء في الإيمان بصلاح إلهه ومحبّته. ويسوع قد حمل هذا اليقين إلى أوجِّه وبعد أن أعلنه في الأمثال والأقوال قدّم دليلاً قاطعًا على ذلك بقيامته من بين الأموات. وبعده، لم يعد الموت بالنّسبة للمؤمن هبوطًا، بل إقلاعًا! ولأنّنا ما زلنا منغمسين في الزّمان والمكان، فإنّنا نفتقر إلى التّصنيفات الضّرورية لكي نشرح ما تقوم عليه هذه "الحياة الأبديّة" مع الله، وسنكون كمن يحاول أن يشرح ماهية الضّوء لشخص ولد أعمى. يكتفي القدّيس بولس بالقول: "يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِهَوان والقِيامَةُ بِمَجْد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بضُعْف والقِيامةُ بِقُوَّة. يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا".

لقد أُعطي بعض المتصوّفين أن يختبروا، منذ هذه الحياة، بضع قطرات من محيط الفرح اللّامتناهي الذي حفظه الله لخاصّته؛ لكنّهم جميعًا يؤكّدون بالإجماع أنّه لا يمكن وصفه بكلمات بشريّة. وأوّلهم هو الرّسول بولس، الذي يعترف لأهل كورنثوس بأنّه قد "اختُطف إلى السّماء الثّالثة قبل أربع عشرة سنة، اختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا تلفظ ولا يحلّ لإنسان أن يذكرها". والذّكرى التي تركتها هذه الخبرة فيه تظهر فيما يكتبه في مناسبة أخرى: "ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر، ذلك ما أعده الله للذين يحبّونه".

إنَّ التّأمل حول الرّجاء المسيحيّ يعني التّأمل حول معنى حياتنا. وهناك شيء واحد مشترك بين الجميع، في هذا الصّدد: التّوق والعيش "الكريم". ويعبّر القدّيس أوغسطينوس عن جوهر هذه المشكلة ويقول: "ما فائدة العيش الكريم، إذا لم يُعطى لنا أن نعيش إلى الأبد؟". ويسوع كان قد قال قبله: "فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه، وفقد نفسه أو خسرها؟". هذا هو المكان الذي يندرج فيه جواب الرّجاء الذي يؤكّد لنا أنّ الله قد خلقنا للحياة وليس للموت، وأنّ يسوع قد جاء ليكشف لنا الحياة الأبديّة ويعطينا الضّمان بقيامته من بين الأموات. إنَّ الرّجاء في الحياة الأبديّة هو ما يجعل الحياة الحاضرة جميلة، أو على الأقلّ مقبولة. لدينا جميعًا نصيبنا من الصّليب في هذه الحياة، مؤمنين وغير مؤمنين على حدّ سواء. لكن هناك فرق في أن نتألّم دون أن نعرف لأيّ غرض نحن نتألّم، وأن نتألّم عارفين أنّ "آلام الزّمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلّى فينا.

للرّجاء دور مهم في البشارة. وأحد العوامل الحاسمة في الانتشار السّريع للإيمان، في الأيّام الأولى للمسيحيّة، كان الإعلان المسيحيّ عن حياة ما بعد الموت أكثر كمالاً وفرحًا من الحياة الأرضيّة. في الرّسالة الأولى للقدّيس بطرس، يُقدَّم نشاط الكنيسة الخارجيّ، أيّ نشر الرّسالة، على أنّه "دليل ما نحن عليه من الرّجاء": "قدّسوا الرّبّ المسيح في قلوبكم. وكونوا دائمًا مستعدّين لأن تردوا على من يطلب منكم دليل ما أنتم عليه من الرّجاء". وعند قراءة الرّوايات التي تتبع رواية عيد الفصح، يخالجنا الشّعور بأنّ الكنيسة قد ولدت من حركة "رجاء حيّ" وبهذا الرّجاء شرع الرّسل في غزو العالم. واليوم أيضًا، نحن بحاجة إلى تجديد الرّجاء إذا أردنا أن نشرع ببشارة جديدة، لأنّه لا يمكننا أن نفعل شيئًا بدون رجاء. تقارن الرّسالة إلى العبرانيّين الرّجاء بالمرساة: "هو لنا مثل مرساة للنّفس أمينة متينة". آمينة ومتينة لأنّها قد أُلقيت في الأبديّة. لكن لدينا أيضًا صورة أخرى للرّجاء، وهي الشّراع. إذا كانت المرساة هي التي تمنح السّفينة الأمان وتحافظ على ثباتها وسط تأرجح البحر، فإنّ الشّراع هو الذي يجعلها تتحرّك وتتقدّم في البحر. وبالتّالي فإنَّ الرّجاء يقوم بهذين الأمرين بسفينة الكنيسة.

لنُلقِ نظرة على ما حدث للرّجاء المسيحيّ لأكثر من قرن إلى اليوم. في البداية كان هناك هجوم مباشر عليه من قبل رجال مثل فيورباخ وماركس ونيتشه. كان الرّجاء المسيحيّ، في كثير من الحالات، الهدف المباشر لانتقادهم. الحياة الأبديّة، الآخرة، الفردوس: جميع هذه الأشياء كانت تُعتبر إسقاطًا وهميًّا لرغبات الإنسان واحتياجاته التي لم تتحقق في هذا العالم، كـ "إهدار في السّماء للكنوز المخصّصة للأرض". وقد حاول المسيحيّون أن يدافعوا عن محتوى الرّجاء المسيحيّ، غالبًا بانزعاج خفيّ. لقد كان الرّجاء المسيحيّ "أقلّيّة". ونادرًا ما كان يتم الحديث عن الحياة الأبديّة والوعظ عنها. أمّا الآن، فقد تغيّر الوضع جزئيًّا. ولم تعد مهمّتنا إزاء الرّجاء أن ندافع عنه ونبرّره فلسفيًّا ولاهوتيًّا، وإنّما أن نعلنه ونظهره ونعطيه لعالم فقد معنى الرّجاء ويغرق أكثر فأكثر في التّشاؤم والعدميّة.

إنَّ إحدى طرق جعل الرّجاء نشيطًا ومعديًا هي تلك التي صاغها القدّيس بولس عندما قال إنّ "المحبّة ترجو كلّ شيء". وهذا الأمر لا ينطبق فقط على الفرد، وإنّما أيضًا على الكنيسة ككلّ. وبالتّالي فالكنيسة تصدِّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتتحمّل كلّ شيء. ولذلك لا يمكن للكنيسة أن تعطي العالم هديّة أفضل من أن تمنحه الرّجاء، لا آمالًا بشريّة أو مؤقّتة أو اقتصاديّة أو سياسيّة بل رجاءً خالصًا وبسيطًا، أُفُقه هو الحياة الأبديّة وضمانه هو يسوع المسيح وقيامته من بين الأموات. وسيكون هذا الرّجاء عندئذ نقطة انطلاق لجميع الآمال البشريّة المشروعة الأخرى.

يشتهر باب الهيكل المسمّى "الحسن" بالمعجزة التي حدثت بالقرب منه. كان هناك كسيح يرقد أمامه يطلب الصّدقة. ذات يوم مرّ بطرس ويوحنا ونعلم ما حدث. شُفي، فقام وثبا، بعد سنوات كان مُلقى فيها هناك، لقد عبّر هو أيضًا ذلك الباب ودخل الهيكل، يقول النّصّ، "ماشيًا قافزا يسبح الله". قد يحدث شيء مشابه لنا فيما يتعلّق بالرّجاء. غالبًا ما نجد أنفسنا، روحيًّا، في وضع الكسيح على عتبة الهيكل: خاملين، فاترين، ومشلولين أمام الصّعوبات. ولكن هوذا الرّجاء الإلهيّ يمرّ بقربنا، تحمله كلمة الله، ويقول لنا أيضًا، مثلما قال بطرس للكسيح: "قم وامش!" فنقوم ونثبو وندخل إلى قلب الكنيسة، مستعدّين لتحمل المهام والمسؤوليّات مرّة أخرى وبفرح. إنّها معجزات الرّجاء اليوميّة. بالإضافة إلى البشارة، يساعدنا الرّجاء في مسيرتنا الشّخصيّة للقداسة. فهو يصبح في من يمارسه مبدأ التّقدّم الرّوحيّ، ويسمح لنا دائمًا بأن نكتشف "إمكانيّات خير" جديدة، وأمورًا يمكننا دائمًا أن نقوم بها، فلا يتركنا نسقط في الفتور والكسل.

يمكن لعيد الميلاد أن يكون مناسبة لكي نقوم بقفزة رجاء. كتب الشّاعر الحديث العظيم للفضائل اللّاهوتية، شارل بيغي، أنّ الإيمان والرّجاء والمحبّة هم ثلاث شقيقات، اثنتان بالغتان والثّالثة صغيرة. يسرنَ في الشّارع ويمسكن بأيدي بعضهنَّ البعض: الكبيرتان، الإيمان والمحبّة، على كلّا الجانبين والصّغيرة الرّجاء في الوسط. والجميع، لدى رؤيتهنَّ، يعتقدون أنّ الكبيرتان تجرّان الصّغيرة، ولكنّهم مخطئون! لأنّها هي التي تجرُّ كلّ شيء. لأنّه إذا غاب الرّجاء، يتوقّف كلّ شيء."