البطريرك الراعي: لنجلس في مدرسة مريم لنتعلّم ثلاثًا ونتربّى عليها: الوساطة، الاهتمام، الإيمان
قالت ليسوع أمّه: ليس عندهم خمر...وللخدم: افعلوا ما يقوله لكم" (يو 2:4-5).
1. هذا الظهور الأوّل لمريم أمّ يسوع في حياته العلنيّة بعد ثلاثين سنة من حياة عاديّة في الناصرة، عاملًا في النجارة مع أبيه يوسف، كان في عرس قانا الجليل القريبة من مدينة صور. وقد دُعيت إليه مع يسوع وتلاميذه. في هذا العرس انكشفت ثلاثة: إهتمام مريم بحاجة العروسين إلى خمر، وساطتها القديرة لدى ابنها يسوع، إيمانها بأنّه لا يردّ لها أي طلب أو رغبة. بهذه الصفات "قالت ليسوع: ليس عندهم خمر...وللخدم: افعلوا ما يقوله لكم" (يو 2:4-5).
ثلاث كلمات: وساطة، واهتمام، وايمان.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة تكريمًا لأمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان، في عيدها هذا الأحد الأوّل من شهر أيّار المخصّص لتكريمها. وقد جرت العادة منذ تأسيس مزار سيّدة لبنان سنة 1904، أي منذ 120 سنة، أن يحتفل البطاركة بهذا العيد. ويسعدني شخصيّاً أن أواصل هذا التقليد المبارك بإقامة الذبيحة الإلهيّة وافتتاح احتفالات شهر أيّار في بازيليك سيّدة لبنان.
وها الحجّاج يتوافدون من جميع المناطق اللبنانيّة لتكريم أمّنا السماويّة، والمؤمنون والمؤمنات في لبنان والنطاق البطريركيّ وعالم الانتشار يشاركون في هذه الاحتفالات عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، متجدّدين في الإيمان، وثابتين في الرجاء، ومتّقدين بالمحبّة لمريم أمّنا السماويّة.
جميعهم جاؤوا وصلّوا، وغيرهم سيتوافدون طيلة هذا الشهر المبارك ونحن معهم وبينهم، طارحين حاجاتنا على مريم سيّدة لبنان، راجين وساطتها لدى ابنها ونحن واثقون بأنّه يلبّي طلبها، كما جرى في عرس قانا الجليل.
وساطة مريم
3. ظهرت بوضوح في عرس قانا وساطة مريم كما يسمّيها آباء الكنيسة (راجع الدستور العقائديّ في الكنيسة، الفصل 8، عدد 62). يعلّم المجمع الفاتيكانيّ الثاني أنّ "الوسيط بين الله والبشر واحد وهو الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فداء عن الجميع"(1طيم 5:2 - 6). لكنّ مهمّة مريم كأمّ نحو البشر لا تحجب ولا تُفقد البتّة من وساطة المسيح الوحيدة، بل تُظهر قوّتها، وتؤيّد اتّحاد المؤمنين المباشر بالمسيح (راجع المرجع نفسه، عدد 60). وفي الواقع التجأت إليه كوسيط لحلّ مشكلة نفاد الخمر.
اهتمام مريم
4. ظهر اهتمام مريم في كونها لاحظت نفاد الخمر في عرس قانا. وكأمّ حنون التجأت الى ابنها يسوع ليَصنع شيئًا ما لإخراج العروسين من هذا المأزق.إنّها أمّنا الحنون. فكما اختيرت أمًّا حنونًا للفادي الإلهيّ المولود منها بالجسد، كذلك هي أيضاً شريكته السخيّة في عطاياه أكثر من الجميع، وفي الوقت عينه هي خادمة الربّ المتواضعة. فجسّدت هذه الخدمة في عنايتها بالخروج من مشكلة نفاد الخمر. وإنّها تسهر من سمائها بمحبّة الأمّ على إخوة ابنها وعلينا نحن المسافرين على هذه الأرض وسط المخاطر والضيقات نحو الوطن السماويّ، وتنال لنا نعم الخلاص الأبديّ(راجع المرجع نفسه، عدد 61-62).
هي أمّ الفادي الحنون. هي أمّنا الحنون. هي أيضًا خادمة الربّ المتواضعة. وهي تسهر علينا نحن إخوة ابنها في مسيرتنا نحو الوطن السماويّ وتنال لنا نعم الخلاص الأبديّ.
إيمان مريم
5. لمّا قالت مريم للخدم: "إفعلوا ما يقوله لكم"(يو 5:4)، ظهر إيمانها الكبير بيسوع ابنها بأنّه لا يردّ لها طلبًا أو رغبة. فاعتبر بدوره مشكلة العروسين قضيّته الشخصيّة، وقرّر إجراء المعجزة ولو "أنّ ساعته لم تكن قد أتت بعد"(يو 4:4). ولا عجب، وربّنا يسوع قال يومًا: "أنا بينكم كالخادم"(لو 27:22)، وفي موضع آخر: "ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم"(متى 28:20).
مدرسة مريم
6. فلنجلس في مدرسة مريم لنتعلّم هذه الصفات الثلاث ونتربّى عليها. نصلّي متشفّعين بعضنا لبعض، ونعتني بحاجات الأخوة، ونسعى إلى مساعدتهم لتأمينها، متّكلين على عناية الله لمساعدتهم بنعمته على تحمّلها وفتح باب الفرج أمامهم.
كلّنا بحاجة إلى هذه الصفات الإنسانيّة الثلاث: صلاة التشفّع، والاهتمام بحاجات الغير، والسعي بإيمان إلى تلبيتها.
7. كلنا في لبنان، مسيحيّين ومسلمين، نكرّم السيّدة العذراء مريم، حتى أنّنا جعلنا ذكرى بشارتها في ٢٥ آذار من كلّ سنة عيدًا وطنيًّا نحيي فيه ومعًا هذا التكريم. لكنّ التكريم الحقيقيّ هو الاقتداء بفضائلها، وصفاتها الثلاث التي ذكرناها وهي: التشفّع إلى الله من أجل خير الناس، والاهتمام بحاجاتهم بروح التضامن والتآخي، والسعي الشخصيّ إلى المساهمة في تلبية هذه الحاجات.
8. إذا زيّنت هذه الفضائل والصفات نفوسَنا، ولا سيّما نفوس المسؤولين والسياسيّين، لتبدّل أداؤهم وتعاطيهم الشأن العامّ، وبخاصّة لقادهم ضميرهم الوطنيّ والإنسانيّ:
أوّلاًا إلى الإسراع في انتخاب رئيس للجمهوريّة من أجل سلامة الجسم الوطنيّ بعودة المؤسّسات الدستوريّة إلى طبيعتها وصلاحيّاتها، وإخراج الدولة من حالة الفوضى والتعدّي على فصل السلطات.
ثانيًا، إلى الإسراع في إيقاف الحرب على جنوبيّ لبنان، ووضع حدّ لهدم المنازل، وتدمير المتاجر، وإحراق الأرض ومحاصيلها، وقتل المدنيّين الأبرياء وتهجيرهم وإتلاف جنى عمرهم في ظرف اقتصادي سبق وأفقرهم.
ثالثًا، إلى توحيد الكلمة في قضيّة تأمين عودة النازحين واللاجئين السوريّين إلى وطنهم وعدم الرضوخ للضغوط الأوروبيّة والدوليّة وأساليبها المغرية بهدف تجنّب عودتهم وإبقائهم في لبنان لأهداف سياسيّة ليست لصالحهم ولا لصالح لبنان. إنّ مصلحة هؤلاء المحافظة على وطنهم وتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم وممتلكاتهم.
فنقول لهم: المجتمع الأوروبيّ والدوليّ يستعملكم لأغراض سياسيّة ليست لخيركم. لا تستبدلوا وطنكم بمغريات بقائكم في لبنان. ولا تبادلوا الاستضافة اللبنانيّة بالإعتداء على اللبنانيّين والقوانين.
رابعًا، الى الالتزام بتطبيق القوانين والمواثيق من مثل:
تطبيق اتّفاق الطائف نصًّا وروحًا ولاسيّما اللامركزيّة الإداريّة.
الحفاظ على المشاركة المتساوية في الحكم والإدار.
تنفيذ القانون الصادر عن مجلس النوّاب في 7 أيلول 2017، باستحداث محافظة تاسعة تضمّ قضاءي كسروان وجبيل، بإصدار المراسيم التطبيقيّة في ضوء التعميم الحكوميّ الصادر في 16/5/2013، والذي يطلب من الوزراء إعداد مشاريع النصوص القانونيّة اللازمة.
أجل نصلّي لكي ينعم المسؤولون عندنا بما تعلمنّا أمّنا مريم من صفات وفضائل المجتمع البشريّ لن يعيش بدونها في سلام.
9. الى أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان، نكل وطننا التي هي سيّدته، ونحن نرى فيها الحماية من كلّ سوء، ونضع فيها الثقة كلّها بأنّها تحمي لبنان وشعبه من السقوط في المكروه. فنرفع المجد والتسبيح والشكر للثالوث القدّوس الذي اختارها، الآب والابن والروح القدس، آمين.