دينيّة
26 تشرين الثاني 2017, 08:00

البداية من النّاصرة... من عند مريم العذراء

غلوريا بو خليل
"الله يسير معنا، يتألّم لألمنا ويفرح لفرحنا، له مواعيده معنا ويحترم أيضًا مواعيدنا البشريّة. دخل في مواعيدنا التّاريخيّة البشريّة وأدخلنا في مواعيده الإلهيّة الخلاصيّة. كأنّه رسم روزنامة مواعيد واحدة لنا وله، فبات خارج الزّمن في الزّمن، والزّمن خارج الزّمن، الّذي ليس له بدء ولا نهاية، قبل بحبّ لامتناه أن يدخل عالم البدء والنّهاية فيختبر الحبّ المتناهي، مشرّعًا أبوابه نحو اللّامتناهي".

 

بهذه الكلمات استهلّ رئيس أنطش سيّدة التّلّة - دير القمر وخادمه، الأب جوزف أبي عون الرّاهب الماروني المريميّ كلمته لموقع نورنيوز عن بشارة العذراء موضحًا أنّه "احترامًا لمشاعر أليصابات الإنسانيّة في كتم سرّ حبلها لمدّة خمسة أشهر، أتى الملاك جبرائيل في الشّهر السّادس إلى مريم لإعلان البشرى السّارّة بولادة المخلّص يسوع".

وأضاف: "الشّهر السّادس هو شهر التّلاقي الإلهيّ مع الزمنيّ في بيت متواضع من مدينة النّاصرة، حيث اجتمع عندها اللّامتناهي مع المتناهي: مريم. لم يذهب الملاك جبرائيل إلى المدن الأكثر شهرة في العلم والدّين والمال. اختار الجليل غايته ومدينة النّاصرة تحديدًا حيث يعيش اليهود والوثنيّون معًا بتواضع وهدوء. رأى وأحبّ حبًّا يُرى بغير عيون البشر ويحتكم إلى غير مقاييسهم، واختار، فكانت البداية من النّاصرة... من عند مريم".

من عند مريم بدأت الحكاية بسلام ملائكيّ "السّلام عليك يا مملوءة نعمة، الرّبّ معك"(لو 1: 28)، وفي هذا السّلام تكمن كلّ القصّة. هو الله بذاته يأتي بملاكه ليكتب تاريخ البشر بنفسه ويجدّده مع مريم. من هذه الحقيقة الإلهيّة الخلاصيّة الّتي حدّدها الملاك بمريم، انطلق مشروع الخلاص بين البشر وأخذت مريم مكانها المميّز على الأرض وفي السّماوات. هي مريم الفتاة المتواضعة الهادئة تفاجأت من هذا السّلام غير المنتظر، واضطربت. لكنّ الملاك لم يتركها كثيرًا في اضطرابها وتساؤلاتها وقال لها: "لا تخافي يا مريم، فقد نلت حظوة عند الله. فستحبلين وتلدين ابنًا فسمّيه يسوع، ويوليه الرّبّ الإله عرش أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب أبد الدّهر، ولن يكون لملكه نهاية" (لو 1: 32 - 33).

الله اختارها من بين ملايين البشر فوجد فيها الّذي يبحث عنه. وهنا سألت مريم بكثير من الحبّ والخجل والاحترام "كيف يكون هذا ولا أعرف رجلًا؟" (لو 1: 34). هي مثل سائر الشّعب اليهودي كانت بانتظار ولادة المسيح المخلّص. لكن لم تتخيّل لا هي ولا سواها ولادته خارج إطار العلاقة البشريّة العاديّة. فما من أحد ولد في التّاريخ القديم بتدخّل الرّوح القدس. وكان لكلّ فتاة يهوديّة اعتقاد بأنّه منها ربّما يولد المسيح المنتظر منذ أجيال. من هنا نفهم أكثر تواضع مريم وتجرّدها حتّى عن إمكانيّة ولادة المسيح منها بنيّتها عدم الارتباط برجل. تركت هذه السّعادة للآخرين. اختارت الصّمت والخفاء والتّخلّي عن أثمن شيء ممكن أن تحلم به أيّ فتاة يهوديّة. لذلك قال لها الملاك: "قد وجدت نعمة عند الله"، رافعًا إيّاها فوق كلّ نساء الأرض، إنّها المباركة بين كلّ النّساء.

وبعد أن أعلمها الملاك بطريقة الحبل الإلهيّ وكيف أنّ الرّوح القدس يحلّ عليها، سلّمت لمشيئة الله وأحنت رأسها بخشوع وضمّت يديها إلى صدرها وأجابت بثقة وطاعة: "أنا آمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38).

جواب مريم هذا زرع اطمئنانًا في قلب الملاك، وأدخله إلى قلوبنا نحن المنتظرين الخلاص، وبات يكفي أن ننظر إليها بتأنٍّ لنتعلّم منها ونصبح بدورنا حاملي بشرى سارّة لبعضنا البعض وللعالم بأسره.