البابا للمربّين: التّعليم يتطلّب المحبّة!
وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "يسعدني جدًّا أن ألتقي بكم: أنتم المربّون القادمون من جميع أنحاء العالم، والملتزمون في العمل على جميع المستويات، من المرحلة الابتدائيّة وصولًا إلى الجامعة. كما نعلم، الكنيسة هي أمّ ومعلّمة، وأنتم تسهمون في تجسيد هذا الوجه للكنيسة أمام العديد من التّلاميذ والطّلّاب الّذين تكرّسون أنفسكم لتعليمهم. فبفضل كوكبة المواهب والمنهجيّات والنّظريّات التّربويّة والخبرات المشرقة الّتي تمثّلونها، وبفضل التزامكم "متعدّد الأصوات" في الكنيسة، في الأبرشيّات، وفي الرّهبانيّات والمعاهد الدّينيّة، والجمعيّات والحركات، تضمنون لملايين الشّباب تنشئة مناسبة، واضعين خير الإنسان دائمًا في صميم عمليّة نقل المعارف الإنسانيّة والعلميّة.
لقد كنت أنا أيضًا معلّمًا في المؤسّسات التّعليميّة التّابعة لرهبانيّة القدّيس أوغسطينوس. ولذلك، أودّ أن أشارككم خبرتي، مستعيدًا أربعة جوانب من تعاليم طبيب النّعمة أعتبرها أساسيّة للتّربية المسيحيّة: الاستبطان (الرّجوع إلى الذّات)، والوحدة، والمحبّة، والفرح. إنّها مبادئ أودّ أن تصبح الرّكائز الأساسيّة لمسيرة نسيرها معًا، جاعلين من هذا اللّقاء بداية لدرب مشترك للنّموّ والإثراء المتبادل.
فيما يتعلّق بالاستبطان، يقول القدّيس أوغسطينوس إنّ "صوت كلماتنا يقرع الآذان، لكن المعلّم الحقيقيّ يسكن في الدّاخل"، ويضيف: "إنَّ الّذين لا يرشدهم الرّوح داخليًّا، يرحلون دون أن يتعلّموا شيئًا". وهو بذلك يذكّرنا بأنّه من الخطأ الاعتقاد بأنّ الكلمات الجميلة أو القاعات الدّراسيّة الجيّدة والمختبرات والمكتبات كافية للتّعليم. هذه ليست سوى وسائل وأماكن مادّيّة، مفيدة بالطّبع، لكن المعلّم هو في الدّاخل. لأنَّ الحقيقة لا تتنقل عبر الأصوات والجدران والممرّات، بل في اللّقاء العميق بين الأشخاص، الّذي بدونه يُقدَّر لأيّ مبادرة تربويّة أن تفشل.
نحن نعيش في عالم تسيطر عليه الشّاشات والفلاتر التّكنولوجيّة السّطحيّة غالبًا، حيث يحتاج الطّلّاب إلى مساعدة للتّواصل مع ذواتهم الدّاخليّة. وليسوا هم فقط. فالمربّون أيضًا، الّذين غالبًا ما يكونون مرهقين ومثقلين بالمهام البيروقراطيّة، يواجهون خطرًا حقيقيًّا يتمثّل في نسيان ما لخَّصه القدّيس جون هنري نيومان بعبارة:"cor ad cor loquitur" أيّ "القلب يتحدّث إلى القلب"، وما أوصى به القدّيس أوغسطينوس بقوله: "لا تنظر إلى الخارج. ارجع إلى نفسك. لأنَّ الحقيقة تسكن في داخلك". إنّها تعابير تدعو إلى النّظر إلى التّنشئة على أنّها مسار يسير فيه المعلّمون والتّلاميذ معًا، مدركين أنّهم لا يبحثون عبثًا، ولكن عليهم في الوقت عينه أن يستمرّوا في البحث بعد العثور. وحده هذا الجهد المتواضع والمشترك- الّذي يتشكّل في السّياقات المدرسيّة كمشروع تربويّ- يمكنه أن يقود التّلاميذ والمعلّمين إلى الاقتراب من الحقيقة.
وهكذا نأتي إلى الكلمة الثّانية الّتي أودّ أن أتوقّف عندها: الوحدة. لعلّكم تعلمون أنّ شعاري هو " In Illo uno unum". إنّها أيضًا عبارة أوغسطينيّة، تذكّر بأنّنا لا نجد الوحدة الحقيقيّة إلّا في المسيح، كأعضاء متّحدين بالرّأس ورفقاء درب في مسيرة التّعلّم المستمرّة في الحياة. إنّ هذا البعد المتمثّل في "المشاركة"- "معًا"، الحاضر باستمرار في كتابات القدّيس أوغسطينوس، هو أساسيّ في السّياقات التّربويّة، كتحدٍّ لـ"الابتعاد عن الذّات" وكتشجيع على النّموّ. ولهذا السّبب، قرّرت أن أستأنف وأُحيّي مشروع الميثاق التّربويّ العالميّ، الّذي كان إحدى الإلهامات النّبويّة لسلفي المبجّل، البابا فرنسيس. كذلك، كما يعلّم معلّم هيبو، فإنّ كينونتنا لا تخصّنا، إذ يقول: "إنَّ روحك [...] لم تعد ملكك، بل ملك جميع الإخوة". وإذا كان هذا صحيحًا بالمعنى العامّ، فهو صحيح بالأحرى في التّبادليّة النّموذجيّة للعمليّات التّربويّة، حيث لا يمكن أن يكون تبادل المعرفة إلّا عمل محبّة عظيم.
في الواقع، هذه الكلمة تحديدًا- المحبّة- هي الكلمة الثّالثة. إنّ البيتين الأوغسطينيّين اللّذين يؤكّدان أنّ: "محبّة الله هي الأولى الّتي تُطلب منّا، ومحبّة القريب هي الأولى الّتي علينا ممارستها" يدعوان إلى الكثير من التّفكير في هذا الصّدد. في مجال التّنشئة، يمكن لكلّ واحد أن يسأل نفسه: ما هو الالتزام المفروض لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحًا؟ ما هو الجهد لبناء جسور الحوار والسّلام، حتّى داخل هيئات التّدريس؟ ما هي القدرة على تجاوز الأحكام المسبقة أو الرّؤى المحدودة؟ ما هو الانفتاح في عمليّات التّعلّم المشترك؟ ما هو الجهد المبذول لتلبية احتياجات الفئات الأكثر ضعفًا والفقراء والمهمّشين والاستجابة لها؟ إنَّ مشاركة المعرفة لا تكفي للتّعليم: وإنّما هناك حاجة للمحبّة. بهذه الطّريقة فقط تكون المعرفة مثمرة لمن يتلقّاها، في حدّ ذاتها ولاسيّما بسبب المحبّة الّتي تحملها. لا يمكن أبدًا فصل التّعليم عن المحبّة، وإحدى الصّعوبات الحاليّة الّتي تواجه مجتمعاتنا هي عدم معرفة كيفيّة تقدير المساهمة الكبيرة الّتي يقدّمها المعلّمون والمربّون للجماعة في هذا الصّدد. لكن لنتنبّه: إنَّ تقويض الدّور الاجتماعيّ والثّقافيّ للمربّين هو رهن للمستقبل، كما أنّ أزمة نقل المعرفة تحمل في طيّاتها أزمة رجاء.
أمّا الكلمة الأخيرة فهي الفرح. المعلّمون الحقيقيّون يربّون بابتسامة، ورهانهم هو أن ينجحوا في إيقاظ الابتسامات في أعماق نفوس تلاميذهم. واليوم، ما يثير القلق في سياقاتنا التّعليميّة هو رؤية أعراض الهشاشة الدّاخليّة المنتشرة تتزايد، في جميع الأعمار. لا يمكننا أن نغمض أعيننا عن نداءات المساعدة الصّامتة هذه، بل يجب أن نسعى جاهدين لتحديد أسبابها العميقة. يمكن للذّكاء الاصطناعيّ بشكل خاصّ، بمعرفته التّقنيّة الباردة والموحّدة، أن يزيد من عزلة الطّلّاب المنعزلين أصلًا، ويمنحهم وَهمَ عدم حاجتهم إلى الآخرين، أو الأسوأ من ذلك، شعورهم بأنّهم لا يستحقّونهم. فيما أنَّ دور المربّين، هو التزام إنسانيّ، وفرحة العمليّة التّربويّة نفسها هي إنسانيّة بالكامل، إنّها "شعلة تذيب النّفوس معًا وتجعل من النّفوس الكثيرة نفسًا واحدة".
لذلك، أدعوكم أيّها الأعزّاء، إلى جعل هذه القيم– الاستبطان، والوحدة، والمحبّة، والفرح– "نقاط ارتكاز" لرسالتكم تجاه طلّابكم، متذكّرين كلمات يسوع: "كلّ ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصّغار، فلي قد فعلتموه". أشكركم على العمل الثّمين الّذي تقومون به! أبارككم من كلّ قلبي وأصلّي من أجلكم".



