الفاتيكان
14 تشرين الثاني 2022, 07:30

البابا فرنسيس: لنقدّم شهادة ونضيء أنوار الرّجاء في وسط الظّلمة ونبني عالمًا أكثر أخوّة

تيلي لوميار/ نورسات
إلى محبّة الأبناء المهمّشين والاعتناء بالفقراء، "الّذين يحضر فيهم يسوع الّذي افتقر لأجلنا"، دعا البابا فرنسيس قدّاس اليوم العالميّ للفقراء الّذي ترأّسه صباح الأحد في بازيليك القدّيس بطرس.

في العظة، وقبل أن يطلق دعوته هذه، توقّف الأب الأٌقدس عند نصيحتين قدّمهما الرّبّ لتلاميذه في قوله: "إيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد واشهدوا"، فقال بحسب "فاتيكان نيوز": بحسب "فاتيكان نيوز": "بينما كان البعض يتحدّثون عن جمال الهيكل الخارجيّ ويعجبون بحجارته، يوقظ يسوع الانتباه إلى الأحداث المضطربة والمأساويّة الّتي تطبع تاريخ البشريّة. في الواقع، بينما سيزول الهيكل الّذي بنته أيدي الإنسان، كما تزول جميع أمور هذا العالم، من الأهمّيّة بمكان أن نعرف كيف نميِّز الزّمن الّذي نعيش فيه، لكي نبقى تلاميذًا للإنجيل حتّى في وسط اضطرابات التّاريخ. ولكي يدلّنا على أسلوب التّمييز، يقدّم لنا الرّبّ نصيحتين: إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد واشهدوا.

إنَّ أوّل ما قاله يسوع لسامعيه القلقين حول "متى" و"كيف" ستقع الأحداث المخيفة الّتي يتحدّث عنها، هو: "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد! فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هُو! قد حانَ الوَقْت! فلا تَتبَعوهم. وأضاف وإِذا سَمِعتُم بِالحُروبِ والفِتَن، فلا تَفزَعوا". ما هو الخداع الّذي يريد يسوع إذًا أن يحرّرنا منه؟ من تجربة قراءة الحقائق المأساويّة بطريقة خرافيّة أو كارثيّة، كما لو كنّا الآن قريبين من نهاية العالم ولم يعد من المجدي أن نلتزم بأيّ شيء جيّد بعد الآن. إذا فكّرنا بهذه الطّريقة، فإنّنا نسمح للخوف بأن يقودنا، وربّما نبحث بعد ذلك عن إجابات بفضول مَرَضي في هراء السّحرة أو الأبراج أو نوكل أنفسنا أيضًا إلى نظريّات خياليّة يقدّمها "مُسحاء" آخر دقيقة، الّذين غالبًا ما يكونون على الدّوام انهزاميّين ومتآمرين. هنا لا يوجد روح الرّبّ. ويسوع يحذّرنا: "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد!"، لا تنبهروا بالفضول السّاذج، ولا تواجهوا الأحداث بخوف بل تعلّموا قراءة الأحداث بعيون الإيمان، واثقين من أنّكم بالقرب من الله "لَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم".

إذا كان تاريخ البشريّة مليئًا بأحداث مأساويّة، وحالات ألم، وحروب، وثورات، ومصائب، لكن صحيح أيضًا- يقول يسوع– إنَّ هذه ليست النِّهاية؛ وليست سببًا وجيهًا لكي نسمح للخوف بأن يُشلَّنا أو لكي نستسلم لانهزاميّة الّذين يعتقدون أنّ كلّ شيء قد ضاع وأنّه من غير المجدي أن نلتزم في الحياة. إنَّ تلميذ الرّبّ لا يسمح للخضوع بأن يستنفده، ولا يستسلم للإحباط حتّى في المواقف الأكثر صعوبة، لأنّ إلهه هو إله القيامة والرّجاء، الّذي يرفعه على الدّوام: معه يمكننا على الدّوام أن نرفع نظرنا مجدّدًا وأن نبدأ مجدّدًا وننطلق من جديد. وبالتّالي فالمسيحيّ يسأل نفسه أمام التّجربة: "ماذا يقول الرّبّ لنا من خلال هذه الأزمة؟" وبينما تحدث الأحداث الشّرّيرة الّتي تولِّد الفقر والمعاناة، يسأل نفسه: "ما هو الخير الّذي يمكنني فعله بشكل ملموس؟".

ليس من باب الصّدفة أن تكون الوصيّة الثّانية ليسوع، بعد "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد!"، بصيغة إيجابيّة. فهو يقول: "سيُتاحُ لكم أَن تُؤَدُّوا الشَّهادَة". فرصة للشّهادة. أودّ أن أُسلِّط الضّوء على هذه الكلمة الجميلة: فرصة. هذا يعني وجود فرصة لفعل شيء جيّد انطلاقًا من ظروف الحياة، حتّى عندما لا تكون مثاليّة. إنّه فنّ مسيحيّ نموذجيّ جميل: ألا نبقى ضحايا لما يحدث، وإنّما أن نغتنم الفرصة الّتي تختبئ في كلّ ما يحدث لنا، الخير الّذي يمكن بناؤه حتّى انطلاقًا من مواقف سلبيّة. كلّ أزمة هي إمكانيّة وتوفِّر فرصًا للنّموّ. ونحن ندرك ذلك إذا أعدنا قراءة قصّتنا الشّخصيّة: في الحياة، غالبًا ما يتمّ اتّخاذ الخطوات الأكثر أهمّيّة نحو الأمام في أزمات معيّنة، أو مواقف اختبار، وفقدان السّيطرة، وانعدام الأمن. وبالتّالي، نفهم الدّعوة الّتي يوجّهها يسوع اليوم مباشرة لي ولك ولكلّ واحد منّا: بينما ترى حقائق مروّعة من حولك، بينما تتصاعد الحروب والصّراعات، بينما تحدث الزّلازل والمجاعات والأوبئة، أنت ماذا تفعل هل تشتّت انتباهك بعدم التّفكير في الأمر؟ هل تستمتع بعدم التّورّط؟ هل تلتفت إلى الجهة الأخرى لكي لا ترى؟ هل تتأقلم بخنوع واستسلام لما يحدث؟ أو تصبح هذه المواقف مناسبات لك لكي تشهد للإنجيل؟

أيّها الإخوة والأخوات، في هذا اليوم العالميّ للفقراء، تشكّل كلمة يسوع تحذيرًا قويًّا لكسر ذلك الصّمم الدّاخليّ الّذي يمنعنا من سماع صرخة ألم الضّعفاء الخانقة. نحن نعيش اليوم أيضًا في مجتمعات جريحة ونشهد كما أخبرنا الإنجيل، على سيناريوهات عنف وظلم واضطهاد؛ كذلك علينا أن نواجه الأزمة النّاتجة عن تغيّر المناخ والوباء، والّتي خلَّفت وراءها أمراضًا ليس فقط جسديّة، وإنّما أيضًا نفسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. نرى اليوم أيضًا شعوبًا تنتفض ضدّ شعوب أخرى ونشهد بقلق على اتّساع نطاق الصّراعات وبلاء الحرب الّتي تسبّب موت العديد من الأبرياء وتضاعف سمّ الكراهيّة. اليوم أيضًا، أكثر بكثير من الأمس، يهاجر العديد من الإخوة والأخوات، المُمتحنين والمُثبطين، بحثًا عن الأمل، ويعيش الكثير من الأشخاص في حالة من الهشاشة بسبب نقص فرص العمل أو ظروف العمل غير العادلة وغير الكريمة. واليوم أيضًا، لا يزال الفقراء ضحايا كلِّ أزمة. لكن إذا كانت قلوبنا مغلقة وغير مبالية، فلن نتمكّن من أن نسمع صرخة ألمهم الخافتة، وأن نبكي معهم ومن أجلهم، وأن نرى مدى الوحدة والألم المختبئَين أيضًا في زوايا مدننا المنسيّة.

لنتبنّى دعوة الإنجيل القويّة والواضحة بألّا نسمح لأحد بأن يضلّلنا. لا نصغينَّ إلى أنبياء البلاء ولا نسمحنَّ بأن تسحرننا صفّارات الإنذار الشّعبويّة، الّتي تستغلّ احتياجات الشّعب وتقترح حلولاً سهلة وسريعة. لا نتبعنَّ المسحاء الدّجّالين الّذين، باسم الرّبح، يعلنون وصفات مفيدة فقط لزيادة ثروة القليلين، ويحكمون على الفقراء بالتّهميش. وإنّما لنقدّم شهادة ونضيء أنوار الرّجاء في وسط الظّلمة، ولنغتنم في المواقف المأساويّة فرصًا لكي نشهد لإنجيل الفرح ونبني عالمًا أكثر أخوّة؛ لنلتزم بشجاعة من أجل العدالة والشّرعيّة والسّلام ونقف إلى جانب الأشخاص الأشدّ ضعفًا. ولا نهربنَّ لكي ندافع عن أنفسنا من التّاريخ، وإنّما لنكافح لكي نعطي هذا التّاريخ وجهًا مختلفًا.

تأين يمكننا أن نجد القوّة لهذا كلِّه؟ في الثّقة بالله الّذي هو أب ويسهر. إذا فتحنا له قلوبنا، فسوف ينميِّ فينا القدرة على الحبّ. إنَّ يسوع في الواقع، بعد أن تحدّث عن سيناريوهات العنف والرّعب، خلص إلى القول: "لَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم". علينا أن نكرّر هذا دائمًا لأنفسنا، لاسيّما في اللّحظات المؤلمة: الله أب وهو إلى جانبي، يعرفني ويحبّني، يسهر عليَّ، لا ينام، يعتني بي ومعه لَن تُفقَدَ حتى شَعْرَةٌ مِن رأسي.

بما أنّنا محبوبون، لنقرّر أن نحبّ الأبناء المهمّشين، ولنعتني بالفقراء، الّذين يحضر فيهم يسوع، الّذي افتقر لأجلنا. لنشعر بأنّنا مدعوّون لكي لا تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رؤوسهم. لا يمكننا أن نبقى، مثل الّذين يتحدّث عنهم الإنجيل، مُعجبين بحجارة الهيكل الجميلة، بدون أن نعترف بهيكل الله الحقيقيّ، الإنسان، ولاسيّما الفقير، الّذي في وجهه وفي تاريخه وفي جراحه يحضر يسوع. هو قد قال ذلك فلا ننسينّ ذلك أبدًا."