البابا في ختام زيارته: يا كولومبيا، أخوك يحتاج إليكِ، قومي لملاقاته واحملي له عناق السّلام
في القدّاس الّذي شارك فيه عدد هائل من المؤمنين، قد توجّه الأب الأقدس إليهم في عظة على ضوء الخطاب الرّابع من إنجيل متّى عن المغفرة والإصلاح والجماعة والصّلاة. فقال، بحسب ما نشر موقع إذاعة الفاتيكان: "ما من أحد ضائع بالكامل ولا يستحقّ عنايتنا وقربنا ومغفرتنا. من هذا المنظار نفهم أنّ النّقص أو الخطيئة الّتي قد يرتكبها أحد ما تسائلنا جميعًا ولكنّها تطال، قبل كلّ شيء، ضحيّة خطيئة الأخ؛ وبالتّالي هو مدعوٌّ للمبادرة لكي لا يضيع الشّخص الّذي أساء إليه. وبالتّالي ينبغي علينا أن نأخذ المبادرة... والمبادر هو الأكثر شجاعة دائمًا!
لقد سمعتُ خلال هذه الأيّام شهادات عديدة لأشخاص ذهبوا للقاء من أساء إليهم. لقد تمكّنت من رؤية جراح رهيبة في أجسادهم وخسارات لا يمكن تعويضها وما تزال تؤثّر فينا، وبالرّغم من ذلك ذهب هؤلاء الأشخاص وقاموا بالخطوة الأولى على درب مختلفة عن الدّروب الّتي ساروا فيها؛ لأنّ كولومبيا تبحث عن السّلام منذ عشرات السّنين، وكما يعلّم يسوع، لم يكن كافيًا أن يقترب الطّرفان ويتحاورا وإنّما كان هناك حاجة لإدخال فاعلين آخرين في هذا الحوار لتعويض الخطايا. "وإِن لم يَسمَعْ لَكَ أخوكَ فخُذ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين" (متّى ۱۸/ ۱٦) يقول لنا الرّبّ في الإنجيل. لقد تعلّمنا أنَّ سُبُل السّلام وأولويّة العقل على الانتقام والتّناغم الهشِّ بين السّياسة والقانون لا يمكنها أن تصلح مسيرات النّاس. لا يكفي رسم الأُطر القانونيّة والاتّفاقات المؤسّساتيّة بين المجموعات السّياسيّة أو الاقتصاديّة ذوي الإرادة الصّالحة. إّن يسوع يجد الحلّ للشّرّ المرتكب في اللّقاء الشّخصيّ بين الأطراف، هذا من المهمّ على الدّوام أن نُدخِل في عمليّاتنا للسّلام خبرة القطاعات الّتي، وفي مناسبات عديدة، قد تمّ تغييبها، لكي تلوِّن الجماعات عمليّات الذّكرى الجماعيّة. إنّ المسؤول الأوّل والفاعل التّاريخيّ لهذه العمليّة هم النّاس كلّهم وثقافتهم، لا فئة معيّنة أو جزءًا أو مجموعة أو نخبة. لسنا بحاجة لمشروع قليلين موجّه لقليلين، أو لأقلّيّة مستنيرة تستولي على شعور جماعيّ. وإنّما يتعلّق الأمر باتّفاق من أجل العيش معًا ولمعاهدة اجتماعيّة وثقافيّة." (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، عدد ۲۳۹).
تابع: "يمكننا أن نعطي إسهامًا كبيرًا لهذه الخطوة الجديدة الّتي تريد كولومبيا أن تقوم بها. يدلّنا يسوع أنَّ مسيرة إعادة الاندماج في الجماعة تبدأ بحوار بين شخصين. لا يمكن لشيء أن يستبدل هذا اللّقاء التّعويضيّ؛ ولا يمكن لأيّ عمليّة جماعيّة أن تعفينا من تحدّي لقائنا ببعضنا البعض والشّرح لبعضنا البعض والمغفرة. إنّ جراح التّاريخ العميقة تستوجب بشكل ضروريٍّ أوضاعًا يتمّ فيها تحقيق العدالة وحيث من يمكن للضّحايا أن يعرفوا الحقيقة ويتمّ إصلاح الأذى كما يجب ويتمّ العمل بوضوح لتفادي تكرار جرائم من هذا النّوع. ولكنّ هذا كلّه يتركنا عند عتبة المتطلّبات المسيحيّة. يُطلب منّا أن نخلق تغيّرًا ثقافيًّا "انطلاقًا من الأسفل"، فنجيب على ثقافة الموت والعنف بثقافة الحياة واللّقاء. لقد قاله لنا أديبكم: "لا يمكن إصلاح هذه المأساة الثّقافيّة بواسطة الرّصاص أو المال وإنّما من خلال التّربية على السّلام الّذي يُبنى بمحبّة على حُطام بلد يشتعل وحيث نستيقظ باكرًا لنستمرّ في قتل بعضنا البعض... ثورة سلام شرعيّة تقود نحو الحياة القوّة الخالقة العظيمة الّتي ولقرنين تقريبًا استعملناها لندّمِر بعضنا وتطالب بتفوُّق الخيال وترتقي به" (غابرييل غارسيا ماركيز، رسالة حول السلام، ۱۹۹۸).
أضاف متسائلاً: "كم عملنا لصالح اللّقاء والسّلام؟ وكم توانينا، وسمحنا للوحشيّة أن تتجسّد في حياة شعبنا؟ يوصينا يسوع أن نقارن أنفسنا مع طرق التّصرّف هذه وأساليب الحياة الّتي تؤذي الجسم الاجتماعيّ وتدمّر الجماعة. كم من مرّة تصبح "طبيعيّة"– وتُعاش كأمور عاديّة– عمليّات العنف والإقصاء الاجتماعيّ بدون أن يرتفع صوتنا وأن ترفع أيادينا أصابع الاتّهام بشكل نبويّ! لقد كان هناك بالقرب من القدّيس بيدرو كلافير آلاف المسيحيّين وكثيرون منهم كانوا مكرّسين... ولكن قلّة منهم فقط بدؤوا تيّارًا من اللّقاء يتعارض مع الثّقافة السّائدة. لقد عرف القدّيس بيدرو كلافير أن يعيد الكرامة والرّجاء لمئات الآلاف من السّود والعبيد الّذين كانوا يصلون بأوضاع لاإنسانيّة، مذعورين وبدون رجاء. لم يكن يملك شهادات علميّة رفيعة، وكان يقول عن نفسه إنّه لا يتمتّع بالذّكاء الكافي، ولكنّه تحلّى بالعبقريّة ليعيش الإنجيل بالكامل ويلتقي مع الّذين كان الآخرون يعتبرونهم على هامش الحياة. وبعد قرون تبعت خطوات هذا المرسل والرّسول اليسوعيّ القدّيسة ماريا برنارد بوتلر الّتي كرّست حياتها لخدمة الفقراء والمهمّشين في مدينة كارتاخينا.
من خلال اللّقاء مع بعضنا البعض نعيد اكتشاف حقوقنا، ونعيد خلق الحياة كي تصبح إنسانيّة مجدّداً. "على البيت المشترك لجميع البشر أن يقوم دائمًا على أساس الفهم الصّحيح للأخوة الكونيّة وعلى احترام قدسيّة كلّ حياة بشريّة، وكلّ رجل وامرأة؛ والفقراء، والمسنّين، والأطفال، والمرضى، والأجنّة، والعاطلين عن العمل، والمتروكين وأولئك الّذين يُعتبرون أهلاً للإقصاء لأنّه يُنظر إليهم على أنّهم مجرّد أرقام في هذه الإحصائيّة أو تلك. كما لا بدّ أن يُبنى البيتُ المشترك لجميع البشر أيضًا على أساس فهم ما للطّبيعة المخلوقة من قدسيّة". (خطاب إلى الأمم المتحدة، ۲٥ أيلول سبتمبر ۲۰۱٥).
يتحدّث يسوع، في الإنجيل، أيضًا عن إمكانيّة أن ينغلق الآخر على ذاته، ويرفض التّغيير، ويصرّ على شرّه. لا يسعنا أن ننكر وجود أشخاص يتمسّكون بخطايا تضرّ بالتّعايش والجماعة: "أفكّر بمأساة المخدّرات الممزِّقة الّتي يتمّ من خلالها جني الأرباح في إطار ازدراء القوانين الخلقيّة والمدنيّة، هذا الشّرّ الّذي يضرب كرامة الشّخص البشريِّ بشكل مباشر ويكسر الصّورة الّتي طبعها الخالق فينا. أفكّر بإتلاف الموارد الطّبيعيّة وبالتّلوّث الحاصل، بمأساة استغلال العمل؛ أفكر بالنّشاطات الماليّة غير المشروعة وبالمضاربات الوهميّة الماليّة، الّتي غالبًا ما تكتسب طابعًا مضرًّا ومسيئًا لأنظمة اقتصاديّة واجتماعيّة برمّتها، ما يعرّض للفقر ملايين الرّجال والنّساء؛ أفكّر بالدّعارة التّي تحصد يوميًّا ضحايا أبرياء، خصوصًا وسط الأجيال الفتيّة، وتسلب منها المستقبل؛ أفكّر بالإتجار المقيت بالكائنات البشريّة، بالجرائم والانتهاكات الممارسة بحق القاصرين، بالعبوديّة الّتي ما يزال رعبها منتشرًا في مناطق عدّة من العالم، بمأساة غالبًا ما لا تلقى آذانًا صاغية، مأساة المهاجرين الّذين غالبًا ما يُستغلّون بطريقة مخزية في إطار انعدام الشّرعيّة" (رسالة لمناسبة اليوم العالميّ للسّلام ۲۰۱٤)، وحتّى بـ"شرعيّة باردة" تدعو إلى السّلم لكنّها لا تأخذ في الاعتبار جسد الأخ، جسد المسيح. وينبغي أن نكون مستعدّين أيضًا لهذا الأمر ونتّخذ مواقف راسخة بشأن مبادئ العدالة الّتي لا تؤثّر بشيء على المحبّة. لا يمكن العيش بسلام بدون التّعامل مع ما يُفسد الحياة ويعرّضها للخطر. يطلب منّا التّاريخ أن نتبنّى التزامًا نهائيًّا دفاعًا عن حقوق الإنسان، هنا في كارتاخينا دي إيندياس، المكان الّذي اخترتموه كمقرّ وطنيّ للدّفاع عن هذه الحقوق.
يطلب منّا يسوع أن نصلّي معًا؛ أن تكون صلواتنا متناغمة كالسّيمفونيّة، تضمّ "نبرات" شخصيّة ولهجات مختلفة، لكنّها ترفع بتناغم صرخة واحدة. إنّي لواثق بأنّنا نصلّي معًا اليوم من أجل إنقاذ الأشخاص الّذين ساروا في دروب الخطأ لا من أجل القضاء عليهم، من أجل العدالة لا الثّأر، من أجل تصويب الأمر في إطار الحقيقة لا في إطار النّسيان. نصلّي من أجل تحقيق شعار هذه الزّيارة: "لنقم بالخطوة الأولى!"، ولتكن هذه الخطوة الأولى في اتّجاه مشترك. "القيام بالخطوة الأولى" يعني، قبل كلّ شيء، ملاقاة الآخرين مع المسيح الرّبّ. وهو يطلب منّا دائمًا القيام بخطوة مقرّرة وأكيدة تجاه الأخوّة، متخلّين عن المطالبة بأن يُغفر لنا بدون أن نغفر، وأن نُحَبّ بدون أن نُحِبّ. إذا كانت كولومبيا تريد سلامًا مستقرًّا ودائمًا عليها أن تخطو خطوة في هذا الاتّجاه وعلى وجه السّرعة، أيّ في اتّجاه الخير العامّ والإنصاف والعدالة واحترام الطّبيعة البشريّة ومتطلّباتها. فقط إذا ساعدنا على حلّ عقد العنف سنتمكّن من إيجاد حلول لدّوامة الصّراعات.
ودعا في ختام كلمته إلى القيام بخطوة اللّقاء مع الأخوة، متسلّحين بشجاعة القيام بتصحيحٍ يحققّ الاندماج ولا يقصي الآخرين؛ إنّنا مدعوّون إلى الثّبات ـ بمحبّة ـ في ما ليس قابلاً للتّفاوض؛ فالمطلوب في نهاية المطاف هو بناء السّلام "متحدّثين ليس باللّسان لكن بالأيادي والأعمال" (القدّيس بيدرو كلافير)، ورفْعُ الأعين معًا نحو السّماء: إنّه قادر على حلّ المشكل الّتي تبدو مستحيلة بالنّسبة لنا، لقد وعد بمرافقتنا حتّى نهاية الأزمنة، ولن يترك عقيمًا جهدًا عظيمًا من هذا النّوع.
وفي نهاية القدّاس الإلهيّ شكر كلّ من ساهم على إنجاج هذه الأيّام العارمة والجميلة، خاتمًا: "لا نكفّنَّ أبدًا عن القيام بالخطوة الأولى، بل دعونا نواصل المسيرة معًا يوميًّا لملاقاة الآخر، وللبحث عن التّناغم والأخوّة. لا يمكننا أن نتوقّف. في الثّامن من أيلول/ سبتمبر 1654 مات في هذا المكان القدّيس بيدرو كلافير بعد أربعين سنة من العبوديّة الطّوعيّة، ومن العمل المتواصل لصالح الأشخاص الأشدّ فقرًا. فهو لم يتوقّف، إذ تلت الخطواتِ الأولى خطواتٌ كثيرة غيرها. إنّ مثاله يحملنا على الخروج من ذواتنا من أجل ملاقاة القريب. يا كولومبيا، أخوك يحتاج إليكِ، قومي لملاقاته واحملي له عناق السّلام، الخالي من العنف. "عبيد للسّلام إلى الأبد".