البابا فرنسيس وصل إلى كازاخستان والتقى رئيس البلاد وممثّلين عن السّلطات المدنيّة والسّلك الدّبلوماسيّ والمجتمع المدنيّ
وعن تفاصيل الوصول وأولى محطّات الزّيارة، نشر موقع "فاتيكان نيوز" ما يلي: "وصل البابا إلى مطار العاصمة نور سلطان، حيث جرت مراسم الاستقبال الرّسميّ وتوجّه من هناك إلى القصر الرّئاسيّ وقام بزيارة مجاملة لرئيس البلاد قاسم جُمرت توكاييف. بعدها انتقل الحبر الأعظم إلى قصر الفنون الاستعراضيّة حيث كان له لقاء مع ممثّلين عن السّلطات المدنيّة والسّلك الدّبلوماسيّ والمجتمع المدنيّ. وجّه البابا للحاضرين خطابًا حيّا في مستهلّه الجميع وقال إنّه يزور تلك الأرض كحاجّ سلام، يبحث عن الحوار والوحدة، ولفت إلى أنّ عالمنا اليوم هو بأمسّ الحاجة إليهما، كما أنّه يحتاج إلى إيجاد التّوازن. هذا التّوازن الّذي ترمز إليه آلة "دونغ بولا" الموسيقيّة الّتي تشكّل رمزًا لكازاخستان. ولفت إلى أنّ تلك الآلة الوتريّة كانت تُعزف في القرون الوسطى، واستمرّت مع مرور الزّمن لتربط بين الماضي والحاضر، وتصبحَ رمزًا للاستمراريّة في التّنوّع، وهي تذكّرُنا اليوم بضرورة ألّا ننسى الماضي إزاء التّبدّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي نشهدها.
بعدها تطرّق البابا إلى الزّيارة الّتي قام بها سلفُه يوحنّا بولس الثّاني إلى كازاخستان عام ٢٠٠١ والّذي وصف البلاد بـ"أرض الشّهداء والمؤمنين، أرضِ المرحَّلين والأبطال، أرض المفكّرين والفنّانين". وقال فرنسيس في هذا السّياق إنّه يتذكّر مخيّمات الاعتقال والتّرحيل الجماعيّ للسّكّان. بيد أنّ هؤلاء لم يستسلموا لهذا الأمر، وتمنّى البابا أن تشكّل الآلام والمحن، الّتي اختبرها النّاس على مرّ العصور، دافعًا لهم ليسيروا قدمًا نحو المستقبل، واضعين كرامة الإنسان في الصّدارة، بغضّ النّظر عن الانتماءات العرقيّة والاجتماعيّة والدّينيّة.
هذا ثمّ لفت البابا إلى التّزاوج الحاصل في العديد من المدن بين القديم والعصريّ، كما أنّ البلاد تحمل الطّابعين الأوروبيّ والآسيويّ في الآن معًا، ما يمنحها رسالة الحفاظ على الرّباط بين القارّتين، كما قال يوحنّا بولس الثّاني، ويجعل منها جسرًا بين أوروبا وآسيا، وصلة وصل بين الشّرق والغرب. وذكّر فرنسيس بالمَثل المحلّيّ القائل "مصدرُ النّجاح هو الوحدة"، مشيرًا إلى التّعايش القائم في كازاخستان بين مائة وخمسين جماعة عرقيّة مختلفة، وأكثر من ثمانين لغة محكيّة، بالإضافة إلى التّقاليد الثّقافيّة والدّينيّة المتنوّعة، والّتي تشكّل سيمفونيّة فائقة العادة، وتجعل من كازاخستان مختبرًا متعدّد الأعراق والثّقافات والأديان، ليكون بلدَ التّلاقي.
لم يخلُ خطاب البابا من الإشارة إلى الدّور الواجب أن تلعبه الأديان في هذا السّياق، مشيرًا إلى أنّه سيتشرّف بالمشاركة في المؤتمر السّابع لقادة الدّيانات والتّقاليد العالميّة. ولفت إلى أنّ الدّستور ينصّ على كون البلاد علمانيّة، مع ضمان الحرّيّة الدّينيّة وحرّيّة المعتقد، معتبرًا أنّ العلمانيّة السّليمة الّتي تُقرّ بدور الأديان الجوهريّ، تمثّل شرطًا أساسيًّا لمعاملة المواطنين على قدم المساواة، ولتعزيز حسّ الانتماء إلى الوطن لدى كلّ المكوّنات العرقيّة واللّغويّة والثّقافيّة والدّينيّة. وذكّر البابا فرنسيس بأنّ الأديان تحتاج إلى الحرّيّة كي تعبّر عن ذاتها، وهذه الحرّيّة الدّينيّة تشكّل ركيزة التّعايش المدنيّ.
تابع الحبر الأعظم خطابه قائلاً إنّه يودّ أن يحيّي الجهود الهادفة إلى الدّفاع عن قيمة الحياة البشريّة من خلال إلغاء عقوبة الإعدام، وشدّد على ضرورة أن يكون ذلك مرفقًا باحترام حرّيّة الفكر والضّمير والتّعبير. وتطرّق إلى الدّور الواجب أن تلعبه السّلطات المدنيّة، المسؤولة عن تعزيز الخير العامّ، عن طريق دعم الدّيمقراطيّة، الّتي تضمن أن تتحوّل السّلطة إلى خدمة الشّعب كلّه. ولفت إلى عمليّة دمقرطة البلاد، الّتي أُطلقت خلال الأشهر الماضية بهدف تعزيز صلاحيّات البرلمان والسّلطات المحلّيذة وضمان توزيع عادل للسّلطات. وقال إنّ هذا المشروع يتطلّب السّير إلى الأمام دون الالتفات إلى الخلف، موضحًا أنّ الثّقة في الحكّام تترسّخ عندما تُطبّق الوعود.
من هذا المنطلق– تابع البابا يقول– ينبغي ألّا تقتصر الدّيمقراطيّة على الشّعائر والخطابات إذ لا بدّ أن تُترجم إلى خدمة ملموسة للشّعب، كي تصغي السّياسة إلى النّاس وتسعى إلى تلبية تطلّعاتهم المشروعة مع إشراك المجتمع المدنيّ والمنظّمات غير الحكوميّة والإنسانيّة، ومع إيلاء اهتمام خاصّ بالعمّال والشّبّان وشرائح المجتمع الأشدّ ضعفًا. وأضاف فرنسيس أنّ هذا النّمط السّياسيّ الدّيمقراطيّ يشكّل العلاج الأنسب للتّطرّف والشّخصانيّة والشّعبويّة الّتي تهدّد استقرار الشّعوب ورخاءها. وتحدّث أيضًا عن الأمن الاقتصاديّ، الّذي هو تحدّ يعني العالم كلَّه، لافتًا في هذا الإطار إلى ضرورة أن تسهر السّلطات الحكوميّة والقطاع الخاصّ في كازاخستان على ضمان توزيع عادل للموارد، وتطبيق العدالة وتكافؤ الحقوق والواجبات وتعزيز النّموّ الاقتصاديّ مع صون حقوق العمّال.
بعدها تمنّى البابا أن يبقى اسم كازاخستان مرادفًا للتّناغم والسّلام، وقال إنّ يوحنّا بولس الثّاني جاء إلى هذا البلد ليزرع بذور الأمل، بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر ٢٠٠١، وذكّر فرنسيس بأنّ زيارته هذه تأتي في وقت يشهد فيه العالم حربًا في أوكرانيا، بالإضافة إلى حروب وصراعات أخرى. وأضاف أنّه جاء ليردّد صرخة العديد من الأشخاص الّذين يطلبون السّلام، لذا لا بدّ من توسيع حلقة الالتزام الدّبلوماسيّ لصالح الحوار واللّقاء، لأنّ مشكلة البعض باتت اليوم مشكلة الجميع ومن يتمتّع بنفوذ أكبر لديه مسؤوليّات أكبر حيال الآخرين. وقال إنّ العالم يحتاج إلى زعماء يروّجون للتّفاهم والحوار، ويرغبون في تعزيز تعدّديّة الأطراف وبناء عالم أكثر استقرارًا وسلامًا، مفكّرين بالأجيال الفتيّة. وهذا يتطلّب التّفاهم والصّبر والحوار مع الكلّ.
في نهاية خطابه شاء البابا أن يحيّي قرار نزع الأسلحة النّوويّة الّذي اتّخذته كازاخستان بحزم. وأشاد أيضًا بالسّياسات في مجال الطّاقة والبيئة الّتي ترمي إلى التّخلّي عن الفحم والاستثمار في الطّاقات النّظيفة. وقال إنّ هذه القضايا، بالإضافة إلى مسألتي الحوار بين الأديان والتّسامح، تشكّل بذورًا ملموسة تُزرع في تربة البشريّة وعلينا أن نعتني بها من أجل أجيال الغد. وشدّد فرنسيس على أنّ الكرسيّ الرّسوليّ قريب من كازاخستان، وقد أقام معها علاقات دبلوماسيّة بُعيد استقلال البلاد لثلاثين سنة خلت، مؤكّدًا التزام الكاثوليك في الشّهادة لروح الانفتاح والحوار المتّسم بالاحترام والّذي يميّز تلك الأرض."