العراق
20 أيار 2021, 13:30

البطريرك ساكو: الدّستور المدنيّ والدّيمقراطيّة ضمان وحدة المجتمع وتنوّعه وانسجامه

تيلي لوميار/ نورسات
شارك بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو في مؤتمر نظّمته جامعة كوردستان في أربيل، تحت شعار "الوحدة والدّستور في إقليم كوردستان"، ألقى خلاله كلمة قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة:

"في البداية يسعدني أن أحيّي فخامة رئيس الإقليم السّيّد نيجيرفان برزاني ورئيس الوزراء السّيّد مسرور البرزاني والسّيّدة ريواز فائق رئيس برلمان الإقليم والسّيّدات والسّادة الحاضرين. أشكر رئيس الإقليم ومساعديه على مساعيه الطّيّبة في إنجاح زيارة قداسة البابا فرنسيس للإقليم. هذه الزّيارة التّاريخيّة أتمنّى من المركز والإقليم استثمارها لخيرهما.. كما لا يسعني سوى أن أقدّم لإقليم كوردستان حكومة وشعبًا الشّكر العميق على استقباله واحتضانه آلاف المهجّرين مسيحيّين وغيرهم الّذين طردوا من بيوتهم من قبل عناصر تنظيم الدّولة الإسلاميّة داعش ومن قبلها تنظيم القاعدة. جازاهم الله خيرًا.

أشكركم على هذا اللّقاء الّذي يجمعنا حول الوحدة والدّستور، مع تقديري العالي لجامعة كوردستان في أربيل ممثّلة برئيسها الدّكتور هيجا السندي، على تنظيمها لهذا المؤتمر ودعوتها لمناقشة هذا الشّأن المفصليّ. إنّها  حالة صحّيّة وحضاريّة، تبيّن أنّ ثمّة من يفكّر ويدعو إلى التّدارس المسؤول، تجاه ما يجمع عليه الكثيرون من ضرورة التّجدّد والمواكبة.

هذه بعض أفكار أطرحها على حضراتكم مركّزًا فيها.

1. التّحديث ضرورة ملحّة

عند إلقاء نظرة فاحصة على ما حولَنا، سرعان ما نواجه حقيقة أنّ العالم تغيّر، وغدا "قرية صغيرة" يمكن الاتّصال به بسرعة وبشكل مباشر عبر وسائل الاتّصالات الحديثة، سوشيال ميديا والتّقنيّة. العالم مرتبط ببعضه ارتباطًا مصيريًّا، ولا يمكن للشّعوب أن تعيش معزولة عن المجتمع العالميّ وثقافته، لذلك يتعيّن على القادة التّعامل مع هذه التّحوّلات الحقيقيّة والكبيرة بجدِّيّة.

إزاء هذا التّطوّر ما نلبث أن نلمس بأنّ الحداثة والتّحديث ضرورة ملحّة. الحداثة تتماشى مع الطّبيعة البشريّة الفطريّة، ومع القوانين الدّوليّة ورسالة الأديان. وينبغي القيام بها بثقة، وفق آليّات ديمقراطيّة حقيقيّة، ونظام تربويّ دقيق، خصوصًا أنّ في العراق كمركز وإقليم، والمنطقة مجتمعات متعدّدة القوميّات واللّغات والأديان والمذاهب؛ وتمرّ بمرحلة سياسيّة (صراعات وحروب) واجتماعيّة وثقافيّة شديدة الحساسيَّة.

2. لا بدّ من دستور مدنيّ

السّبيل المطروق في عصرنا تجاه هذا الواقع، هو أنّه لا بدّ من دستور مدنيّ ينسجم مع الواقع الجديد. دستور يتأسّس على ثوابت معتمدة عالميًّا، يقرّها القانون الدّوليّ ضمن شرعة حقوق الإنسان كالاعتراف بالتّعدّديّة والجندر والتّنوّعات المشروعة إنسانيًّا وقانونيًّا. وعليه ضروريٌّ التّحرّر من القوانين القديمة خصوصًا الاجتماعيّة المتّصلة بالأحوال الشّخصيّة وحرّيّة الضّمير، ومعظمها من مخلّفات الموروث القبليّ القديم والدّولة العثمانيّة.

هذا التّحديث والتّأوين يجب أن يستند إلى الأسس البنيويّة، ورؤيةٍ واضحةٍ للأنموذجِ السّياسيّ المزمع بناؤه، مع إيجاد آليّة تنفيذ فاعلة، ونهج متابعة قانونيّة سياديّة لصون الدّستور وتطبيقه،  وإلّا سيؤدّي الأمر في النّهاية إلى تآكل النّظام والدّيمقراطيّة.

ممّا يدعو إلى الارتياح والتّفاؤل أنّ إقليم كوردستان يمتلك كلَّ الإمكانيّات لبناء إقليم ديمقراطيّ بدستور  وقوانين مدنيّة مؤونة، بحيث يغدو نموذجًا نوعيًّا يحتذى به، في المنطقة.

أجل أيّها الإخوة والأخوات، ليسمح لنا بالقول، إنّه لا خلاص إلّا بدستور حديث يقوم على نظام مدنيّ وديمقراطيّ يقف على مسافة واحدة من الكلّ. هذا الدّستور المدنيّ سيَسحب البساط، من تحت أقدام المتطرّفين والمتحزّبين والطّائفيّين على اختلاف انتماءاتهم.

ودعونا نتساءل كيف يكون النّظام الّذي يتطلّع إليه في المنطقة إنسان اليوم؟      

الإقليم (والدّولة) شخصيّة معنويّة- اعتباريّة وليس شخصيّة حقيقيّة، فلا يمكن أن ندعوه تحت أيّ مسمّيات دينيّة مسلمة كانت أو مسيحيّة.  

3. التّمييز بين النّظام السّياسيّ والدّين

ولا بدّ من التّطمين بأنّ النّظام المدنيّ نظام وطنيّ إنسانيّ وليس مشروعًا دينيًّا دعوتيًّا- تبشيريًّا. المدنيّة ترتبط بحياة المجتمع بحياديّة. تسنّ قوانينها ودستورها على المواطنة، وبالمساواة مع كلّ شرائح شعبها، وتضمن حقوقهم وواجباتهم، وتوفّر لهم حياة كريمة. النّظام المدنيّ يُحافظ على وحدة المجتمع والتّنوّع، ويرسّخ الانتماء والولاء إلى الوطن. ويتيح الدّستور المدنيّ، وبقانون، المجال للمواطن بممارسة إيجابيّة فاعلة لدوره الوطنيّ، لبناء مجتمع يحتضن الخدمة الإنسانيّة الطّوعيّة، ويدعم التّكافل الاجتماعيّ، ويؤسّس لقانون ضرائبيّ، يُساهم في تطوير البنية التّحتيّة، والرّعاية الاجتماعيّة.. الدّستور المدنيّ يضمن الوحدة والتّنوّع ويرسّخ التّماسك الاجتماعيّ.

المدنيّة نظام لإدارة الشّأن العامّ. تحتضن كلّ الأديان والثّقافات والجماعات واللّغات وتدير شؤونهم العامّة بعدالة، وتحميهم أمام المخاطر. المدنيّة لا تتدخّل في اختيارات مواطنيها الدّينيّة. في الدّولة المدنيّة يستطيع المواطن أن يكون مسيحيًّاً أو مسلمًا أو من ديانة أخرى؛ أن يذهب إلى الكنيسة أو الجامع أو دار آخر للعبادة لممارسة شعائره الدّينيّة بحرّيّة، ولا تجبر أحدًا، بنحو مباشر أو غير مباشر، على اعتناق دين معيّن، أو مذهب محدّد كما لا تجبره على الممارسة الطّقوسيّة الدّينيّة. فهذا حقّ شخصيّ لا إكراه فيه، ولا تؤدلج المدنيّة سياستها على دوغمائيّة (عقيدة) معيّنة تصطنعها للوصول إلى السّلطة والهيمنة. النّظام المدنيّ يحاسب قانونيًّا من يثير النّعرات والكراهيّة.

خلاصة القول إنّ إقحام الدّين في السّياسة هو تشويه له ولقيمه السامية، لأنّ الدّين يختلف عن السّياسة. الدّين نظام معتقدات وممارسات وطقوس مقدّسة. ومهمّة رجال الدّين هي في توجيه سلوك المؤمنين من خلال إسداء النّصيحة والإرشاد ورفع المعنويّات– والثّقة وإشاعة ثقافة التّسامح والمحبّة والاحترام المتبادل ليعيش المجتمع بسلام واستقرار وتناغم. وهذا ما ورد في خطابات قداسة البابا خلال زيارته للعراق "كلّنا إخوة" متنوّعون ويجب احترام بعضنا البعض والتّعاون من أجل مجتمع أفضل.  

4. لا بدّ من نظام ديمقراطيّ حقيقي.

الديمقراطيّة ليست ديكورًا، بل تعني: ضمان الحرّيّات وحقوق الإنسان وكرامته، ونشر ثقافة الحياة وازدهار الاقتصاد. الفكر المدنيّ يؤمن بأنّ الحاكميّة للشّعب وأنّ الشّعب مصدر السّلطات والسّلطة الّتي يجب أن يتمّ تداولها بين من هم الأكفأ على القيادة.

أخيرًا أيّها الأحبّة، إنّ الحلّ والمستقبل لتقدّم الشّعوب ووحدتها، وبالملموس المعاصر، هو إرساء ديمقراطيّة حقيقيّة بدستور مدنيّ تحميه مؤسّسات الدّولة ذات الصّلة، ويحترم حرّيّة الأفراد والجماعات.

شكرًا."