لبنان
04 كانون الثاني 2018, 14:50

البطريرك الرّاعي في الدّنح: سرّ الله وسرّ ولادتنا الثّانية بالمعموديّة

تحتفل الكنيسة السّبت بعيد "الدّنح" أيّ اعتلان سرّ الله الثّالوث، وسرّ يسوع المسيح ابن الله، بمناسبة معموديّته، الغطاس، على يدّ يوحنّا المعمدان في نهر الأردنّ. لذلك تأمّل بطريرك الموارنة مار بشارة بطرس الرّاعي في التّنشئة المسيحيّة بجوهر هذا العيد الّذي "يذكّرنا بحقيقتَين توجِّهان حياتنا اليوميّة: التّأمّل الدّائم في سرّ الله الّذي كشف لنا كلّ ذاته بالمسيح (الدّنح)، واستذكار معموديّتنا الّتي بها ولدنا، من الماء والرّوح، أبناءً وبناتًا لله، وننمو بإنساننا الجديد: "أنتم الّذين اعتمدتُم بالمسيح قد لبستُم المسيح" (غل 3: 27).

 

 

شرح الإنجيل

 من إنجيل القدّيس لوقا 3: 15-22

 

وفيمَا كانَ الشَّعْبُ يَنتَظِر، والجَمِيعُ يَتَسَاءَلُونَ في قُلُوبِهِم عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هُوَ المَسِيح، أَجَابَ يُوحَنَّا قَائِلاً لَهُم أَجْمَعِين: «أَنَا أُعَمِّدُكُم بِالمَاء، ويَأْتي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَنْ لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ رِبَاطَ حِذَائِهِ. هُوَ يُعَمِّدُكُم بِالرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. في يَدِهِ المِذْرَى يُنَقِّي بِهَا بَيْدَرَهُ، فيَجْمَعُ القَمْحَ في أَهْرَائِهِ، وأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأ. وبِأَقْوَالٍ أُخْرَى كَثيرَةٍ كانَ يُوحَنَّا يَعِظُ الشَّعْبَ ويُبَشِّرُهُم. لكِنَّ هِيرُودُسَ رئِيسَ الرُّبْع، وقَد كانَ يُوحَنَّا يُوَبِّخُهُ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ أَخِيه، ومِنْ أَجْلِ كُلِّ الشُّرُورِ الَّتي صَنَعَها، زَادَ على تِلْكَ الشُّرُورِ كُلِّهَا أَنَّهُ أَلقَى يُوحَنَّا في السِّجْن. ولمَّا ٱعْتَمَدَ الشَّعْبُ كُلُّهُ، وٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا، وكانَ يُصَلِّي، ٱنفَتَحَتِ السَّمَاء، ونَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ في صُورَةٍ جَسَديَّةٍ مِثْلِ حَمَامَة، وجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول: "أَنْتَ هُوَ ٱبْنِي الحَبِيب، بِكَ رَضِيت".

 

1. باشر يوحنّا المعمدان رسالته، وهي معموديّة الماء للتّوبة على ضفاف نهر الأردنّ، مهيِّئًا بذلك مجيء المسيح الموعود، كما أظهر الملاك لزكريّا في بشارته (لو1: 5-25). ممارسة غسل الماء للتّطهير كانت عند اليهود وما زالت، وكذلك عند الدّيانات الوثنيّة. وهي موجودة عند المسلمين. أمّا ما يميّز معموديّة يوحنّا فهي للتّوبة ولإعداد القلوب لاستقبال نعمة الخلاص الآتي.

قال للجموع: "أنا أعمّدكم بالماء. ويأتي بعدي مَن هو أقوى منّي. هو يعمّدكم بالرّوح القدس والنّار" (لو3: 16). يتكلّم يوحنّا عن معموديّة المسيح الآتي الّتي كشف الرّبّ سرّها لنيقوديمس، وسمّاها "الولادة الثّانية من الماء والرّوح كباب لدخول ملكوت الله" (راجع يو3: 3 و5). يوحنّا المعمدان، المسمّى آخر نبيّ في العهد القديم، وأوّل نبيّ في الجديد، أدرك فعل الرّوح القدس الّذي سبق وملأه، وهو بعد في بطن أمّه، كما أعلن الملاك لزكريّا أبيه (راجع لو1: 15). فكانت النّبوءة أنّ المسيح الآتي "يعمّدكم بالرّوح القدس والنّار".

2. لقد أضاف "بالنّار"، لكي يبيّن من خلال هذا الرّمز طبيعة عمل الرّوح القدس في المعموديّة. فالنّار تطهّر وتزيل الشّوائب. كذلك معموديّة يسوع تزيل خطايا البشر بقوّة أكبر بكثير من معموديّة يوحنّا. قوّة النّار التّطهيريّة أعلى بكثير من قدرة الماء على ذلك. النّار تترك أثرًا لا يُمحى. أمّا أثر الماء فيزول بعد حين.

النّار تنير مكانها وتتيح التّحرّك فيه. كذلك المعموديّة تُدخل الإنسان في الكنيسة، الأمّ والمعلّمة. فلن يضيع إذا التزم بتعاليم وإرشادات كنيسته. كما أنّ الرّوح القدس الّذي فينا يذكّرنا ويفهّمنا ويرشدنا إلى ما يجب أن نقوم به.

النّار تدفئ وترمز إلى وجود الأحبّاء من حولنا، الّذين يملأون حياتنا دفءًا. هكذا المعموديّة تدخلنا في جماعة المؤمنين، فنصبح معهم إخوةً. لسنا بعد الآن وحدنا، لأنّ الله الّذي يتبنّانا في المعموديّة يرافقنا في كلّ خطوات حياتنا ويحمينا.

النّار تعطي الحياة: فالإنسان الحيّ دافئ، وعندما يموت يبرد جسمه. لذلك كان يعتقد الأقدمون أنّ في قلب الإنسان قنديل صغير متّقد يدفئ جسمه. ومتى انطفأ القنديل يموت. فكان القول الشّعبيّ المأثور: "خلصو زيتاتو". كذلك المعموديّة تعطينا حياةً جديدةً، هي حياة النّعمة ننالها بواسطة الكنيسة. كما أنّها تعطينا حياةً أبديّةً لا تنطفئ.

النّار ترمز إلى الله: فاللّهبة تشبه نوعًا ما الله، إذ إنّنا نراها ونشعر بحراراتها، إلاّ أنّنا لا نعرف ممّا تتكوّن ولا نستطيع إمساكها ولا التّحكّم بها. وبهذا ترمز اللّهبة إلى الله الحاضر وغير المدرك. إنّ المعموديّة تعطينا الله، الّذي يسكن في قلوبنا ويحوّل كياننا الدّاخلّي، متبنّيًا إيّانا كأولاد له.

3. في عيد الغطاس تجري رتبة تبريك الماء، الّذي يُرشّ على رؤوسنا ونأخذه إلى بيوتنا لتبريكها. أمّا المفهوم اللّاهوتيّ الأعمق فهو أنّ رشّ الماء علينا دعوة إلى التّوبة، مثلما كان يفعل يوحنّا المعمدان، ودعوة لغسل قلوبنا من كلّ ما يشوبها من حقد وضغينة وأفكار شريرة، لكي تكون منقّاة لقبول كلام الله.

كذلك تحافظ الكنيسة على وجود جرن الماء المبارك على مدخلها قرب الباب، لكي يتبرّك به المؤمنون على جباههم عندما يدخلون بيت الله. هذه الحركة التّقويّة تدعو المؤمن الدّاخل إلى الكنيسة لينقّي أفكاره، ويترك همومه ومشاغله الدّنيويّة في الخارج. فيدخل صافي الفكر، منقّى النّيّة والذّهن لسماع كلام الله. أمّا إذا تبرّك المؤمن من هذا الماء، وهو خارج من الكنيسة، فلكي يلتمس نعمة الثّبات في مقاصده.

4. يبدأ نصّ الإنجيل بالقول إنّ "الشّعب كان ينتظر. والنّاس يتساءلون في قلوبهم عن يوحنّا لعلّه هو المسيح" (لو3: 15). كان شعب العهد القديم في حالة انتظار للمسيح الموعود.

نحن، شعب العهد الجديد، مدعوّون لنكون "منتظرين الرّبّ" إذ نحيا الشّوق الحقيقيّ للقائه. ففي كثير من الأحيان يمرّ العيد مرورًا خارجيًّا. نرى فيه مجرّد احتفال أو أيّام استراحة فقط. البعض يتلهّى بالهدايا واللّباس والطّعام وينسى بالتّالي الحدث الحقيقيّ، ينسى صاحب العيد. لذلك تضع الكنيسة أيّام صوم وقطاعة قبل الأعياد، كحالة "الانتظار" للحبيب القادم. الانقطاع عن الطّعام هو دليل الشّوق. هذا ما يحدث معنا عندما ننتظر قدوم شخص عزيز على قلبنا من السّفر، نرانا في الأيّام السّابقة منشغلين بالتّفكير به وبما سوف نقوم به معه وما يمكننا أن نقدّمه له لنسعده. ننشغل بهذا الفكر لدرجة أنّنا ننسى كلّ شيء، ننسى حتّى أن نأكل، لأنّ قلبنا ممتلئ بفكرة الآتي المنتظر. إذا فقدنا هذا "الانتظار لله" نكون قد ابتعدنا عن الإيمان. يأتي الرّبّ، يمرّ بالقرب منّا، ولكنّنا لا نراه لانشغالنا عنه بأمور أخرى. يقرع باب قلبنا، ولكنّنا لا نسمعه، لأنّ أصوات العالم أعلى من صوته العذب.

5. جميل "تساؤل النّاس لعلّ يوحنّا هو المسيح" فهو دليل الاهتمام والبحث والتّنقيب. كان من الممكن أن لا يهتمّوا بأمر المسيح، بحجّة أنّ رجال الدّين سبّبوا لهم الضّياع باختلاف آرائهم، أو بحجّة تلهّيهم بشؤون الدّنيا. لكنّهم ظلّوا في بحث عن الحقيقة، لأنّ في المسيح خلاصهم. علينا أن نتحلّى نحن أيضًا بهذا الاهتمام. فكلّ منّا مسؤول عن إيمانه، وبالإيمان نخلص. لا مجال للتّهاون في هذه المسألة. لذلك، علينا دومًا أن نمحّص كلّ ما نسمعه، لنتحقّق منه. فالسّطحيّة هي من ألدّ أعداء الإيمان. نجد البعض ينقادون إلى كلّ فكرة برّاقة بشأن الإيمان، لمجرّد أنّها باهرة. والواجب هو أن نمحّص كلّ شيء، ساعين يومًا بعد يوم إلى تعميق ثقافتنا الإيمانيّة. ملفتٌ أنّ الشّعب، بالرّغم من إعجابه بيوحنّا، لم ينجرف وراءه من دون تفكير، بل فكّروا في قلوبهم مَن عساه يكون.

رغم الضّياع الّذي عاشه الشّعب، وخيبات أملهم من المسحاء والأنبياء الكذبة، نجد أنّ يوحنّا المعمدان شكّل "حالةً خاصّةً" لفتت نظر الجميع. ليس يوحنّا كسائر الّذين سبقوه. فعنه قال يسوع أنّه "أعظم مواليد النّساء". وهو يتميّز بجذريّة كاملة للحقّ، أوصلته إلى قطع رأسه. شجاعة وثقة ووعي واندفاع في البشارة جعلت الشّعب يتمنّى أن يكون هو المسيح المنتظر. هذا أمر يدلّنا على مدى عظمة هذا الوجه المشرق في تاريخ العهد الجديد.

6. أمّا يوحنا الّذي تميّز بصراحته وصدقه وتواضعه، فأوضح أنّه ليس المسيح. ويلفتنا أنّه استطاع قراءة أفكارهم. فالنّصّ يشدّد على أنّهم "كانوا يفكّرون في قلوبهم"، أي سرًّا. إنّنا نكتشف عنده الفراسة والانتباه إلى كلّ ما يفكّر به تلاميذه والمحيطون به. نرى كيف يسعى إلى تنبيههم على أخطائهم ليكون لهم المربّي الصالح. يوحنّا لم يدّعِ يومًا شيئًا ليس فيه، ولم يتكبّر ولم يطلب مجده الشخصيّ أو مصلحته الشخصيّة. هذه الصفات يجب أن يتحلّى بها كلّ مسؤول في الكنيسة والمجتمع والدولة.

وصرّح للشعب أنّ معموديته هي فقط بالماء كعلامة خارجيّة للتوبة، أما معمودية الآتي، وهو أقدر منه، فهي بالروح القدس والنار وتزيل الخطايا وتصالح التائب مع الله والجماعة.

7. أمّا ذروة التّواضع عند يوحناّ فهي قوله: "ويأتي مَن هو اقوى منّي، مَن لست أهلًا أن أحلّ رباط حذائه" (لو3: 16).

المقارنة التي يرسمها يوحنا بينه وبين المسيح هي على مستوى "الأقوى والأضعف". ولذلك استعمل العبارة الشهيرة: "لست أهلاً أنّ أحلّ رباط حذائه". هذه الصورة مأخوذة من عالم العبيد. فالعبيد كانوا في درجات مختلفة، تبعًا للعمل الموكل إليهم في خدمة أسيادهم. وأدنى العبيد هم الذين لم يكونوا يجيدون أيّ عمل ولا يملكون مواهب خاصّة، فكان أسيادهم يسندون إليهم خدمتهم الشخصيّة بأن يقفوا خلفهم لتلقّي الأوامر الصغيرة، ويعطونهم الرداء أو كأس ماء. وكان من مهمّات هؤلاء العبيد غسل أقدام أسيادهم والزوّار عند دخولهم إلى البيت، ليرفعوا عنهم غبار الطريق. فيجعل يوحنّا من نفسه أمام المسيح أدنى من أدنى العبيد.

لقد اكتشف يوحنا وجه يسوع، قبل أن يراه، اي قبل ظهوره (دِنحه). في الواقع كان الظهور وجهًا لوجه، ساعة اعتماد يسوع. في العالم الرومانيّ، كان الناس يسمعون بأن هناك أمبرطورًا اسمه كذا؛ ولكنّهم لم يكونوا قد رأوه مطلقًا ولم يكن في ذلك الزمن صور لنشرها. ففي مناسبات خاصّة كان الامبراطور يأتى شخصيًّا إلى ملعب كبير إو ساحة عامّة. عندها يتمكّن الحاضرون من رؤيته "وجهًا لوجه" ولو لمرّة واحدة في حياتهم. هذا اللقاء كانوا يسمّونه "إبيفانيا"، ظهور وجه الامبراطور. وكانوا يعتبرونه عيدًا عظيمًا. والذين رأوا وجه الامبراطور، كانوا يُعتبرون من المحظوظين وكانت لهم مكانة معيّنة في المجتمع. في السهرات، كان الناس يتحلّقون حولهم ليسمعوا منهم تفاصيل ذلك الحدث، وتفاصيل وجه الامبراطور.

ونحن، في عيد "الدّنح"، نحتفل بيسوع الذي أظهر لنا وجهه فتأمّلنا فيه، كأنّنا رأيناه وجهًا لوجه. لم يعد إلهنا غريبًا عنّا. بل أتى وسكن بيننا. هو "عمانوئيل"، إلهنا معنا. علينا أن نطيل النظر إليه لنحفظ كلّ تفاصيل ملامحه. كلّما أمعنّا النظر إليه تعرّفنا عليه أكثر، وأمكننا بالتالي أن ننقله للآخرين، أولئك الذين لم يتسنّ لهم بعد رؤيته وجهًا لوجه، فننقل لهم صورةً واضحةً عن ملامحه، حتّى يحبّوه ويأتوا لرؤيته بالفكر والقلب، بالإيمان والمحبة.

8. ويأتي حدث معموديّة يسوع: "فلمّا اعتمد الشّعب كلّه، اعتمد يسوع أيضًا" (الآية 21). نرى مدى قوّة الرّسالة التي قام بها يوحنّا. لقد استقطب الشعب كلّه إلى معموديّته. هذا يدلّنا أنّ في كلّ إنسان، مهما كان خاطئًا، ضميرًا يوبّخه، متى سمع كلام الحقّ. كلّ رسالة نقوم بها لها تأثيرها على كلّ الناس، أيًّا كانوا. يحاول الشّيطان مرارًا إقناعنا بأنّ لا جدوى من الرّسالة والتّبشير، إذ لن يسمعنا أحد. ولكن مثال يوحنّا يثبت لنا العكس. علينا أن لا نيأس أبدًا، متذكّرين وصيّة يسوع لنا: "على الزّارع أن يزرع وعلى الله أن ينمّي".

يأتي يسوع أيضًا إلى معموديّة يوحنّا، رغم أنّه البار. يتضامن مع الإنسان في حالته. بالرّغم من أنّه لم يرتكب خطيئة، فقد حمل خطايانا ليكفّر عنها ويزيلها.

9 "وفيما كان يصلّي انفتحت السّماء"(الآية 21). يربط النّص انفتاح السّماء بالصّلاة، فهي المفتاح الفعّال لباب السّماء. إنّها الصّلة الحقيقيّة مع الله، وهي الشّرط الأساسيّ لكلّ تواصل معه. لا نتكلّم هنا عن الصّلاة كمجرّد ترداد لكلمات شفويّة، بل تلك الصّادرة عن قلب منفتح على الله ولا يبغي سواه. الصّلاة هي التعبير الأصدق عن الحياة المسيحيّة، وعن الحبّ لله دون سواه. فمن يفني حياته بالأعمال ولو صالحة بدون أن يلج حياة الصّلاة ليس مؤمنًا كاملاً. قد يكون دافعه لعمل الخير شفقة أو سعيًا وراء الإحساس بالرضى أو حلمًا بعالم أفضل. ولكن الإيمان الحقيقي يرتبط بالله، عبر الصلاة، وهو مَن يرسلنا نحو الآخرين كإخوة لنا.

10"ونزل عليه الرّوح القدس في صورة جسديّة مثل حمامة" (الآية 22). يأخذ الرّوح القدس صورة الحمامة، الّتي ترمز إلى السّلام. نجد الحمامة كبشارة لنهاية الطّوفان (تك ٩). وها هي تعود اليوم لتعلن نهاية طوفان الشّرّ والخطيئة. ولقد أعلن أشعيا أنّ بقدوم المسيح يحلّ السلام الكونيّ: "الذّئب والحمل يرعيان معًا، والأسد كبقر يأكل التّبن، أمّا الحيّةُ فالتراب يكون طعامَها، لا يسيئون ولا يُفسدون في جبل قدسي كلّه، قال الرّبّ" (أشعيا 65: 25). تعلن الحمامة المستقرّة فوق رأس يسوع أنه هو مَن سيحمل السّلام إلى الأرض، تمامًا كما أنشد الملائكة ساعة ميلاده: "المجدُ لله في العلى وعلى الأرض السّلام" (لو2: 14).

لا معموديّة بدون "سلام"، فهو أوّل ثمارها. من رحم المعموديّة تمتلئ قلوبنا سلامًا، لأنّنا أصبحنا أبناء الله، فلا نخشى شيئًا. كما نسالم جميع الناس لأنّهم أصبحوا إخوتنا. من لم يصل إلى عيش هذا السلام فهو لم يفعّل بعد معموديّته. هكذا نفهم عمق التّطويبة: "طوبى لفاعلي السلام فإنّهم أبناء الله يدعون" (متى5: 9). مَن يصنع السلام هو بالحقيقة معمّد، ويفعّل معموديّته، وهو ابن الله. إنّ الليتورجيا ترتكز بشكل متكرّر على نشر السلام على جميع المشاركين، إذ يحيّيهم الكاهن مرارًا بقوله: "السّلامُ لجميعكم"، هذه التّحيّة هي تجديد حقيقيّ لمعموديتنا.

11." وجاء صوت من السّماء يقول: أنت هو ابني الحبيب، بك رضيت" (الآية 22).

لقد سمع الشّعب كلّه هذا الصّوت. سماع صوت الله شرط أساسيّ للإيمان. الله يكلّم كلّ واحد وواحدة منّا باستمرار. إذا لم نسمع صوته، لا نفعّل معموديّتنا. يمكننا أن نسمع صوت الله بشكل أساسيّ في الصّلاة والتّأمّل، حين أصمت أنا يتكلّم الرّبّ. أسمعه في الكتاب المقدّس وفي الكنيسة المعلّمة، وفي كلّ شخص أجتمع به باسم المسيح، فيكون هو حاضر بيننا.

يُعلن الله بنوّة المسيح، والرّضى به أيّ يجد فيه السعّادة والاطمئنان. ليس يسوع مجرّد نبيّ ولا أيّ شخص آخر كان الشّعب ينتظره. بل يتخطّى يسوع كلّ التوقّعات. يفاجئنا الرّبّ كلّ يوم بعظمة ما يحقّقه لنا وفينا. فهو الأكرم، بل الكرم بذاته. أعطانا ذاته ومات من أجلنا، مقدّمًا لنا جسده طعامًا ودمه شرابًا حقًًّا".

وختم البطريرك الرّاعي التّنشئة بصلاة قال فيها: "أيّها الرّبّ يسوع، بمعموديّتك في نهر الأردنّ كان الظّهور كبير: ظهور سرّ الثّالوث الأقدس، وظهور بنوّتك الإلهيّة، وظهور معموديّتك الّتي نولد بها ثانية أبناءً وبناتٍ لله، وظهور باب السّماء الّذي فتحتَه بوجه الجنس البشريّ، بعد أن أغلقه آدم وذريّته. أعطنا، ربِّ، نعمة التّأمّل الدّائم في وجهك وسرّك، لكي نعرفك أكثر فأكثر، ونعكس وجهك في أعمالنا ومبادراتنا ومواقفنا. اغسلْ قلوبنا بماء التّوبة والغفران، فنستحقّ أن نرفع المجد والتّسبيح للثّالوث القدوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".