البابا في يوبيل الكرسيّ الرّسوليّ: إنّ خصوبة الكنيسة هي امتداد لخصوبة مريم عينها
وللمناسبة، كانت له عظة تأمّل فيها في سرّ خصوبة الكنيسة وقداستها، من خلال صورة العذراء الواقفة عند الصّليب وأمومتها للجماعة المسيحيّة النّاشئة، مشدّدًا على أنّ "كلّ خصوبة حقيقيّة في الكنيسة تتغذّى من الجذور العميقة للصّليب، وتستمدّ إشعاعها من أمومة مريم الفريدة".
وقال البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "لدينا اليوم فرح ونعمة الاحتفال بيوبيل الكرسيّ الرّسوليّ في الذّكرى اللّيتورجيّة لمريم، أمّ الكنيسة. وهذه المصادفة السّعيدة، هي مصدر نور وإلهام داخليّ في الرّوح القدس، الّذي انسكب بغزارةٍ على شعب الله يوم أمس، في عيد العنصرة. وفي هذا الجوّ الرّوحيّ، ننعم اليوم بيوم مميّز، أوّلًا بالتّأمّل العميق الّذي أصغينا إليه، والآن هنا، على مائدة الكلمة والإفخارستيّا. إنّ كلمة الله في هذا الاحتفال تجعلنا نفهم سرّ الكنيسة وفيها الكرسيّ الرّسوليّ، في ضوء صورتين بيبليّتين خطّهما الرّوح القدس في سفر أعمال الرّسل (١، ١٢-١٤)، وفي إنجيل القدّيس يوحنّا (١٩، ٢٥- ٣٤).
نبدأ من الصّورة الأساسيّة، وهي رواية موت يسوع. لقد كان يوحنّا، وحده من بين الرّسل الاثني عشر، حاضرًا على الجلجلة، وقد رأى وشهد أنّ أمّ يسوع كانت واقفة هناك، تحت الصّليب، مع نساء أخريات. وقد سمع بأذنيه آخر كلمات المعلّم، ومن بينها هذه الكلمات: "يا امرأة، هذا ابنك!" ثمّ التفت إليه وقال: "هذا أمّك!". لقد قامت أمومة مريم، من خلال سرّ الصّليب، بقفزة لا يمكن تصوّرها: لقد أصبحت أمّ يسوع حوّاء الثّانية، لأنّ الابن الإلهيّ قد أشركها في موته الفدائيّ، ينبوع الحياة الجديدة والأبديّة لكلّ إنسان يأتي إلى هذا العالم. إنَّ موضوع الخصوبة حاضر بوضوح في هذه اللّيتورجيا. فقد أظهرت "صلاة الجماعة" ذلك منذ اللّحظة الأولى، إذ ابتهلنا إلى الآب أن يجعل الكنيسة، الّتي تعضدها محبّة المسيح، "أكثر خصوبة في الرّوح".
إنّ خصوبة الكنيسة هي امتداد لخصوبة مريم عينها؛ وتتحقّق هذه الخصوبة في حياة أعضائها بمقدار ما يحيون، كلّ على قدره، ما عاشته الأمّ القدّيسة، أيّ أن يحبّوا على مثال يسوع، وبمحبّته عينها. إنّ كلّ خصوبة الكنيسة والكرسيّ الرّسوليّ تتعلّق بصليب المسيح. أمّا إن فقدت الكنيسة ارتباطها بهذا السّرّ، فلا يبقى من خصبها سوى المظهر الخادع، وربّما الأسوأ. وقد كتب أحد اللّاهوتيّين الكبار في عصرنا: "إذا كانت الكنيسة هي الشّجرة الّتي نبتت من حبّة الخردل الصّغيرة، أيّ من الصّليب، فإنّ هذه الشّجرة لا بدّ أن تُنتج حبّات خردلٍ أخرى، أيّ ثمارًا تُكرّر شكل الصّليب، لأنّها تستمدّ وجودها منه بالذّات.
في "صلاة الجماعة"، سألنا أيضًا أن "تبتهج الكنيسة بقداسة أبنائها". وفي الواقع هذه الخصوبة الّتي تتمتّع بها مريم والكنيسة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقداستها، أيّ بتشبّهها بالمسيح. إنّ الكرسيّ الرّسوليّ هو مقدّس، تمامًا كما هي الكنيسة في جوهرها الأصيل، وفي النّسيج الّذي تتكوّن منه. وهكذا، فإنّ الكرسيّ الرّسوليّ يحفظ قداسة جذورها، فيما هو أيضًا محفوظ بها. لكن لا يقلّ صحّةً أنّ هذه القداسة تتجسّد أيضًا في قداسة كلّ واحد من أعضائه. ومن ثمّ، فإنّ أفضل وسيلة لخدمة الكرسيّ الرّسوليّ هي أن يسعى كلٌّ منّا إلى القداسة، بحسب حالته والمهمّة الّتي أُوكلت إليه. على سبيل المثال، كاهنٌ يحمل في حياته صليبًا ثقيلًا نتيجة خدمته الكهنوتيّة، ورغم ذلك، هو يذهب كلّ يوم إلى مكتبه، ويحاول أن ينجز عمله بأمانة، وبروح المحبّة والإيمان، وبالتّالي فإنّ هذا الكاهن يشارك في خصوبة الكنيسة ويغنيها. وكذلك الأب أو الأمّ اللّذان يعيشان في البيت ظروفًا صعبة، كولدٍ يُقلقهما أو والدٍ مريض، ورغم كلّ شيء، يواصلان عملهما بالتزام، فإنّ هذان الرّجل والمرأة هما أيضًا خصبان من خصوبة مريم والكنيسة.
ونأتي الآن إلى الصّورة الثّانية، الّتي خطّها القدّيس لوقا في مطلع سفر أعمال الرّسل، والّتي تصوّر أمّ يسوع وهي مجتمعة مع الرّسل والتّلاميذ في العلّيّة. وهي تُظهر لنا أمومة مريم تجاه الكنيسة النّاشئة، أمومة "نموذجيّة"، تبقى آنيّة في كلّ زمان ومكان. ولاسيّما، هذه الأمومة هي على الدّوام ثمرة السّرّ الفصحيّ، وعطيّة الرّبّ المصلوب والقائم من بين الأموات. إنّ الرّوح القدس، الّذي نزل بقوّة على الجماعة الأولى، هو الرّوح نفسه الّذي أسلمه يسوع بنَفَسه الأخير. وهذه الصّورة البيبليّة لا تنفصل عن الأولى: لأنّ خصوبة الكنيسة مرتبطة دائمًا بالنّعمة المتدفّقة من قلب يسوع المطعون، مع الدّمّ والماء، رمز الأسرار المقدّسة.
إنّ مريم، في العلّيّة، وبفضل الرّسالة الوالديّة الّتي نالتها عند أقدام الصّليب، تضع نفسها في خدمة الجماعة النّاشئة: إنّها الذّاكرة الحيّة ليسوع، وهي- بهذا المعنى- قطب الجذب الّذي يوحّد الاختلافات وينسج بين التّلاميذ وحدة القلوب في الصّلاة. كذلك الرّسل، في هذا النّصّ، يُعدَّدون بأسمائهم، وعلى رأسهم دائمًا بطرس. لكنّه هو نفسه، بل هو أوّل من ينال الدّعم من مريم في خدمته. وهكذا، فإنّ الأمّ الكنيسة تعضد خدمة خلفاء بطرس بالموهبة المريميّة. والكرسيّ الرّسوليّ يعيش بصورة فريدة من نوعها هذا التّوازن بين القطبين: المريميّ والبطرسيّ. والقطب المريميّ هو الّذي يضمن للقطب البطرسيّ خصوبته وقداسته، بفضل أمومته، الّتي هي عطيّة المسيح والرّوح القدس.
أيّها الأعزّاء، لنسبّح الله من أجل كلمته، تلك الكلمة الّتي هي مصباح لخطانا ونورٌ لسُبُلنا، حتّى في حياتنا اليوميّة في خدمة الكرسيّ الرّسوليّ. وإذ تنيرنا هذه الكلمة، لنجدّد صلاتنا قائلين: "امنح، أيّها الآب، أن تكون كنيستك، الّتي تعضدها محبّة المسيح، أكثر خصوبة في الرّوح، وأن تبتهج بقداسة أبنائها، وتجمع في حضنها العائلة البشريّة بأسرها".