البابا لشبيبة لبنان: كونوا عصارة الرّجاء الّتي ينتظرها بلدكم!
"أعزّائي شباب وشابّات لبنان، السّلام لكم!
هذا السلام الذي أعلنه يسوع القائم من بين الأموات (راجع يوحنا 20: 19) سَنَدٌ لِفَرَح لقائنا والاندفاع الذي نَشْعُرُ بِه فِي قُلُوبِنا يُعَبِّرُ عن قُربِ اللهِ الذي يُحِبُّنا، ويُوَحِّدنا إخوة وأخوات فنُعَبِّر عن إيماننا الواحد به، وعن الوَحدَةِ والشَّرِكَةِ فيما بيننا.
أشكركم جميعًا على حفاوة الاستقبال، وأشكر صاحب الغبطة على ترحيبه وكلماته الأخوية. أُحَيّي خاصة الشباب القادمين من سورية والعراق واللبنانيين القادمين إلى وطنهم من بلدان مختلفة. اجتمعنا هنا لنصغي بعضنا إلى بعض، وأنا أولكم، ونسألُ اللهَ أَن يُلهم خياراتنا لِمُستقبلنا. وفي هذا الصدد، فإنَّ الشهادات التي شاركنا فيها أنطوني وماريا، وإيلي وجويل، فتحت حقًّا قلوبنا وأذهاننا.
قصصهم تتحدث عن الشجاعة في الألم، وعن الرّجاء وسط الفشل، وعن السلام الداخلي زمن الحرب. إنّهم نجوم متلألئة في ليلة مظلمة، نرى فيها بزوغ نور الفجر. وفي كل هذه التناقضات يستطيع الكثيرون منا أن يعرفوا خبراتهم الشخصية، في الخير كما في الشر.
تاريخ لبنان مليء بالصفحات المجيدة، لكنّه أيضا يحمل جراحًا عميقة، يصعب شفاؤها. هذه الجراح لها أسباب تتجاوز الحدود الوطنية وتتداخل مع ديناميات اجتماعية وسياسية معقدة جدا. أيها الشباب الأعزاء، ربما تشعرون بالأسى لأنَّكُم ورَثْتُم عالَمًا مُمَزَّقًا بالحروب ومُشَوَّهًا بالظَّلِمِ الاجتماعي. ومع ذلك، في داخلكم رجاء، وهو عطية لكم، يبدو لنا نحن الكبار أنه بدأ يتلاشى. أنتم أمامكم الزمن ومعكم المزيد من الوقت لتحلموا، وتُنَظِمُوا، وتَعْمَلُوا الخير. أنتم الحاضر، وبأيديكم بدأ المستقبل يتكوّن وفيكم اندفاع لتغيير مجرى التاريخ. المقاومة الحقيقية للشر ليست بالشر، بل بالمحبة القادرة على شفاء جراحنا بشفاء جراح الآخرين.
تفاني أنطوني وماريا من أجل المحتاجين، ومُتابَرَةُ إيلي، وسخاء جويل، هي نبوءات لمستقبل جديد تُبَشِّرون به للمصالحة والمساعدة المتبادلة. إذاكَ يَتَحَقَّقُ كلام يسوع: "طوبى للوُدَعاء، فإنَّهم يرثون الأرض" و "طوبى للساعين إلى السَّلام، فإنَّهم أبناءَ اللهِ يُدعون" (متى 5: 4، 9). أيها الشباب الأعزاء، لتكن حياتكم في نور الإنجيل، وستكونون طوباويين، سعداء، في عيني الله!
وطنكم، لبنان، سيُزهر ويصير جميلاً وقويًّا مثل شجرة الأرز، رمز وحدة الشعب وحَيَوِيَّتِه. نعلم جيّدًا أنّ قوَّة الأرزة في جذورها، وهي عادةً بِمِثْلِ حَجم فروعها. عدد وقوة الفروع مِثْلُ عَدَدِ وقوة الجذور. وكذلك فإنَّ كلَّ الخير الذي نراه اليوم في المجتمع اللبناني هو نتيجة عمل متواضع وخفي وصادق لصانعي الخير الكثيرين، ولجذور صالحة كثيرة لا تسعى لِنُموّ فرع واحد فقط في أرزة لبنان، بل كل الشجرة بكل جمالها. اسْتَمِدُّوا من الجذور الصالحة للذين يخدمون المجتمع ولا يستَغِلُّونَه لمصالحهم الخاصة. والتزموا العدل بسخاء، وخَطِطُوا معًا لمستقبل يسوده السلام والتنمية. كونوا عُصارَةَ الرّجاء التي يَنتَظِرُها بلدكم!
وفي هذا السياق، تسمح أسئلتكم برسم طريق فيه طبعًا التزام وجهد، ولهذا فهو يبعث فيكم اندفاعا للعمل.
سألتم أين نجد الركيزة الراسخة لتثبت في الالتزام من أجل السلام. أيها الأعزاء، هذه الركيزة الراسخة لا يمكن أن تكون فكرة أو اتفاقية أو مبدأ أخلاقيا. مبدأ الحياة الجديدة الحقيقي هو الرجاء الذي يأتي من العُلى هو المسيح! إنّه مات وقام من بين الأموات من أجل خلاص الجميع. هو الحي، وأساس ثقتنا. وهو شاهد الرحمة التي تُحَرِّرُ العالم من كل شر. يقول لنا القديس أغسطينس، وهو يُرَدِّدُ كلام الرسول بولس: "في المسيح سلامنا، ومنه يأتي سلامنا" (شرح إنجيل يوحنا، 77: 3). السلام ليس حقيقيًا إن كان ثمرة مصالح شخصية فقط، بل هو سلام صادق عندما أفعل للآخر ما أريد أن يفعله لي الآخر (راجع متى 7: 12). قال القديس البابا يوحنا بولس الثاني بقلب ملهم: "لا سلام بدون عدل، ولا عدل بدون مغفرة" (رسالة في اليوم العالمي الخامس والثلاثين للسلام، 1 كانون الثاني / يناير (2002). هذه هي حالنا: من المغفرة يأتي العدل، وهو أساس السلام.
أما سؤالكم الثاني فيمكن أن نجيب عليه بهذه الديناميكية صحيح أننا نعيش زمنا تبدو فيه العلاقات الشخصية ضعيفة، وتستهلك كما لو كانت أشياء حتى بين الشباب، أحيانًا، الثقة بالآخر يقابلها السعي إلى المصلحة الفردية، والتفاني من أجل الآخرِ يَحِلُّ مكانه البحث عن المنفعة الخاصة. هذه المواقف تجعل حتى الكلام الجميل مثل كلام الصداقة والحب كلامًا سطحيًّا، ويختلط مرارًا بالشعور الأناني بكل الأمور التي نجد فيها رضانا وراحتنا. إن كانت الأنا هى مركز العلاقة في الصداقة أو الحبّ، فهذه العلاقة لا يمكن أن تكون مثمرة. وكذلك لا يمكن أن يُحِبَّ الإنسان حبًّا حقيقيا إن كان حبه مؤقتًا، أي إذا بَقِيَ فقط طالما بقيت العاطفة الحب المحدود هو حب فاشل عكس ذلك، الصداقة حقيقية عندما تقول "أنت" قبل "أنا". هذه النظرة المليئة بالاحترام والمُرَحِبَةُ بالآخر تسمح لنا بأن نبني نحن أوسع، منفتحين على كل المجتمع، وعلى كل الإنسانية والحبُّ أصيل ويمكن أن يدوم إلى الأبد فقط عندما يعكس جمال الله الأبدي، الذي هو محبة (راجع 1 يوحنا 4، 8). والعلاقات المتينة المثمرة تُبنى معًا على الثقة المتبادلة، على هذا المعنى إلى الأبد" الذي يخفُقُ في كل دعوة إلى الحياة العائلية وإلى الحياة المكرسة.
أيها الشباب الأعزاء، ما الذي يُعَبِّرُ أكثر من غيره عن حضور الله في العالم؟ المحبّة المحبة تتكلّم لغة عالمية، لأنها تخاطب كلَّ قلب. وهي ليست أمرًا مثاليا، بل هي واقع وقصة أوحى الله بها إلينا في حياة يسوع المسيح والقديسين الذين يرافقوننا وسط محن الحياة. انظروا بصورة خاصة إلى الشباب الكثيرين مثلكم، الذين لم يُثبط عزيمتهم الظلم أو الشهادات الخاطئة، حتى في الكنيسة، بل حاولوا رسم طرق جديدة بحثًا عن ملكوت الله وعدله بالقوة التي يمنحكم إياها المسيح. ابنوا عالمًا أفضل من الذي وَجَدتُّم أنفسكم فيه! أنتم الشباب تقدرون، أكثر من غيركم، أن تنسجوا علاقات مع الآخرين، حتى لو اختلفوا عنكم في الخَلْفِيَة الثقافية والدينية. التجدد الحقيقي الذي يتوق إليه القلب الشاب يبدأ بالأعمال اليومية بقبول القريب والبعيد، ومد اليد إلى الصديق واللاجئ، والمغفرة للعدو، التي هي أمر صعب لكن ضروري.
لِنَنظُرُ إلى الأمثلة الرائعة التي تركها لنا القديسون. لُنُفَكِّر في القديس بيير جورجيو فراساتي والقديس كارلو أكوتيس، شابين تم إعلان قداستهما في هذه السنة المقدّسة، سنة اليوبيل. ولنَنظُرْ إلى مثال قديسيكم، ما أجمل ما تجلى في حياة القديسة رفقا، التي قاوَمَت أَلَمَ المرض مدة سنوات بقوّة ووداعة، وكم من أفعال رحمة قام بها الطوباوي أبونا يعقوب الحداد، فساعد المهمشين والمنسيين من الجميع.
يا لِقُدرَةِ النور الذي ينبعث من الظلال حيث أراد أن يختلي القدّيس شربل، أحد رموز لبنان في العالم. عيناه تُصَوَّران مرارًا مُغْمَضَتين، كما لو كان يحتفظ بسر أكبر بكثير. بِعَينَي القدّيس شربل، المُغْمَضَتين لترى الله بصورة أفضل، نستمر في إدراك نور الله بوضوح أكبر. النشيد المُخَصَّص له جميل جدًا: "يا غافي وعيونك لعيننا نور زهرت ع جفونك حبة البخور".
أيها الشباب الأعزاء، لِتُضِيءُ أَعْيُنُكُم بالنور الإلهي ولتُزهر بخور الصلاة. في عالم مليء بالملهيات والغرور، خَصِصُوا كلَّ يومٍ وقتًا لإغلاق أعينكم والنظر إلى الله وحده. فهو، إن بدا أحيانًا صامتًا أو غائبًا، يظهر للذي يبحث عنه في الصمت. فيما تلتزمون عمل الخير، أطلب منكم أن تلتزموا التأمل مثل القديس شربل بالصلاة وقراءة الكتاب المقدّس، والمشاركة في القداس الإلهي، وفي أوقات للسجود. قال البابا بندكتس السادس عشر: "المسيحيي المشرق أدعوكم إلى أن تُنَمُّوا الصداقة الحقيقية مع يسوع باستمرار، بقوة الصلاة" (الإرشاد الرسولي، الكنيسة في الشرق الأوسط، 63).
أيها الأعزاء، بين جميع القديسين والقديسات تُشرِقُ كامِلَةُ القداسة، مريم العذراء، أم الله وأمنا. كثير من الشباب يحملون مسبحة الوردية دائمًا في جيبهم، أو على المعصم، أو حول أعناقهم. ما أجمل أن ننظر إلى يسوع بِعَينَي قلب مريم. ومن هنا أيضًا، حيث نحن الآن، ما أروع أن نرفع نَظَرَنا إلى سيدة لبنان، برجاء وثقة!
أيها الشباب الأعزاء، اسمحوا لي أخيرًا أن أقدم لكم صلاة بسيطة وجميلةً تُنسب إلى القديس فرنسيس الأسيزي: "يا ربّ، استعملني لسلامك، فأضَعُ الحب حيث البغض، والمغفرة حيثُ الإساءة، والاتفاق حيث الخلاف، والإيمان حيث الشك، والحقيقة حيثُ الضَّلال، والرجاء حيث اليأس، والفرح حيثُ الكآبة، والنور حيثُ الظلمة".
لِتُحافظ هذه الصلاةُ فيكم على فَرَحِ الإنجيل والاندفاع المسيحي. وكلمة اندفاع تعني أَن يَسكُنَ اللهُ قَلبَكم. فعندما يَسكُنُ الله فينا، يصيرُ الرّجاءُ الذي يمنحنا إيَّاهُ خصبًا للعالم. كما ترون، الرجاء فضيلة فقيرة، لأنه يأتي بِيَدَينِ فارغتين، ولكن يدَيْن حُرَّتَيْن لفتح الأبواب التي تبدو مُغلَقَةً بِسَبَبِ التَّعب والألم والفشل.
الرب يسوع سيكون دائما معكم، وكونوا واثقين بدعم كل الكنيسة لكم في تحدّيات حياتكم المصيرية وفي تاريخ بلدكم الحبيب. أُوكِلُكُم إلى حماية والِدَةِ اللهِ سَيِّدَتِنا مريم العذراء، التي من أعلى هذا الجبل تنظر إلى هذا الإزهار الجديد. يا شباب لبنان، أثموا بقوةٍ مِثلَ الأرز واجعلوا العالَمَ يُزهَرُ بالرجاء."
