البطريرك ساكو: من القربان الفِديَة الى القربان الحبّ
"كلمة القربان من اللّغة السّريانيّة "ܩܘܪܒܢܐ"، أيّ من فعل قرُبَ، قريبٌ من، قرَّبَ، مُقرَّب، قرابة… ويسمّى الاحتفال بالإفخارستيّا Eucharist لدى الكنائس ذات التّقليد السّريانيّ "الاحتفال بالقربان".
نجد في تقاليد جميع الدّيانات ممارسة القرابين، التّقادم في مراسيم العبادة، وبأشكال مختلفة. هذا نابعٌ من قناعة الإنسان بأنّ وجوده مرتبط بخالق الكون، وعليه أن يتواصل بين المرئيّ واللّامرئيّ. وكلّ فعل لا ينسجم مع إرادة الخالق فهو خطيئة، ممّا يحتّم أن يكفرّ عنه بفدية- قربان، لتجنّب غضب الله واحتماليّة الانتقام. ويهدف أيضًا إلى استعادة التّواصل المتناغم مع المسار الطّبيعيّ وعودة العلاقة مع الخالق، ويشمل السّلوك الشّخصيّ والجماعيّ.
الكفّارة تعني ستر الخطيئة وتغطيتها حتّى لا تظهر أمام الله فيدين مقترفها. المحرّك هو عامل الخوف والرّعب من الانتقام. كان القُدامى يقدّمون أحيانًا أضحيّة بشريّة مثل يفتاح قدّم ابنته (سفر القضاة الفصل 11)، أو من قطعانهم أو من ثمار أرضهم (الباكورة). هذا ما نقرأه في سفر التّكوين. تستمرّ القرابين التّكفيريّة في الهيكل بالنّسبة لليهود، للمصالحة مع الله وإبعاد القصاص. ثمّ تحوّلت هذه القرابين- الذّبائح إلى عمليّة التّطهير الذّاتيّ والجماعيّ، أيّ إلى التّوبة والانسحاق… هذه القرابين ترسّخ علاقة الإنسان مع الله مصدر الحياة، وتؤمّن له الاستمراريّة.
قربان ابراهيم
عمومًا يهيمن على هذه القرابين البعد المادّيّ، لكن مع ابراهيم تبدأ مرحلة جديدة من القرابين، مرحلة العلاقة الحميميّة مع الله. لقد طلب منه الله أن يقدّم وحيده اسحق (اضحك) قربانًا تعبيرًا عن طاعته المطلقة له (تكوين فصل 22). هذا القربان– التّضحية بأعزّ ما لديه يعبّر عن بُعد روحيّ لتسليم الذّات. أمام طاعة ابراهيم يرفض الله ذبيحة بشر ويستبدلها باُضحية حيوان.
قربان يسوع، القربان الحبّ
قربان يسوع يتخطّى المعنى المادّيّ إلى المعنى الوجدانيّ. فقد عدّ يسوع نفسه قربان الحبّ "ما من حُبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبّائه" (يوحنّا 15/11). وهنا نجد تشابهًا بين قربان ابراهيم غير المنجز بذبيحة ابنه، وقربان الله المنجز بابنه الحبيب يسوع المسيح. إعتبر المسيحيّون الأوائل ذبيحة المسيح ذبيحة فداء– كفّارة، وينبوع حياة جديدة، كما تقول الرّسالة الأولى ليوحنّا: "إن أخطأ أحدٌ فلنا عند الآب، يسوع المسيح البارّ، كفّارة عن خطايانا" (1يوحنا 2/1-2). ويذكر مار بولس أنّ "المسيح دخل إلى الأقداس بدم نفسه فوُجِد فداءً أبديًّا" (عبرانيّين 9/12)، "يكفِّر عن خطايا الشّعب" (عبرانيّين 2/17). نفس المفهوم نجده عند يوستينس الّذي استشهد عام 165 (الدّفاع الأوّل فقرة 66/2).
لقد تخطّى المسيحيّون منذ نهاية القرن الأوّل مفهوم القربان الفدية إلى القربان الحبّ. هكذا عند الآباء الرّسوليّين نهاية القرن الأوّل والثّاني، كاغناطيوس الأنطاكيّ واقليمس أسقف روما وبولكربوس أسقف إزمير وآخرين.. إنّه "قربان القرابين". بدمه تجدّدت فينا الحياة وهو مخلّصنا (إغناطيوس رسالة الى إزمير 7/1-2). "إنّه دواء الخلود، تقدمة معدّة لتحفظنا من الموت، وتؤمّن لنا الحياة الدّائمة في المسيح" (رسالته إلى أفسس 20/2).
رأى آباء الكنيسة في حبّ الشّهداء اقتداءً بالمسيح، إن كان عن طريق الاستشهاد أو عن طريق العيش في صحراء كراهب. تقول قصّة استشهاد بوليكربس أسقف أزمير: "أباركك لأنّك أهّلتني في هذا اليوم، لأكون من عداد شهدائك، ومن مساهمي كأس مسيحك لقيامة الرّوح والجسد في الحياة الأبديّة من دون فساد". (القصّة 14/3).
تقديم المسيحيّ لذاته
انّ الله لا يطلب منّا قرابين عينيّة بل يطلب منّا أن نكون نحن أنفسنا قربانًا حيًّا بكليّتنا جسدًا وروحًا ومشاعر. نعبّر عنه بعلاقة وجدانيّة– حُبّيّة وبمواقف وأفعال وليس شكليًّا. يريدنا المسيح أن نكون قربان حبّ على مثاله، لأنّنا امتداد لجسده السّرّيّ. ومنه نستمدّ قدسيّة قرباننا وله نشهد في حياتنا عندما نكون مثله خبزًا مكسورًا لإخوتنا. يقول أغناطيوس الأنطاكيّ (استشهد سنة 107): "يسوع المسيح وهو على الصّليب، يدعوكم إليه، كونكم أعضاءه" (الرّسالة إلى تراليان 9/10)، "لقد بدأت أن أكون تلميذًا للمسيح… ليعملوا فيَّ تمزيقًا.. وليبتروا أعضائي وليطحنوا جسدي" (الرّسالة إلى روما 5/2-3).
ترتيلة التّقدمة للقدّاس، من كلماتي وتلحين الأب أمير كمو
إلهي نرفع اليك هذا القربانَ،
تقدمةَ حبٍّ وحمدٍ، من خبٍز وخمرٍ، من رزقنا،
ليصيرا لنا جسدَ المسيحٍ ودَمَه الثّمينَ،
للسّلام والأمان والحياة الأبديّة."