الفاتيكان
26 أيار 2025, 05:00

البابا في قدّاسه الأوّل كأسقف روما: لنمضِ معًا في مسيرة الصلاة والمحبّة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البابا لاون الرّابع عشر عصر الأحد، القدّاس الإلهيّ في بازيليك القدّيس يوحنّا اللّاتيران، كعلامة رسميّة على تنصيبه أسقفًا على كرسيّ روما، خلفًا للبابا فرنسيس.

وللمناسبة، ألقى الحبر الأعظم عظة توجّه فيها بالتّحيّة إلى الكرادلة والأساقفة والكهنة والشّمامسة والمكرّسين والمؤمنين، فقال: "لقد دعانا البابا فرنسيس غالبًا للتّأمّل في البُعد الوالديّ للكنيسة، وفي الصّفات الّتي تميّزها: الحنان، والاستعداد للتّضحية، والقدرة على الإصغاء، الّتي لا تسمح فقط بالاستجابة للحاجات، بل غالبًا ما تُمكّنها من استباقها حتى قبل أن يتمَّ التّعبير عنها. إنّها سمات نرجو أن تنمو أينما كان في شعب الله، وهنا أيضًا، في عائلتنا الأبرشيّة الكبرى: في المؤمنين، وفي الرّعاة، وفيَّ أنا أوّلًا. ويمكننا أن نتأمّل في هذه المعاني من خلال القراءات الّتي سمعناها.

في سفر أعمال الرّسل، نجد كيف واجهت الجماعة المسيحيّة الأولى تحدّي الانفتاح على العالم الوثنيّ في إعلان الإنجيل. لم يكن ذلك سهلًا، بل تطلّب الكثير من الصّبر، والإصغاء المتبادل. وقد بدأ هذا المسار أوّلًا داخل جماعة أنطاكية، حيث اجتمع الإخوة، وتناقشوا، وأخذوا يتداولون فيما بينهم حتّى وصلوا إلى اتّفاق. لكن بولس وبرنابا صعدا إلى أورشليم، ولم يتّخذا القرار بمفردهما بل بحثا عن الشّركة مع الكنيسة الأمّ، بروح من التّواضع.

هناك، وجدا من يصغي إليهم: بطرس والرّسل. وهكذا بدأ حوار، أفضى في النّهاية إلى القرار الصّائب: وإذ اعترفا بتعب المؤمنين الجدد وأخذاه بعين الاعتبار، تمّ الاتّفاق على عدم فرض أعباء زائدة عليهم، بل أن يكتفوا بطلب ما هو جوهريّ. وهكذا صار ما بدا في البداية مشكلة، فرصة للجميع للنّموّ والتّأمّل. إلّا أنّ النّصّ البيبليّ يكشف لنا ما هو أعمق ويذهب أبعد من الدّيناميكيّة البشريّة الغنيّة لهذا الحدث. يظهر ذلك في كلمات الإخوة في أورشليم الّذين أرسلوا رسالة إلى جماعة أنطاكية يُطلعونهم فيها على القرارات الّتي تمّ اتّخاذها. وكتبوا: "فقد حسن لدى الرّوح القدس ولدينا…" وبهذه الكلمات سلّطوا الضّوء على أنّ الإصغاء الأهمّ، الّذي جعل كلّ شيء ممكنًا، هو الإصغاء لصوت الله. وذكّرونا هكذا بأنّ الشّركة تُبنى أوّلًا "على الرّكب"، في الصّلاة، وفي التزام دائم بالارتداد. في مثل هذا التّوتّر، في الواقع، يمكن لكلّ واحد أن يُصغي في داخله إلى صوت الرّوح الّذي يصرخ: "أبّا، أيّها الآب!"، وبالتّالي أن يصغي إلى الآخرين ويفهمهم كإخوة.

ويُعيد إنجيل اليوم التّأكيد على هذه الرّسالة، مبيّنًا لنا أنّنا لسنا وحدنا في خيارات الحياة. فالرّوح القدس يعضدنا، ويُرشدنا إلى الدّرب الّذي ينبغي اتّباعه، ويعلّمنا ويُذكّرنا بكلّ ما قاله يسوع. إنّ الرّوح يعلّمنا أوّلًا كلمات الرّبّ، ويطبعها بعمق في قلوبنا، بحسب الصّورة البيبليّة للشّريعة الّتي كُتبت لا على ألواح من حجر، بل على قلب من لحم؛ عطيّة تُساعدنا على النّموّ إلى أن نصبح "رسالة من المسيح"، لبعضنا البعض. وهكذا هو الأمر: نكون قادرين أكثر على إعلان الإنجيل بقدر ما نسمح له بأن يمسك بمجامح قلوبنا ويحوّلنا، ونسمح لقوّة الرّوح بأن تطهّرنا في أعماقنا، وتجعل كلماتنا بسيطة ورغباتنا صادقة وواضحة، وأعمالنا سخيّة.

وهنا يدخل الفعل الثّاني: "يُذكّر"، أيّ أن يُعيد توجيه اهتمام قلوبنا نحو ما عشناه وتعلّمناه، لكي نغوص في معناه بشكل أعمق، ونتذوّق جماله. في هذا الصّدد، أفكّر في المسيرة الشّاقّة الّتي تتبعها أبرشيّة روما في السّنوات الأخيرة، والّتي تتجلّى على مستويات مختلفة من الإصغاء: نحو العالم المحيط، لقبول تحدّياته، وداخل الجماعة، لفهم الاحتياجات وتعزيز المبادرات الحكيمة والنّبويّة للبشارة والمحبّة. إنّها مسيرة صعبة، لا تزال قائمة، وتسعى إلى معانقة واقع غنيّ جدًّا ولكنّه معقّد جدًّا أيضًا. ولكنّها مع ذلك، جديرة بتاريخ هذه الكنيسة، الّتي أظهرت مرّات عديدة أنّها تعرف كيف تفكّر "بشكل كبير"، وتبذل نفسها بدون تحفّظ في مشاريع شجاعة، وتضع نفسها على المحكّ حتّى في مواجهة سيناريوهات جديدة ومُلزمة.

والعلامة على ذلك هو العمل العظيم الّذي تقوم به الأبرشيّة بأكملها، في هذه الأيّام بالذّات، من أجل اليوبيل، في استقبال الحجّاج ورعايتهم وفي مبادرات أخرى لا تُعدّ. بفضل الكثير من الجهود، تبدو المدينة للّذين يصلون إليها، وأحيانًا من أماكن بعيدة، كبيت كبير مفتوح ومضياف، ولكن وبشكل خاصّ كموئل إيمان دافئ. من جهتي أعبّر عن رغبتي والتزامي بالدّخول إلى موقع البناء الشّاسع هذا واضعًا نفسي، قدر استطاعتي، في حالة إصغاء للجميع، لكي نتعلّم ونتفاهم ونقرّر معًا: "مسيحيّ معكم وأسقف من أجلكم"، كما قال القدّيس أوغسطينوس. أطلب منكم أن تساعدوني على القيام بذلك في جهد مشترك من الصّلاة والمحبّة، متذكّرين كلمات القدّيس لاوُن الكبير: "كلّ الخير الّذي ننجزه في أداء خدمتنا هو عمل المسيح، وليس عملنا، نحن الّذين لا نستطيع أن نفعل شيئًا بدونه، بل منه نمجّد، ومنه نستمدّ كلّ فعاليّة عملنا.

أودّ أن أضيف إلى هذه الكلمات، في الختام، كلمات البابا يوحنّا بولس الأوّل، الّذي في ٢٣ أيلول سبتمبر ١٩٧٨، بوجهه المشرق والهادئ الّذي أكسبه لقب "بابا الابتسامة"، حيّا عائلته الأبرشيّة الجديدة بهذه الطّريقة: "قال القدّيس بيوس العاشر، عند دخوله بطريركيّة البندقيّة، في بازيليك القدّيس مرقس: "ماذا سيحدث لي يا أهل البندقيّة إن لم أحبّكم؟ وأنا أقول لأهل روما شيئًا شبيهًا بهذا: أستطيع أن أؤكِّد لكم أنَّني أحبُّكم، ولا أرغب سوى في أن أخدمكم، وأضع في متناول الجميع قواي والقليل الّذي أملكه وما أنا عليه". أنا أيضًا أعبّر لكم عن كلّ مودّتي لكم، مع الرّغبة في أن أشارككم في المسيرة المشتركة، في الأفراح والأحزان، في الأتعاب والآمال.

أنا أيضًا أقدّم لكم "القليل الّذي أملكه وما أنا عليه"، وأوكله لشفاعة القدّيسين بطرس وبولس والعديد من الإخوة والأخوات الآخرين الّذين أنارت قداستهم تاريخ هذه الكنيسة وشوارع هذه المدينة. لترافقنا العذراء مريم ولتتشفّع بنا".

بعد القدّاس، أطلّ البابا لاون الرّابع عشر للمرّة الأولى، كاسقف روما، من الشّرفة الرّئيسيّة لبازيليك القدّيس يوحنّا اللّاتيران، ليمنح بركته الرّسوليّة لمدينة روما.

وفي تحيّة قصيرة، توجّه الحبر الأعظم إلى أهل المدينة ومؤمني العالم قائلًا: "السّلام معكم! أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يا جماعة مدينة روما، يسعدني كثيرًا أن أكون بينكم هذا المساء في هذا الحدث اللّيتورجيّ الّذي احتفلنا فيه معًا بتنصيبي كأسقفٍ جديد لروما. شكرًا لكم جميعًا! لنَعِش إيماننا بعمق، ولاسيّما في هذا السّنة اليوبيليّة، باحثين عن الرّجاء، بل مجتهدين في أن نكون نحن أنفسنا شهادةً حيّةً تقدّم الرّجاء للعالم؛ عالمٌ يتألّم بشدّة: من ويلات الحروب، والعنف والفقر! لكنّ الرّبّ يسوع يدعونا نحن المسيحيّين لأن نكون دومًا شهادةً حيّةً لحضوره في هذا العالم. لنَعِش إيماننا، ولنَشعر في قلوبنا أنّ يسوع المسيح حاضرٌ معنا، وأنّه لا يتركنا أبدًا بل يرافقنا في كلّ خطوات مسيرتنا.  شكرًا لأنّكم تسيرون معي! لنسر جميعًا معًا! إعتمدوا عليّ دائمًا، فأنا معكم مسيحيّ، ومن أجلكم أسقف. شكرًا لكم جميعًا! لنعش بهذا الفرح على الدّوام!".