الفاتيكان
19 آذار 2021, 14:30

البابا يصدر رسالته لليوم العالميّ للصّلاة من أجل الدّعوات: القّديس يوسف حلم الدّعوة

تيلي لوميار/ نورسات
أصدر البابا فرنسيس اليوم رسالته لمناسبة اليوم العالميّ الثّامن والخمسين للصّلاة من أجل الدّعوات 2021، تحت عنوان "القدّيس يوسف: حلم الدّعوة"، كتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"في الثّامن من كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، في مناسبة الذّكرى المائة والخمسين لإعلان القدّيس يوسف شفيعًا للكنيسة الجامعة، بدأنا السّنة الخاصّة المكرّسة له. من جهتي، وجَّهت رسالة بابويّة بعنوان  "بقلب أبويّ"، بهدف "تنمية المحبّة تجاه هذا القدّيس العظيم". إنّه في الواقع شخصيّة غير عاديّة، ولكنّه في الوقت عينه "قريب جدًّا من كلّ واحدٍ منّا في حالتنا البشريّة". لم يكن في القدّيس يوسف يدهش الآخرين، ولم يكن أيضًا يملك مواهب خاصّة، ولم يكن مميّزًا في عيون الأشخاص الّذين كان يلتقي بهم. لم يكن مشهورًا ولم يكن يسعى للفت انتباه الآخرين: والأناجيل لا تنقل لنا حتّى كلمة واحدة له. ومع ذلك، من خلال حياته العاديّة، حقّق شيئًا غير عاديّ في عينَي الله.

إنَّ الله يرى القلب، وفي القدّيس يوسف رأى الله قلب أب، قادر على أن يعطي ويُوَلِّد الحياة في الظّروف اليوميّة. هذا هو هدف الدّعوات: أن نلد الحياة ونجدّدها كلّ يوم. إنَّ الرّبّ يرغب في أن يصوغ قلوبَ آباء وقلوبَ أمَّهات: قلوب منفتحة، وقادرة على اندفاعات كبيرة، سخيّة في بذل ذاتها، رحيمة في التّعزية في الشّدائد، وثابتة لتعزيز الرّجاء. هذا ما يحتاج إليه الكهنوت والحياة المكرّسة، ولاسيّما اليوم، في أزمنة طُبعت بالهشاشة والآلام بسبب الجائحة، الّتي ولّدت الشّكوك والمخاوف حول المستقبل ومعنى الحياة. وبالتّالي يأتي القدّيس يوسف للقائنا بوداعته، كقدّيس يعيش بقربنا؛ وفي الوقت عينه يمكن لشهادته القويّة أن توجّه مسيرتنا.

يقترح القدّيس يوسف علينا  ثلاث كلمات رئيسيّة، لدعوة كلّ فرد منّا. الكلمة الأولى هي الحُلم. كلّ واحدٍ في هذه الحياة يحلَم أن يحقِّق ذاتَه. ومن الصّواب أن نغذّي توقّعاتٍ كبيرة وتطلُّعاتٍ عَالِية، بدلَ أمورٍ عابرة لا تكفي لإشباعنا، مثل النّجاح والمال والمتعة. في الواقع، لو طلبنا من الأشخاص أن يعبِّروا بكلمة واحدة عن حُلم حياتهم، لن يكون من الصّعب تخيّل الجواب: "الحبّ". الحبّ هو الّذي يعطي معنى للحياة، لأنّه يكشف سرّها. في الواقع، يملك الإنسان الحياة بقدر ما يعطيها، ولا يمكننا امتلاكها حقًّا إلّا إذا أعطيناها بشكل كامل. ويمكن للقدّيس يوسف أن يقول لنا الكثير في هذا الصّدد، لأنّه من خلال الأحلام الّتي ألهمه الله إيّاها، جعل من حياته عطيّة.

تخبر الأناجيل عن أربعة أحلام. كانت كلُّها من الله، ولكن لم يكن من السّهل قبولُها. بعد كلّ حُلم، وُجب على يوسف أن يغيّر خططه وأن ينفِّذَ، وأن يضّحي بمشاريعه الخاصّة ليسير بحسب مشاريع الله السّرّيّة. لقد وضع ثقته الكاملة في الله. ومع ذلك، يمكننا أن نتساءل: "ما كان هذا الحُلم اللّيليّ لكي يضع فيه كلّ هذه الثّقة؟" على قَدْرِ ما كان للأحلام أهمّيّة كبيرة في القديم، إلّا أنَّها في الحقيقة لم تكن مهمّة أمام الواقع الملموس للحياة. ومع ذلك، سمح القدّيس يوسف للأحلام أن تقوده بدون تردّد. لماذا؟ لأنّ قلبه كان موجَّهًا نحو الله، وكان مستعدًّا لقبول كلّ شيء منه. وبالتّالي إشارة صغيرة لـ"سماعه الدّاخليّ" المتنبِّه كانت كافية لكي يتعرّف على صوت الله. ينطبق هذا الأمر أيضًا على دعوتنا: إنَّ الله لا يحبّ أن يُظهر لنا نفسه بشكل استعراضيّ، يفرض فيه نفسه على حرّيّتنا. فهو ينقل مشاريعه إلينا بوداعة؛ هو لا يذهلنا برؤى مشرقة، بل يتوجّه بلباقة إلى حياتنا الدّاخليّة، ويقترب منّا ويكلّمنا من خلال أفكارنا ومشاعرنا. وهكذا، كما فعل مع القدّيس يوسف، يُقَدِّمُ لنا أهدافًا عالية ومدهشة.

إنَّ الأحلام قد دفعت يوسف إلى مغامرات لم يكن قطُّ ليتخيّلها. زعزع الحلم الأوّل استقرار خطوبته، ولكنّه جعله أبًا للمسيح، أمّا الحلم الثّاني فقد جعله يهرب إلى مصر، ولكنّه أنقذ حياة عائلته. وبعد الحلم الثّالث، الّذي بشّره بالعودة إلى الوطن، جعله الحلم الرّابع يغيّر خططه مرّة أخرى، وأعاده إلى النّاصرة، حيث سيبدأ يسوع إعلان ملكوت الله. في جميع هذه الأحداث، ثبت أنّ الشّجاعة في اتّباع مشيئة الله هي الّتي تنتصر. هذا ما يحدث في الدّعوة: فالدّعوة الإلهيّة تدفعنا دائمًا لكي نخرج، ونعطي ذواتنا، ونذهب دائمًا إلى ما هو أبعد. لا يوجد إيمان بدون مجازفة. بالإستسلام بثقة للنّعمة فقط، ووضعنا جانبًا لبرامجنا الخاصّة ووسائل راحتنا، يمكننا أن نقول فعلاً "نَعَمْ" لله. وكلّ "نَعَمْ" تُؤْتِي ثمارًا، لأنّها تلتزم بمخطّط أسمى، نرى بعض تفاصيله فقط، ولكن الفنّان الإلهيّ يعرفها ويمضي بها قُدُمًا، لكي يصنع من كلّ حياة تحفة فنّيّة. بهذا المعنى، يُمَثّلُ القدّيس يوسف أيقونة نموذجيّة لقبول خطط الله. وقبوله هو فاعل، فهو لا يتنازل أو يستسلم أبدًا، فهو "ليس شخصًا مذعنًا سلبيًّا. بل هو يتحلّى بشخصيّة شجاعة وقويّة". ليساعد الجميع، ولاسيّما الشّباب الّذين يقومون بمسيرة تمييز، لكي يحقّقوا أحلام الله لهم، ويلهمهم أن يبادروا بشجاعة ليقولوا "نَعَمْ" للرّبّ الّذي يفاجئنا على الدّوام ولا يخيّبنا أبدًا!

الكلمة الثّانية الّتي تطبع مسيرة القدّيس يوسف ودعوته هي: الخدمة. يتّضح من الأناجيل كيف عاش في كلّ شيء من أجل الآخرين وليس لنفسه. لقد دعاه شعب الله المقدّس "الخطِّيب العفيف"، وأظهر بذلك قدرته على الحبِّ دون أن يحتفظ بأيّ شيء لنفسه. إذ حرّره الحبَّ من كلّ تملّك، انفتح على خدمة أكثر خصوبة: لقد عبرت رعايته المُحِبَّة الأجيال، وجعلته حمايته المتنبّهة شفيعًا للكنيسة. وهو أيضًا شفيع الميتة الصّالحة، وقد جسَّد هو في نفسه معنى التّضحية بالحياة. لكن خدمته وتضحياته كانت ممكنة فقط، لأنّ حبًّا أكبر كان يدعمها: كلّ دعوة حقيقيّة تولد من التّضحية بالذّات، وهي نضوج لمفهوم الذّبيحة البسيط. وهذا النّوع من النّضج يُطلَب أيضًا في الكهنوت والحياة المكرّسة. عندما لا تبلغ الدّعوةُ، سواء كانت إلى الزّواج أو العزوبيّة أو البتوليّة، هذا النّضجَ في هبة الذّات، وتتوقّف فقط عند منطق التّضحية، عندها، وبدلاً من أن تكون الدّعوةُ علامة على جمال الحبّ وفرحه، توشك أن تكون تعبيرًا عن التّعاسة والحزن والإحباط.

إنَّ الخدمة، التّعبير الملموس لبذل الذّات، ولم تكن للقدّيس يوسف مجرّد مِثَال أعلى، ولكنّها أصبحت قاعدة للحياة اليوميّة. فقد عمل بجدّ لإيجاد وتهيئة مكان يولد فيه يسوع، وبذل قصارى جهده للدّفاع عنه من غضب هيرودس، فقام بسرعة وهرب إلى مصر. ولمّا فقدوا يسوع في الهيكل، سارع بالعودة إلى أورشليم بحثًا عنه، وقام بإعالة عائلته بالعمل، حتّى في أرض غريبة. بإختصار، تكيّف مع الظّروف المختلفة، بموقف من لا ييأس إذا تعسّرت معه أمور الحياة: بجهوزيّة من يعيش ليخدم. بهذه الرّوح قبل يوسف رحلات الحياة العديدة، والمفاجئة: من النّاصرة إلى بيت لحم للاكتتاب، ومن ثّم إلى مصر ومرَّة أخرى إلى النّاصرة، ومرَّة في كلّ سنة إلى أورشليم، وكان مستعدًّا على الدّوام لمواجهة الظّروف الجديدة، دون أن يتذمّر ممّا كان يحدث، وجاهزًا ليمدّ يد العون لإصلاح المواقف. وبالتّالي يمكننا القول إنّه كان بمثابة يد الآب السّماوي الممدودة إلى ابنه على الأرض. لذلك، لا يمكنه إلّا أن يكون المثال لكلّ الدّعوات الّتي يُطلَبُ منها ذلك، أيّ أن تكون يد الأب الّتي تعتني بأبنائه وبناته.

يطيب لي أن أفكّر في القدّيس يوسف، حارسِ يسوع والكنيسة، كحارس للدّعوات. في الواقع، من استعداده للخدمة يأتي اهتمامه في الحماية والحراسة. يقول الإنجيل "فقامَ فأَخَذَ الطِّفْلَ وأُمَّه" (متّى 2، 14)، مشيرًا هكذا إلى استعداده وتفانيه من أجل العائلة. فهو لم يضيّع وقتًا في الغضب على الأمور الّتي كانت تتعسّر أمامه، لكي لا يتهرّب من مسؤوليّته تجاه من اؤتمن عليه. هذا الاهتمام الدّقيق والمتنبّه هو علامة على دعوة ناجحة. إنّه الشّهادة لحياة أثّرت فيها محبّة الله. ما أجمل المثال الّذي نقدّمه في الحياة المسيحيّة عندما لا نكابر في اتّباع أطماعنا، ولا نسمح بأن تشلّنا أشواقنا ورغباتنا، بل نعتني بما يوكله الله إلينا بواسطة الكنيسة! حينئذ يُفِيض الله فينا روحه وإبداعِه، ويصنعُ فينا العجائب، كما صنع في يوسف.

بالإضافة إلى دعوة الله- الّتي تحقِّقُ أكبر أحلامنا- وبالإضافة إلى جوابنا الّذي يتحقّق في الخدمة المستعدّة والعناية المتنبّهة- هناك جانب ثالث في حياة القدّيس يوسف، والدّعوةَ المسيحيّة، يطبع رَتابَةَ حياتنا اليوميّة وهو: الأمانة. كان يوسف رجلاً "بارًّا" (متّى 1، 19). وفي الصّمت العامل اليوميّ، ثابر في اتّباع الله ومخطّطاته. وفي لحظة صعبة أخذ "بالتّفكير في جميع الأمور" (را. الآية 20). يتأمّل ويتروّى، ولم يسمح للتّسرُّع بأن يسيطر عليه، ولم يستسلم لتجربة اتّخاذ قرارات متهوّرة، ولم ينقَد للغريزة، ولم يعِش اللّحظة فقط. بل فعل كلّ شيء بصبر. كان يعلم أنّ الحياة تُبنَى بالتّمسّك الدّائم بالخيارات الكبرى. وهذا الأمر يتناسب مع الاجتهاد الوديع والمستمرّ الّذي قام به بمهنة النّجارة المتواضعة (را. متّى 13، 55) الّتي لم يلهم بها مصادر الأخبار في زمنه، وإنّما الحياة اليوميّة لكلّ أب وكلّ عامل، وكلّ مسيحيّ على مرّ القرون. لأنّ الدّعوة، كالحياة، تنضج فقط بالأمانة اليوميّة.

كيف نغذّي هذه الأمانة؟ نغذيها في ضوء أمانة الله. إنَّ الكلمات الأولى الّتي سمعها القدّيس يوسف في الحلم كانت الدّعوة إلى عدم الخوف، لأنّ الله أمين لوعوده: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ" (متّى 1، 20). لا تَخَفْ: هذه هي الكلمات الّتي يوجّهها الرّبّ إليكِ أيضًا، أيّتها الأخت العزيزة، وإليكَ، أيّها الأخ العزيز، عندما تتنبه، في وسط الشّكوك والتّردّد، أنّه لم يعد ممكنًا أن تؤجّل الرّغبة في بذل حياتك من أجل الله. هذه هي الكلمات الّتي يكرّرها لك عندما تجد نفسك، أينما كنت، تصارع كلّ يوم، في وسط المحن وسوء الفهم، من أجل اتّباع مشيئته. وهذه هي الكلمات الّتي تعيد اكتشافها عندما تعود، خلال مسيرة دعوتك، إلى حبّك الأوّل. إنّها الكلمات، الّتي ترافق مثل اللّازمة، من يقول نعم لله في حياته، على مثال القدّيس يوسف في الأمانة اليوميّة.

هذه الأمانة هي سرّ الفرح. تقول ترنيمة ليتورجيّة: في بيت النّاصرة كان هناك "فرح صافٍ". كان الفرح اليوميّ والشّفّاف للبساطة، الفرحُ الّذي يختبره من يحرس ما هو جدير بالاهتمام أيّ: القرب الأمين من الله والقريب. كم سيكون جميلاً لو أنَّ هذا الجوَّ عينه، البسيطُ والمُشِعُّ، الرّزين والمُفعم بالرّجاء، يملأ معاهدَنا الإكليريكيّة، ومؤسّساتِنا الرّهبانيّة، وبيوتَ رعايانا! إنّه الفرح الّذي أتمنّاه لكم، أيّها الإخوة والأخوات الّذين جعلتم الله بسخاء حُلْمَ حياتكم، لكي تخدموه في الإخوة والأخوات الموكلين إليكم، من خلال أمانة تشكِّل في حدِّ ذاتها شهادة، في زمن مطبوع بخيارات عابرة ومشاعرَ تزول دون أن تمنحَكم الفرح. ليرافقكم القدّيس يوسف، حارسُ الدّعوات، بقلبه الأبويّ!".