البابا: للإنتقال من جمع المعلومات والخطابات إلى ارتداد إيكولوجي يبدّل أنماط الحياة
كلام البابا جاء في خطاب ألقاه أمام أكثر من ألف شخص من بينهم قادة في مجالات الإيمان والحركات والعلم والسّياسة، قال فيه بحسب "فاتيكان نيوز": "فيما نحتفل بالذّكرى العاشرة للرّسالة العامّة كن مسبَّحًا حول العناية ببيتنا المشترك، أوجّه تحيّة حارّة إلى المنظّمين والمتحدّثين والمشاركين وجميع الّذين جعلوا انعقاد مؤتمر "Raising Hope on Climate Change" ممكنًا. وأخصّ بالشّكر حركة كن مسبَّحًا على دعمها في نشر رسالة البابا فرنسيس وتطبيقها منذ البداية.
لقد ألهمت هذه الرّسالة العامّة الكنيسة الكاثوليكيّة والكثير من ذوي الإرادة الصّالحة. وكانت مصدرًا للحوار، وأثمرت مجموعات للتّفكير، وبرامج أكاديميّة في المدارس والجامعات، وشراكات ومشاريع مختلفة في القارّات كلّها. كما دفعت أبرشيّات ومعاهد رهبانيّة عديدة إلى اتّخاذ خطوات عمليّة للعناية ببيتنا المشترك، واضعة من جديد الأولويّة للفقراء والمهمّشين. ووصل تأثيرها حتّى القمم الدّوليّة، والحوار المسكونيّ والدّينيّ، والدّوائر الاقتصاديّة والتّجاريّة، والدّراسات اللّاهوتيّة والبيوأخلاقيّة. وقد دخل تعبير "العناية ببيتنا المشترك" أيضًا في الخطابات الأكاديميّة والعلميّة والسّياسيّة.
إنّ قلق البابا فرنسيس وتوصياته قد لاقوا التّقدير والقبول ليس فقط من قبل الكاثوليك، وإنّما أيضًا من كثيرين خارج الكنيسة شعروا بأنّهم مفهومون وممثَّلون ومدعومون في هذه اللّحظة التّاريخيّة المميّزة. فتحليله للواقع (راجع الفصل الأوّل)، وطرحه لنموذج "الإيكولوجيا المتكاملة" (راجع الفصل الرّابع)، ونداؤه الملحّ إلى الحوار (راجع الفصل الخامس)، ودعوته إلى معالجة جذور المشاكل و"جمع العائلة البشريّة كلّها للبحث عن تنمية مستدامة ومتكاملة" (كن مسبَّحًا، عدد ١٣)، جميع هذه الأمور قد أثارت اهتمامًا واسعًا. فلنشكر أبانا السّماويّ على هذه الهبة الّتي ورثناها من البابا فرنسيس! إنَّ التّحدّيات الّتي حدّدتها الرّسالة العامّة "كن مسبَّحًا" هي اليوم أكثر إلحاحًا ممّا كانت عليه لعشر سنوات خلت. وهي تحدّيات اجتماعيّة وسياسيّة، لكنّها قبل كلّ شيء ذات طبيعة روحيّة: تدعونا إلى الارتداد.
وككلّ ذكرى من هذا النّوع، نحن نتذكّر الماضي بامتنان، لكنّنا نسأل أنفسنا أيضًا: ماذا يبقى علينا أن نفعل؟ لقد انتقلنا عبر السّنوات من مرحلة الفهم والدّراسة إلى مرحلة التّطبيق العمليّ للرّسالة العامّة. فما الّذي يجب فعله الآن لكي لا يظهر الاهتمام ببيتنا المشترك والإصغاء إلى صرخة الأرض والفقراء وكأنّه مجرّد تيّار عابر، أو أسوأ من ذلك، موضوعًا انقساميًّا؟ تماشيًا مع الرّسالة العامّة "كن مسبَّحًا"، أشار الإرشاد الرّسوليّ سبّحوا الله (Laudate Deum) الّذي صدر منذ عامين إلى أنّ "البعض اختاروا أن يسخَروا" (عدد ٦) من العلامات الواضحة للتّغيّر المناخيّ، و"يسخرون من الّذين يتكلّمون عن الاحتباس الحراريّ" (عدد ٧)، لا بل يحمّلون الفقراء مسؤوليّة ما هم أوّل المتضرّرين منه (راجع عدد ٩).
وإلى جانب نشر الرّسالة، أصبح من الأهمّ أكثر من أيّ وقت مضى أن نعود إلى القلب. ففي الكتاب المقدّس، القلب ليس فقط موضع المشاعر والعواطف، بل مقرّ الحرّيّة. وعلى الرّغم من أنّه يشمل العقل لكنّه يسمو عليه ويحوّله، فيؤثّر في جميع أبعاد الشّخص وعلاقاته الأساسيّة. إنّه المكان الّذي تتأثّر فيه النّفس بالواقع الخارجيّ بشكل كبير، وحيث يتمّ البحث الأعمق، وحيث تُكتشف الرّغبات الأكثر أصالة، وتُبنى الهويّة النّهائيّة، وتُتّخذ القرارات. ومن خلال العودة إلى القلب فقط يمكن أن يتحقّق الارتداد الإيكولوجيّ الحقيقيّ. يجب أن ننتقل من جمع المعلومات إلى العناية، ومن الخطاب البيئيّ إلى ارتداد إيكولوجيّ يبدّل أنماط الحياة الشّخصيّة والجماعيّة. بالنّسبة للمؤمنين، هذا الارتداد لا يختلف عن الارتداد الّذي يوجّهنا نحو الله الحيّ. فلا يمكننا أن نحب الله الّذي لا نراه ونحن نحتقر مخلوقاته. ولا يمكننا أن ندعو أنفسنا تلاميذ المسيح يسوع بدون أن نشارك في نظرته إلى الخليقة وعنايته بكلّ ما هو هشّ ومجروح.
أيّها الأصدقاء الأعزّاء، دعوا إيمانكم يُلهمكم لكي تكونوا حَمَلة الرّجاء الّذي يأتي من الاعتراف بحضور الله العامل في التّاريخ. ولنتذكّر كيف وصف البابا فرنسيس القدّيس فرنسيس الأسيزيّ: "لقد عاش ببساطة وفي انسجام رائع مع الله، ومع الآخرين، ومع الطّبيعة ومع نفسه. وهو يُظهر لنا كم هو وثيق الارتباط بين الاهتمام بالطّبيعة، والعدالة تجاه الفقراء، والالتزام بالمجتمع، والسّلام الدّاخليّ" (كن مسبَّحًا، عدد ١٠). فليزدَد كلّ واحد منّا نموًّا في هذه العلاقات الأربع- مع الله، مع الآخرين، مع الطّبيعة ومع ذواتنا- من خلال موقف دائم من الارتداد. إنّ الإيكولوجيا المتكاملة تقوم على هذه العلاقات كلّها. ومن خلال التزامنا بها يمكننا أن ننمو في الرّجاء، ونعيش البعد العابر للتّخصّصات الّذي يميّز الرّسالة العامّة "كن مسبَّحًا" والدّعوة إلى الوحدة والتّعاون الّتي تنبع منها.
نحن عائلة واحدة، ولدينا أب واحد، يُشرق شمسه ويُرسل مطره على الجميع. ونحن نسكن الكوكب نفسه، وعلينا أن نعتني به معًا. لذلك أجدّد ندائي القويّ من أجل الوحدة حول الإيكولوجيا المتكاملة ومن أجل السّلام! ومن المشجّع أن نرى تنوّع المنظّمات المشاركة في هذا المؤتمر، وكذلك العديد من المنظّمات الّتي انضمّت إلى حركة "كن مسبَّحًا" وإلى منصّة العمل. ثمّ إنّ البابا فرنسيس قد سلّط الضّوء على أنّ "الحلول الأكثر فعاليّة لن تأتي من الجهود الفرديّة فقط، وإنّما وبشكل خاصّ من القرارات السّياسيّة الكبرى على الصّعيدين الوطنيّ والدّوليّ" (سبّحوا الله، عدد ٦٩). فالمجتمع كلّه، من خلال المنظّمات غير الحكوميّة ومجموعات التّأييد، مدعوّ إلى ممارسة الضّغط على الحكومات لتطوير وتنفيذ قواعد وإجراءات ورقابة أكثر صرامة. كما ينبغي على المواطنين أن يقوموا بدور فاعل في اتّخاذ القرارات السّياسيّة على المستويات الوطنيّة والإقليميّة والمحلّيّة. وعندها فقط سيكون من الممكن التّخفيف من الأضرار الّتي لحقت بالبيئة. كما أنّ التّشريعات المحلّيّة ستكون أكثر فعاليّة إذا ما دعمت الجماعات المجاورة السّياسات البيئيّة عينها (راجع "كن مسبَّحًا"، عدد ١٧٩).
آمل أن تُصغي القمم الدّوليّة المقبلة للأمم المتّحدة- مؤتمر تغيّر المناخ ٢٠٢٥(COP30)، والجلسة العامّة الثّالثة والخمسون للجنة الأمن الغذائيّ العالميّ، ومؤتمر المياه ٢٠٢٦- إلى صرخة الأرض وصرخة الفقراء والعائلات والشّعوب الأصليّة والمهاجرين القسريّين والمؤمنين في العالم أجمع. وفي الوقت عينه، أشجّع الجميع، ولاسيّما الشّباب والآباء والعاملين في الإدارات والمؤسّسات المحلّيّة والوطنيّة، على المشاركة الفاعلة في إيجاد حلول للتّحدّيات "الثّقافيّة والرّوحيّة والتّربويّة" الرّاهنة ("كن مسبَّحًا"، عدد ٢٠٢)، مجاهدين دومًا من أجل الخير العامّ. إذ لا مكان للّامبالاة ولا للاستسلام.
وأودّ أن أختم بسؤال يعني كلّ واحد منّا: إنَّ الله سيسألنا إن كنّا قد عزّزنا العالم الّذي خلقه واعتنينا به، لخير الجميع ولأجل الأجيال المقبلة، وإن كنّا قد اعتنينا بإخوتنا وأخواتنا. فما سيكون جوابنا؟ أيّها الأصدقاء الأعزّاء، أشكركم على التزامكم، وأمنحكم بركتي."