الفاتيكان
06 كانون الثاني 2023, 13:25

البابا فرنسيس: ما هو المكان الذي يمكننا أن نجد فيه ربّنا ونلتقي به؟

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة عيد ظهور الرّبّ، ترأّس البابا فرنسيس قدّاسًا إلهيًّا صباح اليوم في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، وألقى عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"كنجم يشرق، يأتي يسوع لينير جميع الشّعوب ويضيء ليالي البشريّة. مع المجوس، نرفع نظرنا إلى السّماء اليوم نحن أيضًا ونسأل أنفسنا: "أَينَ هو الَّذي وُلِد؟". أيّ ما هو المكان الذي يمكننا أن نجد فيه ربّنا ونلتقي به؟

من خبرة المجوس، نفهم أنّ "المكان" الأوّل الذي يُحبُّ الله أن نبحث عنه فيه هو قلق الأسئلة. تعلّمنا المغامرة الرّائعة لحكماء الشّرق هؤلاء أنّ الإيمان لا يولد من استحقاقنا أو من التّفكير النّظريّ، وإنّما عندما نستيقظ من اللّامبالاة ونصبح قادرين على إفساح المجال للأسئلة المهمّة في الحياة، الأسئلة التي تخرجنا من الإدِّعاء بأنَّ كلّ شيء على ما يرام وتفتحنا على ما يذهب أبعد منّا. هذا ما نجده في المجوس في البداية: قلق الذين يسائلون أنفسهم. إذ كان يسكنهم حنين وتوق إلى اللّامحدود، كانوا يتفحصّون السّماء وسمحوا لروعة نجم أن تُدهشهم، ممثّلين هكذا التّوق نحو المتعالي الذي يحرّك مسيرة الحضارة وبحث قلبنا المستمرّ. هذا النّجم، في الواقع، قد ترك سؤالاً في قلوبهم: "أَينَ هو الَّذي وُلِد؟".

أيّها الإخوة والأخوات، تبدأ مسيرة الإيمان عندما نفسح المجال للقلق الذي يبقينا مستيقظين؛ عندما نسمح للأمور بأن تُسائلنا، عندما لا نكتفي بهدوء عاداتنا، بل نخاطر في تحدّيات كلّ يوم؛ عندما نتوقّف عن إبقاء أنفسنا في مكان محايد ونقرر أن نسكن في فُسحات الحياة المحرجة، المكوَّنة من علاقات مع الآخرين، ومفاجآت، وأحداث غير متوقّعة، ومشاريع علينا أن نمضي بها قدمًا، وأحلام علينا أن نحققها، ومخاوف علينا أن نواجهها، وآلام تنخر في جسدنا. في هذه اللّحظات، ترتفع من قلوبنا هذه الأسئلة التي لا يمكن كبتها، والتي تفتحنا على البحث عن الله: أين هي السّعادة بالنّسبة لي؟ أين هي الحياة الكاملة التي أطمح إليها؟ أين هو ذلك الحب الذي لا يزول، والذي لا يغيب، والذي لا ينكسر حتّى إزاء الهشاشة والفشل والخيانة؟ ما هي الفرص الخفيّة في أزماتي وآلامي؟

يقدّم المناخ الذي نتنفّسه كلّ يوم "مهدّئات للرّوح"، بدائل لتخدير قلقنا وإخماد هذه الأسئلة: من منتجات الاستهلاك إلى إغراءات المتعة، من المناظرات المذهلة إلى وثنيّة الرّفاهية؛ يبدو أنّ كلّ شيء يقول لنا: لا تفكّر كثيرًا، اترك الأمور تسير، واستمتع بالحياة! غالبًا ما نحاول أن نضع قلوبنا في خزانة أمانات الرّاحة، لكن لو فعل المجوس هكذا لما التقوا بالرّبّ أبدًا. إنَّ الله يسكن في أسئلتنا القلقة؛ وفيهم "نحن نبحث عنه كما يبحث اللّيل عن الفجر... إنّه في الصّمت الذي يزعجنا أمام الموت ونهاية كلّ عظمة بشريّة. إنّه في الحاجة إلى العدالة والحب التي نحملها في داخلنا؛ إنّه السّرّ المقدّس الذي يأتي للقاء حنيننا إلى الآخر، حنين إلى العدالة الكاملة والمكتملة، وإلى المصالحة والسّلام. هذا إذن هو المكان الأوّل: قلق الأسئلة.

أمّا المكان الثّاني الذي يمكننا أن نجد فيه الرّبّ ونلتقي به فهو خطر المسيرة. يمكن للأسئلة، حتّى تلك الرّوحيّة أيضًا، أن تقود في الواقع إلى الإحباط واليأس إذا لم تضعنا في مسيرة، وإذا لم توجّه حركتنا الدّاخليّة في البحث عن وجه الله وجمال كلمته. إنّ حج المجوس الخارجيّ - قال بندكتس السّادس عشر - كان تعبيرًا عن كونهم في مسيرة داخليّة، وعن حجِّهم الدّاخليّ في قلوبهم. في الواقع، لم يتوقّف المجوس لكي ينظروا إلى السّماء ويتأمَّلوا في نور النّجم، ولكنّهم غامروا في رحلة محفوفة بالمخاطر لا تأخذ بعين الاعتبار طرقًا آمنة وخرائط محدّدة مسبقًا. كانوا يريدون أن يعرفوا من هو ملك اليهود، وأين ولد، وأين يمكنهم أن يجدوه. لهذا سألوا هيرودس، الذي بدوره استدعى الأَحْبارَ وكَتَبَةَ الشَّعْبِ كُلَّهم، واستَخْبَرهم أَين يُولَدُ المسيح. إنَّ المجوس هم في مسيرة: ومعظم الأفعال التي تصف أفعالهم هي أفعال حركة.

هكذا هو الأمر أيضًا بالنّسبة لإيماننا: بدون مسيرة مستمرة وحوار دائم مع الرّبّ، وبدون الإصغاء إلى الكلمة، وبدون مثابرة، لا يمكنه أن ينمو. لا تكفيه بعض الأفكار عن الله وبعض الصّلوات التي تهدّئ الضّمير؛ وإنّما علينا أن نصبح تلاميذ في إتباع يسوع وإنجيله، وأن نتحدث معه عن كل شيء في الصلاة، ونبحث عنه في مواقف الحياة اليومية وفي وجوه الإخوة. من إبراهيم الذي انطلق في رحلة نحو أرض مجهولة إلى المجوس الذين يسيرون خلف النّجم، الإيمان هو مسيرة، وحج، وتاريخ من الإنطلاق والبدء من جديد. لنتذكّر هذا: الإيمان لا ينمو إذا بقي جامدًا؛ ولا يمكننا أن نحصره في بعض العبادات الشّخصيّة أو أن نحدَّه داخل جدران الكنائس، وإنّما علينا أن نُخرجه ونعيشه في مسيرة مستمرّة نحو الله ونحو الإخوة. لنسأل أنفسنا إذن: هل أسير نحو ربّ الحياة، لكي يُصبح ربّ حياتي؟ يا يسوع من أنت بالنّسبة لي؟ أين تدعوني للذّهاب وماذا تريد من حياتي؟ ما هي الخيارات التي تدعوني لكي أقوم بها من أجل الآخرين؟

أخيرًا، بعد قلق الأسئلة وخطر الرحلة، المكان الثّالث الذي يمكننا أن نجد فيه الرّبّ ونلتقي به هو دهشة العبادة. في نهاية مسيرة بحث طويلة ومُرهقة، دخل المجوس الَبيتَ "فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم. فجَثَوا له ساجِدين". هذه هي النّقطة الحاسمة: على قلقنا وأسئلتنا ومساراتنا الرّوحيّة وممارسات الإيمان التي نقوم بها أن تلتقي في عبادة الرّبّ. هناك تجد جميع هذه الأمور مركزها الذي تنبعث منه لأنّ كلّ شيء يولد من هناك، لأنّ الرّبّ هو الذي يبعث فينا الشّعور والتّصرّف والعمل. كلّ شيء يولد ويبلغ ذروته هناك، لأن هدف كلّ شيء ليس أن نبلغ هدفًا شخصيًّا وننال المجد لذواتنا، وإنّما أن نلتقي بالله ونسمح بأن تغمرنا محبّته التي تعطي أساسًا لرجائنا الذي يحررنا من الشر ويفتحنا على محبّة الآخرين، ويجعلنا أشخاصًا قادرين على بناء عالم أكثر عدالة وأخوّة.

لا فائدة من أن ننشِّط أنفسنا رعويًّا إذا لم نضع يسوع في المحور، ولم نعبده. هناك نتعلّم أن نقف أمام الله لا لنطلب أو نفعل شيئًا، وإنّما فقط لكي نتوقف بصمت ونستسلم لمحبّته، ونسمح لرحمته بأن تمسك بنا وتجددنا. على مثال المجوس، لنجثو ساجِدين ونستسلم لله في دهشة العبادة. لنعبد الله لا أنفسنا. لنعبد الله ولا الأصنام الكاذبة التي تغرينا بجاذبيّة الهيبة والقوّة؛ لنعبد الله لكي لا نسجد أمام الأشياء الزّائلة ومنطق الشّرّ المغري وإنّما الفارغ.

أيّها الإخوة والأخوات، لا نسمحنَّ بأن يخمد فينا قلق الأسئلة؛ لا نوقفنَّ مسيرتنا بالاستسلام لللامبالاة أو الرّاحة؛ ولدى لقائنا بالرّبّ لنستسلم لدهشة العبادة. فنكتشف عندها أن هناك نور ينير حتّى أحلك اللّيالي: إنّه يسوع، نجم الصباح المشرق، شمس العدل، إشراق الله الرّحيم، الذي يحبّ كلّ إنسان وكلّ شعب على وجه الأرض."