البطريرك الرّاعي من مؤتمر الأزهر لنصرة القدس: لعدم السّماح لأيّ كان بزرع التّفرقة بين العرب وعدم استئثار أيّ دين أو قيادة بمدينة القدس
"يسعدني أن أحيّيكم جميعًا وأشارك في أعمال هذا المؤتمر. وفيما أحيّي الدّكتور أحمد الطّيّب شيخ الأزهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين، أودّ الإعراب له عن تقديري لتنظيم هذا المؤتمر الكبير الأهمّيّة، وعن شكري على الدّعوة للمشاركة فيه.
أتناول في مداخلتي قسمين: الأوّل، لمحة تاريخيّة، والثّاني سؤالان: ماذا تشمل نصرة القدس؟ وماذا يجب فعله لبلوغ الهدف؟
أوّلاً، لمحة تاريخيّة
المقصود من اللّمحة التّاريخيّة أن نبيّن كيف أنّ خلق دولة إسرائيل وليد خطّة مبرمجة ترقى إلى سنة 1887 مع ولادة الحركة الصّهيونيّة، وإلى سنة 1897 مع عقد مؤتمر Basilea الّذي أسّس "للدّولة اليهوديّة"، فإلى الحالة الحاضرة.
إنّ قضيّة القدس لا تنفصل عن قضيّة فلسطين، ولا حلّ للواحدة من دون الأخرى، لترابطهما العضويّ. كلّنا يدرك أن السّلام والعيش معًا على الأرض المقدّسة وفي الشّرق الأوسط لا مستقبل لهما، من دون أن تحلّ المسألة السّياسيّة الخاصّة بالقدس والنّزاع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ.
نحن المسيحيّون نحمل هذه القضيّة في فكرنا وقلبنا وصلاتنا، لأنّها تمسّنا في الصّميم. فحال بداية مأساة الفلسطينيّين وتهجيرهم من أراضيهم سنة 1948، وجّه سلفنا السّعيد الذّكر البطريرك أنطون عريضه بتاريخ 24 نيسان 1948 تعميمًا حضّ فيه "أبناء الطّائفة المارونيّة على القيام بالواجبات الّتي تفرضها المحبّة المسيحيّة والضّيافة اللّبنانيّة. فيترتّب عليكم أن تفتحوا بيوتكم وأدياركم لاستقبال المنكوبين في فلسطين، والتّخفيف من الآلام الّتي يقاسونها". وبعد شهر وجّه نداء للصّلاة من أجل تسوية قضيّة فلسطين تسوية عادلة (راجع غازي جعجع: البطريرك مار أنطون بطرس عريضه (2006)، صفحة 286-287).
وسلفنا المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال أنطونيوس خريش، خاطب من نيويورك في مؤتمر صحافيّ تاريخ 14 أيلول 1981، الولايات المتّحدة الأميركيّة قائلاً: "بما أنّها الدّولة الّتي تتزعّم الدّول المدافعة عن العدالة والسّلام وحقوق الشّعوب، عليها أن تطبّق هذه المبادئ على جميع شعوب المنطقة، وعليها بالتّالي، كما ساندت قضيّة إيجاد وطن للشّعب اليهوديّ أن تساند أيضًا قضيّة إيجاد وطن للفلسطينيّين. وبهذه الطّريقة تحلّ مشكلة الشَرق الأوسط (راجع د. جورج هارون: تاريخ البطاركة الموارنة (2009)، صفحة 529). ونحن من جهتنا نسير على هذا الخطّ.
إنّ قضيّة القدس، موضوع هذا المؤتمر هي في صميم وجدان الكنيسة الكاثوليكيّة منذ عهد البابا لاون الثّالث عشر الّذي أصدر سنة 1887 إرادته الرّسوليّة بعنوان "الرّبّ والمخلّص" (Domini et Salvatoris). فتكلّم عن الأرض المقدّسة عامّة والقدس بخاصّة داعيًا إلى المحافظة على الأماكن المقدّسة بكلّيّتها. وابتدأت في الوقت عينه الحركة الصّهيونيةّ كردّة فعل على سلسلة من الإجراءات لإبادة اليهود، من قبل قياصرة روسيا، عرفت بلفظة Pogroms كانت غاية الحركة إيقاظ ضمير اليهود، وإظهار ضرورة اللّجوء إلى وجهة محدّدة هي فلسطين.
في آب 1897، عقد مؤتمر Basilea، فكتب من بعد ختامه تيودور هيرتزل، الكاتب والمفكّر اليهودي المجريّ (1860-1904) قائلاً: "في Basilea أسّست الدّولة اليهوديّة". وعندما استقبله القدّيس البابا بيوس العاشر في 26 كانون الثّاني 1904، طلب منه دعم مسعى اليهود المضطهدين لتكون فلسطين بلدهم. فأجاب البابا بالنّفي: "لا نستطيع دعم هذا المسعى".
وفي 2 تشرين الثّاني 1917، كتب Arthur James Balfour وزير خارجيّة بريطانيا إلى زعيم الحركة الصّهيونيّة الإنكليزيّة Lord Rothshild: "إنّ الحكومة والمملكة البريطانيّة تحبّذان إنشاء "بيت وطنيّ" (home) للشّعب اليهوديّ في فلسطين، وستستخدمان أفضل السّبل لتسهيل بلوغ هذا الهدف، مع حفظ الحقوق المدنيّة والدّينيّة الخاصّة بالجماعات غير اليهوديّة" (Edmond Farhat: Gerusalemme p.19). في كانون الأوّل 1917 احتلّ العسكر البريطانيّ القدس، وبعد ثلاث سنوات تولّت بريطانيا الانتداب على فلسطين.
فكان اعتراض كلّ من بطريرك أورشليم Barlassina والبابا بندكتوس الخامس عشر، والبابا بيوس الحادي عشر، في سنتي 1921 و1922، على انتزاع اللّون المسيحيّ عن مدينة القدس، وعن انكشاف نيّة الصّهيونيّة باحتلال كلّ فلسطين، وكلّهم طالبوا بالمحافظة على الأراضي المقدّسة والدّفاع عن فلسطين ومسؤوليّة الأمم المتّحدة (المرجع الساّبق، ص251-289).
في 29 تشرين الثّاني 1947 أصدرت منظّمة الأمم المتّحدة القرار 181 الّذي قضى بقسمة فلسطين إلى دولتين: دولة يهوديّة ودولة عربيّة، وحدّد حدودهما، وجعل القدس "كيانًا منفصلاً" مع دائرة أراضي بحوالي عشر كيلومترات، بحيث ينعم بنظام دوليّ خاصّ. وفي 14 أيّار 1948 انتهى الانتداب البريطانيّ، فأعلن David Ben Gurion رئيس الحكومة المؤقّتة الّتي أنشئت قبل انتهاء الانتداب بيوم واحد ولادة دولة إسرائيل، فاعترفت بها حالاً الولايات المتّحدة الأميركيّة، وبعدها فورًا الاتّحاد السّوفياتيّ. Ben Gurion نفسه سبق وقال سنة 1937: "بعد إنشاء جيش كبير في أعقاب خلق الدّولة، سنلغي هذه القسمة، ونحتلّ كلّ فلسطين" (راجع المرجع في مقال أمين عيسى في Week-end L'OLJ 13 كانون الثّاني 2018، صفحة 9). فدارت للحال اشتباكات عنيفة انتهت بعد أن أوقفتها منظّمة الأمم المتّحدة بانقسام مدينة القدس إلى اثنتَين: المدينة الجديدة بيد الإسرائيليين، والمدينة القديمة وبعض المناطق الشّرقية بيد الأردنّ (المرجع نفسه، ص25).
ومنذ عهد البابا بيوس الثّاني عشر، وتحديدًا منذ سنة 1948، والبابوات يقفون إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة ويطالبون بحلّ عادل لها، وإلى جانب مدينة القدس. إنّ آخر موقف في هذا الخطّ الطويل عبّر عنه قداسة البابا فرنسيس في خطابه إلى أعضاء السّلك الدّيبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرّسوليّ، في 8 كانون الثّاني الجاري، داعيًا إلى احترام "الوضع الرّاهن" للقدس كمدينة مقدّسة للمسيحيّين والمسلمين واليهود، وفقًا لقرارات الأمم المتّحدة، وإلى إيجاد حلّ سياسيّ، بعد سبعين سنة، يقرّ بوجود دولتين مستقلّتين ضمن حدود معترف بها دوليًّا".
في حرب 1967، احتلّت إسرائيل مدينة القدس بكاملها. قال يومها موشيه دايان وزير الدّفاع أمام حائط المبكى: "هل من حاجة لنا لمثل هذا الفاتيكان؟" (راجع مقال أمين عيسى أعلاه). هذا الاحتلال شجبته قرارات مجلس الأمن، ولاسيّما القرار 252، تاريخ 21 أيّار 1968، الّذي دعا إسرائيل إلى إلغاء جميع إجراءاتها لتغيير وضع القدس. وهو "يعتبر أنّ جميع الإجراءات الإداريّة والتّشريعيّة، وجميع الأعمال الّتي قامت بها إسرائيل بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك الّتي من شأنها أن تؤدّي إلى تغيير في الوضع القانونيّ للقدس، هي إجراءات باطلة، ولا يمكن أن تغيّر في وضع القدس. ويدعو إسرائيل بإلحاح إلى أن تبطل هذه الإجراءات، وأن تمتنع فورًا عن القيام بأيّ عمل آخر من شأنه أن يغيّر في وضع القدس". ثم تكرّرت الدّعوة إيّاها في القرار 267 بتاريخ 3 تمّوز-يوليو 1969، وسواها من القرارات المماثلة، ولكن من دون جدوى، بسبب الدّعم الّذي تتلقّاه إسرائيل في عدم امتثالها من دول نافذة. وكان آخر المطاف قرار الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب في 6 كانون الأوّل الماضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبنقل السّفارة الأميركيّة إليها، متحدّيًا الإرادة الدّوليّة.
سردت هذه اللّمحة التّاريخيّة السّريعة لأبيّن أن كلّ شيء مبرمج في إسرائيل ولم يكن انتهازيَّا أو وليد الصّدفة. فقد تهيّأت ولادة دولة إسرائيل الصّهيونيّة على مدى ستّين سنة، كما رأينا، أيّ من سنة 1887 إلى سنة 1947. وكان احتلال مدينة القدس بكاملها سنة 1967 أيّ بعد ولادة إسرائيل بعشرين سنة (1947-1967). وكان بعد خمسين سنة القرار الأميركيّ، المخالف لجميع قرارات مجلس الأمن ومنظّمة الأمم المتّحدة، بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل.
ثانيًا، سؤالان
في ضوء كلّ ذلك، نطرح سؤالين بشأن نصرة القدس: ماذا تشمل هذه النّصرة؟ وماذا يجب أن نفعل لنصرة القدس؟
أ- نصرة القدس تشمل ثلاثة:
1- هويّة القدس بكلّيّتها: بوجوهها الدّينيّة والثّقافيّة وبمؤسّساتها التّربويّة والاستشفائيّة ودور العبادة. وكلّها تجعل منها كنزًا للبشريّة جمعاء لما تحتوي عليه من تراثات خاصّة بكلّ الدّيانات التّوحيديّة الثّلاث: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. هذه المدينة المقدّسة هي عاصمتهم الرّوحيّة، بمن فيهم السّيّاح الآتون إليها.
2- حلّ المعضلة السّياسيّة القائمة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، مثلما بدأت في مؤتمر مدريد سنة 1991 وتوابعه، وقد نشأ عنها آنذاك بريق أمل بالسّلام.
3- حلّ النّزاع بشأن الأرض من دون فصل القدس عن واقعها الوحيد كجزء من التّراث العالميّ. ولهذا السّبب كانت مطالبة الكرسيّ الرّسوليّ منذ سنة 1947 بأن تحمى القدس بنظام مضمون دوليًّا بمفاهيم ثلاثة: المحافظة على ميزاتها التّاريخيّة والمادّيّة والدّينيّة والثّقافيّة، المساواة في الحقوق وفي المعاطاة مع أتباع الدّيانات الثّلاث، في إطار حرّيّة النّشاطات الدّينيّة والثّقافيّة والمدنيّة والاقتصاديّة، حماية الأماكن المقدّسة الموجودة في المدينة والعبادة فيها والوصول إليها سواء من قبل السّكّان أمّ من السّيّاح، أأتوها من الأراضي المقدّسة أمّ من أيّ بلد في العالم (راجع خطاب المطران (الكاردينال) جان لوي توران الكرسيّ الرّسوليّ والقدس).
ب- ما يجب فعله لنصرة القدس
إنّنا نقترح الخطوات العمليّة التّاليّة:
1- الصّلاة والصّلاة معًا من أجل السّلام ومن أجل القدس، فالله هو سيّد التّاريخ.
2- التّضامن الدّاخليّ والعمل معًا وعدم السّماح لأيّ كان بزرع التّفرقة بين العرب، قيادات وشعوبًا، وعدم استئثار أيّ دين أو أيّة قيادة بمدينة القدس.
3- تكثيف الحضور الدّيموغرافيّ بتأسيس العائلات، والثّقافيّ والجغرافيّ بالمحافظة على الأرض وملكيّتها، وعدم الهجرة.
4- تغذية روح الانتماء بالتّنشئة على حبّ القدس في العائلات والمدارس والجامعات، وفي المساجد والكنائس.
5- استعمال ذكيّ ومبرمج للإعلام الدّاخليّ والخارجيّ، بحسب خطّة مرسومة واضحة الأهداف، والتّعامل مع الموضوع بنهج علميّ قائم على العمل بعيدًا عن المزايدات، وعلى الاستعانة بأخصائيّين بعلم "الاستقطاب" (Lobbying). والكلّ بالرّوح العلميّة والمثابرة والموضوعيّة والنّفس الطّويل.
إنّنا نتمنّى لهذا المؤتمر العالميّ لنصرة القدس النّجاح في أهدافه، رافعين الحمد والشّكر لله تعالى، وراجين لكم جميعًا فيض نعمه وبركاته".