الفاتيكان
29 كانون الأول 2021, 14:50

البابا فرنسيس يتحدّث عن مار يوسف المهاجر والمضطهَد، وهذا ما يعلّمنا إيّاه!

تيلي لوميار/ نورسات
في مقابلته الأخيرة للعام 2021، أضاء البابا فرنسيس على مار يوسف كمهاجر ومُضطهَد وشجاع، حاثًّا المؤمنين الحاضرين في قاعة بولس السّادس على التّصرّف على مثال يوسف الّذي أمام الخوف سلّم نفسه بشجاعة إلى العناية الإلهيّة.

وفي هذا الإطار، قال البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "أريد اليوم أن أقدّم لكم القدّيس يوسف كمهاجر مُضطَهَد وشجاع. هكذا يصفه الإنجيليّ متّى. يُعرف هذا الحدث الخاصّ في حياة يسوع، والّذي نرى روّاده أيضًا يوسف ومريم، تقليديًّا بإسم "الهروب إلى مصر". لقد عانت عائلة النّاصرة هذا الإذلال واختبرت عن كثب الهشاشة والخوف وألم الاضطرار إلى مغادرة أرضها. واليوم أيضًا، يُضطرّ العديد من إخوتنا والعديد من أخواتنا إلى عيش هذا الظّلم والألم عينه. والسّبب هو على الدّوام غطرسة وعنف الأقوياء. وهذا ما حدث أيضًا ليسوع.

عرف الملك هيرودس من المجوس بولادة "ملك اليهود"، وجعله هذا الخبر يضطرب. وشعر أنّ سُلطته مهدّدة. لذلك جَمَعَ عُظَماءَ الكَهَنَةِ وكَتَبَةَ الشَّعْبِ كُلَّهم واستَخبَرهم أَين يُولَدُ المسيح، وطلب من المجوس أن يخبروه بدقّة لكي- ويقول كذبًا- يذهَبَ هو أَيضًا ويسجُدَ له. ولكن لما تنبّه أنَّ المجوس قد انصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم. أخذ قرارًا شرّيرًا: أن يقتل كُلَّ طِفلٍ في بَيتَ لحمَ وجَميعِ أَراضيها، مِنِ ابنِ سَنَتَيْنِ فما دونَ ذلك. في غضون ذلك تَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِيوسُفَ في الحُلمِ وقالَ له: "قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك، لأَنَّ هيرودُسَ سَيَبْحَثُ عنِ الطِّفلِ لِيُهلِكَه".

تذكّرنا خطّة هيرودس بخطّة فرعون بإلقاء جميع الذّكور من أبناء شعب إسرائيل في النّيل. والهروب إلى مصر يستحضر تاريخ شعب إسرائيل بأسره بدءًا من إبراهيم، الّذي أقام هناك أيضًا، حتّى يوسف، ابن يعقوب، الّذي باعه إخوته ثمّ أصبح "رئيسًا للبلاد"؛ ولموسى الّذي حرّر شعبه من عبوديّة المصريّين. إنَّ هرب العائلة المقدّسة إلى مصر قد أنقذ يسوع، ولكنّه للأسف لم يمنع هيرودس من تنفيذ مذبحته. وهكذا نجد أنفسنا أمام شخصيّتين متعارضتين: من ناحية، هيرودس بشراسته، ومن ناحية أخرى يوسف بعنايته وشجاعته.

أراد هيرودس أن يدافع عن سلطته بقساوة وحشيّة، كما تشهد أيضًا عمليّات إعدام إحدى زوجاته وبعض أبنائه ومئات المعارضين له. إنّه رمز العديد من طغاة الأمس واليوم؛ إنّه الرّجل الّذي يصبح "ذئبًا" بالنّسبة للبشر الآخرين. والتّاريخ مليء بالشّخصيّات الّتي، وإذ تعيش تحت رحمة مخاوفها، تحاول أن تتغلّب عليها من خلال ممارسة السّلطة بطريقة استبداديّة وتنفيذ مقاصد عنف غير إنسانيّة. ولكن لا يجب أن نفكّر أنّنا نعيش من منظور هيرودس فقط إذا أصبحنا طغاة؛ لأنّه في الواقع، موقف يمكننا أن نسقط فيه جميعًا، في كلّ مرّة نحاول فيها أن نُبعد مخاوفنا بالغطرسة، حتّى لو كانت لفظيّة فقط أو مكوّنة من إساءات صغيرة نفذّناها لكي نؤذي من هو بقربنا.

أمّا يوسف فهو عكس هيرودس: هو أوّلاً "رجل بارّ"؛ كما أنّه أثبت شجاعته في تنفيذ أمر الملاك. يمكننا أن نتخيّل الشّدائد الّتي وُجب عليه أن يواجهها خلال الرّحلة الطّويلة والخطيرة والصّعوبات الّتي تضمّنتها الإقامة في بلد أجنبيّ. تظهر شجاعته أيضًا في لحظة عودته، عندما طمأنه الملاك، وتغلّب على مخاوفه الّتي يمكننا أن نفهمها، وجاءَ مع مريم ويسوع مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها.

هيرودس ويوسف هما شخصيّتان متعارضتان تعكسان وجهي البشريّة. من المفاهيم الخاطئة أن نعتبر أنّ الشّجاعةَ هي الفضيلة الحصريّة للأبطال. في الواقع، تتطلّب الحياة اليوميّة لكلّ شخص الشّجاعة لمواجهة صعوبات كلّ يوم. في جميع الأزمنة وفي جميع الثّقافات، نجد رجالاً ونساء شجعانًا، لكي يكونوا أمينين وصادقين لمعتقداتهم، تغلَّبوا على جميع أنواع الصّعوبات، وتحمّلوا الظّلم والإدانات وحتّى الموت. إنَّ الشّجاعة هي مرادف للقوّة، الّتي، إلى جانب العدالة والحصافة والاعتدال، تشكّل جزءًا من مجموعة الفضائل البشريّة الّتي تُسمّى الفضائل "الأساسيّة أو الأصليّة".

إنَّ الدّرس الّذي يتركه لنا القدّيس يوسف اليوم هو التّالي: الحياة تحتفظ لنا بالمحن والشّدائد على الدّوام، وأمامها يمكننا أيضًا أن نشعر بالتّهديد والخوف، ولكن لا يمكننا أن نتغلّب عليها من خلال إظهار أسوأ ما فينا، على مثال هيرودس، وإنّما بالتّصرّف على مثال يوسف الّذي يتفاعل مع الخوف بشجاعة تسليم نفسه إلى العناية الإلهيّة. أعتقد أنَّ هناك حاجة اليوم لأن نصلّي من أجل جميع المهاجرين وجميع المُضطَهدين وجميع الّذين يعيشون ضحايا للظّروف المعاكسة أكانت سياسيّة أو تاريخيّة أو شخصيّة؛ ولكن لنفكّر في العديد من ضحايا الحروب الّذين يريدون الهروب من أوطانهم ولا يستطيعون. لنفكّر في المهاجرين الّذين بدأوا هذا الطّريق ليكونوا أحرارًا وانتهى بهم الأمر على الطّريق أو في البحر؛ لنفكّر في يسوع هاربًا بين ذراعي يوسف ومريم، ولنرى فيه كلّ مهاجري اليوم. إنّها حقيقة من حقائق الهجرة اليوم، ولا يمكننا أن نغضّ الطّرف عنها. إنّها فضيحة اجتماعيّة للبشريّة. أيّها القدّيس يوسف، أنت الّذي اختبرتَ ألم الأشخاص الّذين وجب عليهم أن يهربوا، وأُجبِرت على الهرب لكي تُنقذ حياة أحبّائك، إحمِ الّذين يهربون بسبب الحرب والحقد والجوع. واعضدهم في صعوباتهم وقوِّهم في الرّجاء واجعلهم يجدون الاستقبال والتّضامن. قُد خُطاهم وافتح قلوب الّذين يمكنهم أن يساعدوهم. آمين."