البابا فرنسيس يتحدّث عن الفضائل في تعليمه الأسبوعيّ
"بعد أن انتهينا من عرض الرّذائل، حان الوقت لكي نوجّه أنظارنا إلى الصّورة المتماثلة التي تقف في مواجهة خبرة الشّرّ. يمكن للقلب البشريّ أن ينغمس في الأهواء الشّريرة، ويمكنّه أن يصغي إلى التّجارب الضّارة التي تستتر بثياب مُقنعة، ولكن يمكنه أيضًا أن يقاوم كلّ هذا. وبقدر ما قد يكون هذا الأمر متعبًا، إلّا أنَّ الإنسان قد خُلق من أجل الخير، الذي يحققه حقًا، ويمكنه أيضًا أن يتمرّس في هذا الفن، ويجتهد لكي تصبح بعض التّصرّفات دائمة فيه. إنّ التأمُّل حول هذه الإمكانيّة الرّائعة التي لدينا يشكل فصلاً كلاسيكيًّا من الفلسفة الأخلاقيّة: فصل الفضائل.
أطلق عليها الفلاسفة الرّومان اسم "virtus"، فيما أطلق عليها الفلاسفة اليونانيون اسم "aretè". يسلّط المصطلح اللّاتينيّ الضّوء بشكل خاصّ على أنّ الإنسان الفاضل هو قويّ وشجاع وقادر على الانضباط والزّهد. لذلك فإنّ ممارسة الفضائل هي ثمرة إنبات طويل يتطلّب جهدًا وألمًا أيضًا. أمّا الكلمة اليونانيّة "aretè" فتشير إلى شيء متفوّق، شيء يظهر، يثير الإعجاب. وبالتّالي فالإنسان الفاضل هو الذي لا يفقد طبيعته ويشوّه نفسه، بل يكون أمينًا لدعوته ويحقّق ذاته بالكامل.
سنكون مخطئين إذا اعتقدنا أنّ القدّيسين هم استثناءات للبشريّة: نوع من الدّائرة الضّيقة من النّماذج الذين يعيشون خارج حدود جنسنا البشريّ. القدّيسون، بهذا المنظور الذي قدّمناه للتوّ فيما يتعلّق بالفضائل، هم الذين أصبحوا أنفسهم بالكامل، والذين يحقّقون الدّعوة الخاصة بكل إنسان. كم سيكون سعيدًا ذلك العالم الذي ستكون فيه العدالة والاحترام والخير المتبادل وسعة الأفق والرجاء هي الحياة الطبيعية المشتركة، وليس مجرّد حالة شاذة نادرة! لهذا السبب، وفي هذه الأزمنة المأساويّة التي نعيشها والتي نتعامل فيها غالبًا مع أسوأ ما في الإنسانيّة، يجب على الجميع أن يكتشفوا مجدّدًا الفصل الخاصّ بالتّصرّف الفاضل، ويعيشوه. وفي عالم مشوّه، يجب علينا أن نتذكّر الشّكل الذي قد صاغنا الله به، وصورته المطبوعة فينا إلى الأبد.
تابع الحبر الأعظم يقول ولكن كيف يمكننا أن نعرِّف مفهوم الفضيلة؟ يقدم لنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية تعريفًا دقيقًا وموجزًا: "الفضيلة هي الاستعداد المعتاد والثّابت لفعل الخير". ولذلك فهو ليس خيرًا مرتجلًا وعشوائيًّا إلى حدّ ما، يُمطر من السمّاء بطريقة عرضيّة. يخبرنا التّاريخ أنّه حتّى المجرمين، في لحظة وضوح في التّفكير والرّؤية، قد قاموا بأعمال صالحة؛ ومن المؤكّد أنّ هذه الأفعال قد كُتِبت في "كتاب الله"، ولكن الفضيلة هي شيء آخر. إنّها خير يولد من نضج بطيء للإنسان، لكي تصل وتصبح بعدها إحدى صفاته الدّاخليّة. الفضيلة هي إحدى ميزات واستعدادات الحرّيّة. فإذا كنّا أحرارًا في كلّ فعل، وفي كلّ مرّة نحن مدعوّون لكي نختار بين الخير والشّرّ، فإنّ الفضيلة هي التي تسمح لنا بأن تكون لدينا العادة لكي نقوم بالاختيار الصّحيح.
إذا كانت الفضيلة عطيّة جميلة، فإنّ السّؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو: كيف يمكن الحصول عليها؟ إنَّ الإجابة على هذا السّؤال ليست أبدًا بسيطة، بل هي معقّدة. إنَّ المساعدة الأولى بالنّسبة للمسيحيّ هي نعمة الله، والرّوح القدس في الواقع يعمل فينا نحن المعمّدين، ويعمل في نفوسنا لكي يقودها إلى الحياة الفاضلة. كم من المسيحيّين وصلوا إلى القداسة من خلال الدّموع، مدركين أنّهم غير قادرين على التّغلّب على بعض نقاط ضعفهم! ولكنّهم اختبروا أنّ الله أكمل عمل الخير هذا الذي كان بالنّسبة لهم مجرّد رسم تخطيطيّ. إنَّ النّعمة تسبق على الدّوام التزامنا الأخلاقيّ. كذلك لا يجب أن ننسى أبدًا الدّرس الغنيّ الذي بلغنا من حكمة القدماء، والذي يقول لنا إنّ الفضيلة تنمو ويمكن تنميتها. ولكي يحدث هذا، فإنّ أوّل عطيّة يجب أن نطلبها من الرّوح القدس هي الحكمة. فالإنسان ليس أرضًا حرّة لغزو الملذات والعواطف والغرائز والأهواء، دون أن يكون قادرًا على فعل أيّ شيء ضدّ هذه القوى، الفوضويّة أحيانًا، التي تسكنه. إنّ العطيّة التي لا تقدّر بثمن التي نملكها هي انفتاح الذّهن، إنّها الحكمة التي تعرف كيف تتعلّم من الأخطاء لكي توجّه الحياة بشكل جيّد. ومن ثم نحتاج إلى الإرادة الصّالحة: القدرة على أن نختار الخير، ونصوغ أنفسنا من خلال ممارسة التّقشّف، وتجنّب أيّ نوع من الإفراط.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، هكذا نبدأ في هذا الكون الهادئ رحلتنا عبر الفضائل التي تبدو مُلزِمةً ولكنّها حاسمة لسعادتنا."