العالم
15 أيلول 2022, 05:00

البابا فرنسيس: من صليب المسيح نتعلّم المحبّة لا الكراهيّة، الشّفقة لا اللّامبالاة، المغفرة لا الانتقام

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة عيد ارتفاع الصّليب المقدّس، ترأّس البابا فرنسيس القدّاس الإلهيّ في كازاخستان، في الـExpo Grounds في نور سلطان، دعا خلاله إلى النّظر إلى العلى، إلى يسوع، والتّعلّم من محبّته الشّاملة والمصلوبة.

وللمناسبة، ألقى البابا عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز: "الصّليب هو خشبة موت، ولكنّنا في يوم العيد هذا نحتفل بارتفاع صليب المسيح. لأنّ على تلك الخشبة أخذ يسوع على عاتقه خطيئتنا وشرّ العالم وهزمهما بمحبّته. لهذا نحتفل بالصّليب المقدّس. تخبرنا كلمة الله الّتي سمعناها عن ذلك، إذ تضع من ناحية، الحيّات الّتي تلدغ، ومن ناحية أخرى الحيّة الّتي تخلِّص لنتوقّف عند هاتين الصّورتين.

أوّلاً الحيّات الّتي تلدغ. هي تهاجم الشّعب الّذي سقط للمرّة الألف في خطيئة التّذمّر. إنَّ التّذمّر على الله لا يعني فقط الكلام السّيّء والتّأفُّف منه؛ وإنّما يعني، بشكل أعمق، أنّ الثّقة به وبوعده، قد خفَّت في قلوب الإسرائيليّين. إنّ شعب الله، في الواقع، يسير في الصّحراء نحو أرض الميعاد يثقِّله التّعب وقد نفد صبره من السّفر. فثبطت عزيمته وفقد الأمل، وعند نقطة معيّنة بدا الأمر كما لو أنّه نسي وعد الرّبّ: لم يعد لهؤلاء الأشخاص القوّة لكي يؤمنوا بأنّه هو الّذي يقود مسيرتهم نحو أرض غنيّة وخصبة. ليس من قبيل الصّدفة أنّه عندما نفدت الثّقة بالله، بدأت الحيّات الّتي تقتل تلدغ الشّعب. إنّها تذكّر بالحيّة الأولى الّتي يتحدّث عنها الكتاب المقدّس في سفر التّكوين، المجرّب الّذي سمّم قلب الإنسان وجعله يشكّ في الله. في الواقع، إنَّ الشّيطان، في صورة حيّة، قد سحر آدم وحوّاء، وخلق فيهما عدم الثّقة وأقنعهما أنّ الله ليس صالحًا، بل هو يغار من حرّيّتهما وسعادتهما. والآن، في الصّحراء، عادت الحيّات، "الحيّات اللّاذعة"؛ أيّ أنّ الخطيئة الأصليّة قد عادت: لقد شكَّ الإسرائيليّون في الله، وفقدوا ثقتهم به وتذمَّروا، وتمرّدوا على الّذي أعطاهم الحياة، مُتَّجهين هكذا نحو الموت. هذا ما يقود إليه غياب الثّقة في القلب!

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يطلب منّا هذا الجزء الأوّل من القصّة أن ننظر عن كثب إلى لحظات تاريخنا الشّخصيّ والجماعيّ الّتي نقصت فيها الثّقة بالرّبّ وفيما بيننا. كم من مرّة، إذ سيطر علينا غياب الثّقة ونفاد الصّبر، ذبلنا في صحارينا وغاب عن بصرنا هدف المسيرة! حتّى في هذا البلد العظيم توجد الصّحراء الّتي، فيما تقدّم لنا مناظر طبيعيّة رائعة، تحدّثنا عن ذلك التّعب، وذلك الجفاف اللّذين نحملهما في قلوبنا أحيانًا. إنّها لحظات تعب وتجربة، فقدنا فيها القوّة لكي ننظر إلى العلى، إلى الله؛ إنّها مواقف الحياة الشّخصيّة والكنسيّة والاجتماعيّة الّتي تلدغنا فيها حيّة عدم الثّقة، الّتي تضخّ فينا سموم خيبة الأمل واليأس والتّشاؤم والاستسلام، وتغلقنا على أنفسنا، وتطفئ الحماس. لكن في تاريخ هذه الأرض كانت هناك لدغات مؤلمة أخرى: أفكّر في الحيّات اللّاذعة للعنف، والاضطهاد الإلحاديّ، والاضطهاد الدّينيّ، وبمسيرة مضطربة أحيانًا تمّ خلالها تهديد حرّيّة الشّعب وجرح كرامته. سيفيدنا أن نحتفظ بذكرى ما عانينا منه: لا يجب أن نزيل بعض الظّلام من ذاكرتنا، لأنّه سيتمُّ الاعتقاد بأنّها صفحةٌ قد طُويَت وأنّ مسيرة الخير قد تحدّدت بشكل نهائيّ. لا، إنَّ السّلام لا يُكتسب أبدًا مرّة واحدة وإلى الأبد، وإنّما علينا أن نحقّقه يوميًّا، وكذلك التّعايش بين الجماعات العرقيّة والتّقاليد الدّينيّة المختلفة، والتّنمية المتكاملة، والعدالة الاجتماعيّة. ولكي تنمو كازاخستان أكثر "في الأخوّة والحوار والتّفاهم ومن أجل بناء جسور التّضامن مع الشّعوب والأمم والثّقافات الأخرى، هناك حاجة لالتزام الجميع. ولكن قبل ذلك هناك حاجة لفعل إيمان متجدّد نحو الرّبّ: أن ننظر إلى العلى، وأن ننظر إليه، ونتعلّم من محبّته الشّاملة والمصلوبة.

نصل هكذا إلى الصّورة الثّانية: الحيّة الّتي تخلِّص. بينما كان الشّعب يموت بسبب الحيّات اللّاذعة، سمع الله صلاة شفاعة موسى وقال له: "اصنع لك حيّة لاذعة واجعلها على سارية، فكلّ لديغ ينظر إليها يحيا". في الواقع، "كان أيّ إنسان لدغته حيّة ونظر إلى الحيّة النّحاسيّة يحيا". ولكن يمكننا أن نسأل أنفسنا: لماذا لم يدمّر الله الحيّات السّامّة بدلاً من أن يعطي موسى هذه التّعليمات الشّاقّة؟ يكشف لنا هذا الأسلوب في التّصرّف عن عمله إزاء الشّرّ والخطيئة وغياب ثقة البشريّة. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، في المعركة الرّوحيّة العظيمة الّتي تسكن التّاريخ حتّى النّهاية، لم يقضِ الله على الوضاعات الّتي يسعى إليها الإنسان بحرّيّة: إنّ الحيّات السّامة لم تختفِ، وإنّما لا تزال موجودة، وتتربّص، ويمكنها دائمًا أن تلدغ. فما الّذي تغيّر إذن، ماذا فعل الله؟

يشرح يسوع ذلك في الإنجيل: "كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن". إليكم نقطة التّحوّل: الحيّة الّتي تخلّص قد وصلت بيننا: يسوع الّذي رُفع على عود الصّليب، لا يسمح للحيّات السّامّة الّتي تهاجمنا أن تقودنا إلى الموت. وإزاء وضاعاتنا، يمنحنا الله ارتفاعًا جديدًا: إذا ثبَّتنا نظرنا على يسوع، فلن تتمكّن لدغات الشّرِّ من أن تسيطر علينا، لأنّه، على الصّليب، أخذ على عاتقه سمّ الخطيئة والموت وهزم قوّتهما المدمّرة. هذا ما فعله الآب إزاء انتشار الشّرّ في العالم. لقد أعطانا يسوع، الّذي اقترب منّا كما لم يكن بإمكاننا أن نتخيّل أبدًا: "ذاك الّذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا كيما نصير فيه برّ الله". هذه هي عظمة الرّحمة الإلهيّة اللّامتناهية: يسوع الّذي "جعل نفسه خطيئة" من أجلنا، يسوع الّذي على الصّليب- يمكننا القول- "جعل نفسه حيّة" لكي وإذ نظرنا إليه نتمكّن من مقاومة اللّدغات السّامّة للحيّات الشّرّيرة الّتي تهاجمنا.

أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو السّبيل الوحيد لخلاصنا، لولادتنا الجديدة وقيامتنا: أن ننظر إلى يسوع المصلوب. من هذا الارتفاع يمكننا أن نرى حياتنا وتاريخ شعوبنا بطريقة جديدة. لأنّنا من صليب المسيح نتعلّم المحبّة لا الكراهيّة. نتعلّم الشّفقة لا اللّامبالاة؛ نتعلّم المغفرة لا الانتقام. إنّ ذراعي يسوع الممدودتين هما عناق الحنان الّذي يريد الله به أن يقبل حياتنا. وتظهران لنا الأخوّة الّتي نحن مدعوّون لعيشها فيما بيننا. هي تدلّنا على الدّرب، الدّرب المسيحيّ: لا درب الفرض والإكراه، والقوّة والأهمّيّة، ولا درب من يحمل صليب المسيح ضدّ الإخوة والأخوات الآخرين الّذين بذل يسوع حياته من أجلهم! درب يسوع هو درب آخر، درب الخلاص: إنّه درب الحبّ المتواضع والحرّ والشّامل، بدون "إنّ" وبدون "لكن".

نعم، لأنّ المسيح على خشبة الصّليب قد أزال سمّ حيّة الشّرّ، وكوننا مسيحيّين يعني أن نعيش بدون سموم: فلا نلدغ بعضنا البعض، ولا تتذمّر، ولا نتَّهم بعضنا البعض، ولا نثرثر، ولا ننشر أعمال الشّرّ، ولا نلوّث العالم بالخطيئة وغياب الثّقة اللّذين يأتيان من الشّرّير. أيّها الإخوة والأخوات، لقد ولدنا مجدّدًا من جنب يسوع المفتوح على الصّليب: فلا يكُن هناك سمّ موت فينا؛ وإنّما لنصلِّ لكي نتمكّن بنعمة الله من أن نصبح مسيحيّين أكثر فأكثر: شهودًا فرحين لحياة جديدة، وشهود محبّة، وسلام".

وفي ختام الذّبيحة الإلهيّة وبعد كلمة المطران توماس برنارد بيتا الّتي شكر فيها الأب الأقدس على هذه الزّيارة سائلاً بركته قال البابا فرنسيس: "شكرًا أيّها، المطران بيتا، على كلماتك، وشكرًا على كلّ الجهود الّتي تمَّ بذلها في التّحضير لهذا الاحتفال ولزيارتي. وبالتّالي أرغب في هذا الصّدد أن أجدّد خالص امتناني لسلطات البلاد المدنيّة والدّينيّة. أحيّيكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات، ولاسيّما وأنتم الّذين قدمتم من بلدان أخرى في آسيا الوسطى ومن أجزاء بعيدة من هذه الأرض الّتي لا حدود لها. أبارك من كلِّ قلبي المسنّين والمرضى والأطفال والشّباب.

اليوم، عيد ارتفاع الصّليب المقدّس، لنشعر بأنّنا مُتّحدين بشكل روحيّ مع المزار الوطنيّ لملكة السّلام في أوزيورنوي. لقد ذكر المطران توماش أنّ هناك صليب كبير كتب عليه: "لشعب كازاخستان الامتنان" و"للبشر السّلام". إنّ الامتنان للرّبّ على شعب الله المقدّس الّذي يعيش في هذا البلد العظيم يتّحد بالامتنان على التزامه بتعزيز الحوار، ويتحوّل إلى تضرُّعٍ للسّلام، السّلام الّذي يعطش إليه عالمنا.

أفكّر في العديد من الأماكن الّتي تمزّقها الحرب، ولاسيّما أوكرانيا العزيزة. لا نتعودنَّ على الحرب، ولا نستسلمنَّ لحتميّتها. لنساعد الّذين يتألَّمون ولنُصرَّ لكي يتمَّ السّعي حقًّا من أجل بلوغ السّلام. ما الّذي يجب أن يحدث بعد، كم هو عدد القتلى الّذي علينا أن ننتظره قبل أن تفسح المعارضة الطّريق للحوار من أجل خير النّاس والشّعوب والبشريّة؟ إنَّ السّبيل الوحيد للخروج هو السّلام والدّرب الوحيد هو الحوار. لنواصل الصّلاة لكي يتعلّم العالم أن يبني السّلام، كذلك عن طريق الحدّ من سباق التّسلّح وتحويل نفقات الحرب الضّخمة إلى دعم ملموس للسّكّان. شكرًا لجميع الّذين يؤمنون بذلك، شكرًا لكم ولجميع رسل السّلام والوحدة!".