الفاتيكان
21 نيسان 2019, 05:00

البابا فرنسيس: يسوع اختصاصيٌّ في تحويل موتنا إلى حياة، ونوحنا إلى رقص

لمناسبة العشيّة الفصحيّة، ترأّس البابا فرنسيس قدّاسًا إلهيًّا في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان. وبحسب "فاتيكان نيوز" ألقى البابا عظة، جاء فيها:

"النّساء يحملن الطّيوب إلى القبر، ولكنّهنّ يخفنَ من أن يكون عناء الدّرب عبثًا لأنَّ حجرًا كبيرًا يُغلق المدخل إلى القبر. إنّ مسيرة تلك النّساء هي أيضًا مسيرتنا؛ تشبه مسيرة الخلاصّ الّتي استعدناها هذا المساء. يبدو فيها أنَّ كلُّ شيء يسير نحو الارتطام بحجر والتّحطّم: جمال الخليقة ضدّ مأساة الخطيئة؛ التّحرّر من العبوديّة ضدّ عدم الأمانة للعهد؛ وعود الأنبياء ضدّ لامبالاة الشّعب التّعيسة. هكذا أيضًا في تاريخ الكنيسة وفي تاريخ كلِّ شخص منّا: يبدو أن الخطوات الّتي قمنا بها لا تبلغ بنا أبدًا إلى الهدف. وهكذا يمكن أن تندسَّ الفكرة بأنَّ إحباط الرّجاء هو قانون الحياة المظلم.
ولكنّنا نكتشف اليوم أنّ مسيرتنا ليست عبثًا، وأنّها لا ترتطم بحجر القبر. جملة تهزّ النّساء وتغيِّر التّاريخ: "لِماذا تَبحَثنَ عن الحَيّ بَينَ الأَموات؟" (لوقا ٢٤، ٥)؛ لماذا تعتقدون أنَّ كلّ شيء بدون فائدة وأنَّه ليس باستطاعة أحد أن يزيل حجاركم؟ لماذا تستسلمون للخضوع والفشل؟ إنَّ الفصح هو عيد إزالة الحجارة. الله يزيح الحجارة الأكثر قساوة الّتي تتحطّم عليها آمالنا وانتظاراتنا: الموت والخطيئة والخوف وروح العالم. إنَّ التّاريخ البشريّ لا ينتهي أمام حجر قبر لأنّه يكتشف اليوم "الحجر الحيّ" (راجع ١ بطرس ٢، ٤): يسوع القائم من الموت. ونحن ككنيسة مؤسّسون عليه وبالتّالي حتّى عندما نفقد العزيمة وعندما نشعر بتجربة الحكم على كلّ شيء على أساس فشلنا، يأتي هو ليجعل كلَّ الأمور جديدة وليقلب خيبات أملنا رأسًا على عقب. كلٌّ منّا مدعوٌّ في هذه اللّيلة ليجد مجدّدًا في الرّبّ الحيّ ذلك الّذي يزيل من قلوبنا الحجارة الأثقل. لنسأل أنفسنا أوّلاً: "ما هو حجري الّذي يجب عليَّ أن أزيله، ما اسمه؟".
غالبًا ما يُعيق الرّجاء حجر عدم الثّقة. عندما نفسح المجال لفكرة أنَّ كلَّ شيء يسير بشكل سيّء وأنّ الوضع لن يتحسَّن أبدًا، نستسلم ويصل بنا الأمر إلى الإيمان أنّ الموت هو أقوى من الحياة ونصبح انتقاديين وساخرين حملة يأس سقيم. وهكذا حجر على حجر نبني في داخلنا نصّبًا لعدم الرّضى ومقبرة للرّجاء. عندما نتذمّر على الحياة، نجعل الحياة مرتبطة بالتّذمّر وتمرض روحيًّا. يدخل هكذا هنا نوع من سيكولوجيا القبر: كلُّ شيء ينتهي هناك، بدون رجاء للخروج على قيد الحياة. ولكن ها هو سؤال الفصح اللّاذع: لِماذا تَبحَثون عن الحَيِّ بَينَ الأَموات؟ إنّ الرّبّ لا يقيم في الخضوع. لقد قام وليس هناك، لا تبحثوا عنه حيث لن تجدوه أبدًا: هو ليس إله الأموات بل إله الأحياء. لا تدفنوا الرجاء!
هناك حجر آخر غالبًا ما يغلق القلب وهو حجر الخطيئة. الخطيئة تُغري وتعدّ بأمور سهلة وجاهزة، رفاهيّة ونجاح ومن ثمَّ تترك في داخلنا الوحدة والموت. الخطيئة هي البحث عن الحياة بين الأموات، وعن معنى الحياة في الأمور الزّائلة. لِماذا تَبحَثون عن الحَيِّ بَينَ الأَموات؟ لماذا لا تقرّر أن تترك تلك الخطيئة الّتي وكحجر على باب قلبك تمنع النّور الإلهيّ من الدّخول؟ لماذا لا تفضّل يسوع النّور الحقيقيّ على الأضواء المتلألئة للمالّ والعمل والكبرياء واللّذة. لماذا لا تقول للأمور الدنيويّة الباطلة أنّك لا تعيش من أجلها وإنّما من أجل ربّ الحياة؟
نعود إلى النّساء اللّواتي يذهبنَ إلى قبر يسوع. إزاء الحجر المدحرج وقفنَ مذهولات؛ ولدى رؤيتهنّ للملائكة يقول الإنجيل: "خِفْنَ ونَكَسْنَ وُجوهَهُنَّ نَحوَ الأَرض". لم يتحلَّينَ بالشّجاعة ليرفعنَ نظرهنَّ. كم من مرّة يحصل هذا الأمر معنا نحن أيضًا: نفضّل أن نبقى جاثمين في محدوديّتنا وأن نختبئ في مخاوفنا. إنّه أمر غريب ولكن لماذا نقوم بذلك؟ غالبًا لأنّنا نكون روادًا في الانغلاق والحزن ولأنّه من الأسهل علينا أن نبقى وحدنا في غرف القلب المُظلمة على أن ننفتح على الرّبّ. ومع ذلك هو الوحيد الّذي ينهضنا. كتبت إحدى الشّاعرات: "نحن لن نعرف طولنا أبدًا ما لم نُدعى للوقوف". إنَّ الرّبّ يدعونا للوقوف وللقيامة على كلمته والنّظر إلى الأعلى والإيمان بأنّنا قد خُلقنا للسّماء وليس للأرض؛ لسموّ الحياة وليس لوضاعة الموت: لِماذا تَبحَثون عن الحَيِّ بَينَ الأَموات؟
الله يطلب منّا أن ننظر إلى الحياة كما ينظر إليها هو الّذي يرى على الدّوام في كلِّ فرد منّا نواة جمال لا تُقمع. في الخطيئة يرى أبناء عليه أن ينهضهم؛ وفي الموت إخوة عليه أن يقيمهم؛ وفي اليأس قلوبًا عليه أن يعزّيها. لا تخف إذًا: لأنَّ الرّبّ يحبّ حياتك هذه، حتّى عندما تخاف من النّظر إليها والامساك بها. في الفصح يظهر لك مدى محبّته لها: لدرجة أنّه عبرها كلّها وجرّب الحزن والترك والموت والجحيم ليخرج منها منتصرًا ويقول لك: "لست وحدك، ثق بي!". يسوع اختصاصيٌّ في تحويل موتنا إلى حياة، ونوحنا إلى رقص: معه يمكننا نحن أيضًا أن نحقّق الفصح أي العبور من الانغلاق إلى الشّركة، ومن اليأس إلى التّعزية ومن الخوف إلى الّثقة. لا نخافنَّ ولا نُنكِّسنَّ وجوهنا إلى الأرض، وإنّما لننظر إلى يسوع القائم من الموت: نظره يزرع فينا الرّجاء لأنّه يقول لنا إنّنا محبوبون على الدّوام وأّنّه بالرّغم من كلّ ما قد نقوم به محبّته لنا لا تتغيّر. هذا هو يقين الحياة الغير قابل للتّفاوض: إنَّ محبّته لا تتغيّر. لنسأل أنفسنا: إلى أين أنظر في الحياة؟ هل أتأمّل القبور أم أنّني أبحث عن الحيّ؟
"لِماذا تَبحَثنَ عن الحَيِّ بَينَ الأَموات؟" سمعت النّساء نداء الملاكين اللّذان أضافا: "أُذكُرنَ كَيفَ كَلَّمَكُنَّ إِذ كانَ في الجَليل". تلك النّساء كُنَّ قد نسينَ الرّجاء لأنّهنَّ لم يكُنَّ يتذكّرنَ كلمات يسوع ودعوته الّتي تمّت في الجليل. إذ فُقدت ذكرى يسوع الحيّة، وقفنَ ينظرنَ إلى القبر. إنّ الإيمان يحتاج للعودة إلى الجليل ولإنعاش الحبّ الأوّل مع يسوع ودعوته: أي أن نتذكّره ونعود في قلوبنا إليه. إنَّ العودة إلى محبّة حيّة مع الرّبّ هو أمر جوهريّ وإلّا يكون إيماننا إيمان متاحف وليس إيمانًا فصحيًّا. لكنَّ يسوع ليس شخصيّة من الماضي بل هو شخص يحيا اليوم أيضًا؛ لا نعرف عنه فقط من كتب التّاريخ ولكنّنا نلتقي به في حياتنا. لنتذكّر اليوم عندما دعانا يسوع وعندما انتصر على ظلماتنا ومقاومتنا وخطايانا وكيف لمس قلبنا بكلمته".
وأنهى البابا عظته قائلًا: "عندما تذكّرت النّساء يسوع تركن القبر. يعلّمنا الفصح أنَّ المؤمن يتوقّف قليلاً في المدفن، لأنّه مدعوٌّ للسّير للقاء الحيّ. لنسأل أنفسنا: إلى أين أسير في حياتي؟ أحيانًا نتوجّه دائمًا وفقط نحو مشاكلنا الّتي لا تنقص أبدًا، ونذهب إلى الرّبّ فقط لكي يساعدنا. فاحتياجاتنا إذًا هي الّتي توجّهنا وليس يسوع. وبالتّالي فهو على الدّوام بحث عن الحيّ بين الأموات. كم من مرّة من ثمَّ وبعد لقائنا بالرّبّ نعود بين الأموات وندور حول أنفسنا ونغرق في التّحسّر والنّدم والجراح والاستياء بدون أن نسمح للقائم من الموت أن يحوِّلنا. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنعطي للرّبّ الحيّ مكانًا محوريًّا في حياتنا. لنطلب نعمة ألّا يحملنا التّيار وبحر المشاكل واّلا نتحطّم على حجار الخطيئة ومنحدرات الشك والخوف. لنبحث عنه في كلِّ شيء وقبل كلِّ شيء. ومعه سنقوم".