أوروبا
26 أيلول 2022, 08:45

البابا فرنسيس من "مدينة الخبز": لنعد إلى يسوع، لنعد إلى الإفخارستيّا!

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة اختتام المؤتمر الوطنيّ القربانيّ السّابع والعشرين الّذي عقد في ماتيرا- إيطاليا، من الثّاني والعشرين وحتّى الخامس والعشرين من الجاري، ترأّس البابا فرنسيس صباح الأحد القدّاس الإلهيّ في الملعب البلديّ في ماتيرا، حيث دعا إلى كنيسة إفخارستيّة "مكوّنة من رجال ونساء يكسرون أنفسهم خبزًا لجميع الّذين يمضغون الوحدة والفقر، وجميع الّذين يجوعون للحنان والرّحمة، والّذين تنهار حياتهم بسبب غياب خميرة الرّجاء الصّالحة".

كلام البابا جاء في عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "يجمعنا الرّبّ حول مائدته، ويجعل نفسه خبزًا لنا: "إنّه خبز العيد على مائدة الأبناء، يخلق المشاركة، ويقوّي الرّوابط، وله طعم الشّركة". ومع ذلك، فإنّ الإنجيل الّذي سمعناه للتّوّ يقول لنا إنَّ الخبز لا تتمّ مشاركته دائمًا على مائدة العالم؛ ولا ينبعث منه عطر الشّركة دائمًا؛ ولا يُكسر دائمًا في البرّ.

من الجيّد أن نتوقّف أمام المشهد المأساويّ الّذي وصفه يسوع في هذا المثل: من ناحية، غنيّ يرتدي الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ بِمَأدُبَةٍ فاخِرة؛ ومن ناحية أخرى، رجل فقير، غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه، مُلقى على الباب يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنيّ. وأمام هذا التّناقض نسأل أنفسنا: ما الّذي يدعونا إليه سرّ الإفخارستيّا مصدر وذروة حياة المسيحيّ؟

أوّلاً تذكّرنا الإفخارستيّا بأولويّة الله، فالرّجل الغنيّ في المثل ليس منفتحًا على العلاقة مع الله، بل يفكّر فقط في رفاهيّته، وإشباع احتياجاته، والتّمتّع بالحياة. هو يرضي نفسه، ويعبد الثّروة الدّنيويّة ومنغلق في عالمه، عالم الحفلات الصّغير. راضٍ عن نفسه، يعميه المال، ويخدّره الغرور، لا مكان لله في حياته لأنّه يعبد نفسه فقط. وليس من باب الصّدفة ألّا يتمَّ ذكر اسمه: نسمّيه "غنيّ"، ونعرفه فقط بالصّفة لأنّه فقد اسمه، ولا تُعطى هويّته إلّا من خلال الخيور الّتي يملكها. كم هي محزنة هذه الحقيقة اليوم أيضًا، عندما نخلط بين ما نحن عليه وما نملكه، عندما نحكم على النّاس من خلال الثّروة الّتي يملكونها، والألقاب الّتي يعرضونها، والأدوار الّتي يشغلونها أو ماركة اللّباس الّذي يرتدونه. إنّه دين الامتلاك والظّهور، الّذي غالبًا ما يهيمن على هذا العالم، ولكنّه في النّهاية يتركنا فارغي الأيدي. في الواقع، لم يبقَ لهذا الرّجل الغنيَّ في الإنجيل حتّى اسمه. لم يَعُد أحدًا. أمّا الفقير فاسمه لعازر، والّذي يعني "الله يعين". وحتّى في حالة الفقر والتّهميش، يمكنه الحفاظ على سلامة كرامته لأنّه يعيش في علاقة مع الله، وباسمه يوجد شيء من الله والله هو رجاء حياته الّذي لا يتزعزع.

هذا هو التّحدّي الدّائم الّذي تقدّمه الإفخارستيّا لحياتنا: أن نعبد الله لا أنفسنا. وأن نضعه هو في المحور وليس غرور الأنا. وأن نتذكّر أنّ الرّبّ وحده هو الله وكلّ شيء آخر هو عطيّة من محبّته. لأنّنا إذا عبدنا أنفسنا سنموت يخنقنا الأنا الصّغير؛ إذا عبدنا غنى هذا العالم، فسيتملّكنا ويستعبدنا. إذا كنّا نعبد إله المظاهر ونثمل في الهدر، فستطلّب منّا الحياة عاجلاً أم آجلاً أن نؤدِّيَ الحساب. أمّا، عندما نعبد الرّبّ يسوع الحاضر في الإفخارستيّا، فننال أيضًا نظرة جديدة على حياتنا: أنا لستُ الأشياء الّتي أملكها والنّجاحات الّتي يمكنني أن أُحقّقها، إنَّ قيمة حياتي لا تعتمد على المقدار الّذي أتمكّن فيه من الظّهور ولا تتضاءل عندما أواجه الإخفاقات والفشل. أنا أبن محبوب. أنا مبارك من الله، وقد أراد أن يمنحني الجمال ويريدني حرًّا من جميع أشكال العبوديّة. لنتذكّر هذا الأمر: إنَّ الّذي يعبد الله لا يصبح عبدًا لأحد. لنكتشف مجدّدًا صلاة العبادة: إنّها تحرّرنا وتعيد إلينا كرامتنا كأبناء.

بالإضافة إلى أولويّة الله، تدعونا الإفخارستيّا إلى محبّة الإخوة. هذا الخبز هو سرّ المحبّة بامتياز. إنّه المسيح الّذي يقدّم نفسه ويكسر نفسه من أجلنا ويطلب منّا أن نفعل الشّيء نفسه، لكي تكون حياتنا قمحًا مطحونًا وتصبح خبزًا يشبع إخوتنا. لقد فشل غنيّ الإنجيل في هذه المهمّة. لقد كان يعيش في ترف ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ بِمَأدُبَةٍ فاخِرة دون أن يتنبّه حتّى للصّرخة الصّامتة للعازر المسكين، الّذي كان مُلقى عند بابه منهكًا. وفي نهاية حياته فقط، عندما قلب الرّبّ الأقدار، تنبّه الغنيّ أخيرًا للعازر، لكن إبراهيم قال له: "لقد أُقيمَت بَيننا وبَينَكم هُوَّةٌ عَميقة". لقد حفر الرّجل الغنيّ هوّة بينه وبين لعازر خلال حياته الأرضيّة والآن، في الحياة الأبديّة، تبقى هذه الهوّة. لأنّ مستقبلنا الأبديّ يعتمد على هذه الحياة الحاليّة: إذا حفرنا الآن هوّة مع الإخوة، فإنّنا نحفر الهوّة لما بعد؛ وإذا أقمنا الآن جدرانًا ضدّ الإخوة، فسنبقى مسجونين في الوحدة والموت حتّى فيما بعد.

أيّها الإخوة والأخوات، إنّه لأمر مؤلم أن نرى أنّ هذا المثل لا يزال من قصص زمنا: الظّلم، والتّفاوتات، وموارد الأرض الموزّعة بطريقة غير متكافئة، وتجاوزات الأقوياء ضدّ الضّعفاء، واللّامبالاة تجاه صرخة الفقراء، الهاوية الّتي نحفرها كلّ يوم وتخلق التّهميش، جميع هذه الأمور لا يمكنها أن تتركنا غير مبالين. وهكذا، نعترف اليوم معًا أنّ الإفخارستيّا هي نبوءة عالم جديد، إنّها حضور يسوع الّذي يطلب منّا أن نلتزم لكي يُصار إلى ارتداد فعليّ: من اللّامبالاة إلى الرّحمة، من الهدر إلى المشاركة، من الأنانيّة إلى الحبّ، ومن الفردية إلى الأخوَّة. لنحلم بكنيسة مثل هذه: إفخارستيّة. مكوّنة من رجال ونساء يكسرون أنفسهم خبزًا لجميع الّذين يمضغون الوحدة والفقر، وجميع الّذين يجوعون للحنان والرّحمة، والّذين تنهار حياتهم بسبب غياب خميرة الرّجاء الصّالحة. كنيسة تركع أمام الإفخارستيّا وتعبد بدهشة الرّبّ الحاضر في الخبز؛ ولكنّها تعرف أيضًا كيف تنحني برأفة أمام جراح المتألّمين، وترفع الفقراء وتجفّف دموع المتألّمين، جاعلةً من نفسها خبز رجاء وفرح للجميع. لأنّه لا توجد عبادة إفخارستيّة حقيقيّة بدون شفقة تجاه الكثيرين الّذين مثل "لعازر" يسيرون اليوم إلى جانبنا.

أيّها الإخوة والأخوات، من مدينة ماتيرا هذه، "مدينة الخبز"، أريد أن أقول لكم: لنعد إلى يسوع، لنعد إلى الإفخارستيّا. لنعد إلى طعم الخبز، لأنّه فيما نجوع للحبّ والرّجاء، أو تكسرنا مصاعب الحياة وآلامها، يجعل يسوع من نفسه طعامًا يشبعنا ويشفينا. لنعد إلى طعم الخبز، لأنّه فيما يستمرّ الظّلم والتّمييز ضدّ الفقراء في العالم، يعطينا يسوع خبز المشاركة ويرسلنا كلّ يوم كرسل للأخوّة والعدالة والسّلام. لنعد إلى طعم الخبز لكي نكون كنيسة إفخارستيّة تضع يسوع في المحور وتجعل من نفسها خبز حنان ورحمة للجميع. لنعد إلى طعم الخبز لكي نتذكّر أنّه فيما تؤول حياتنا الأرضيّة إلى نهايتها، تستبق الإفخارستيّا الوعد بالقيامة وتقودنا نحو حياة جديدة تتغلّب على الموت. وعندما ينطفئ الرّجاء ونشعر في داخلنا بوحدة القلب، والتّعب الدّاخليّ، وعذاب الخطيئة، والخوف من عدم النّجاح، لنعد مجدّدًا إلى طعم الخبز. لنعد إلى يسوع، ولنعبد يسوع، ولنقبل يسوع، لأنّه يتغلّب على الموت ويجدّد حياتنا على الدّوام."