البابا فرنسيس: لنصلّ لكي لا نتعب من أن نشهد للإنجيل حتّى في أوقات الضّيق
وفي هذا السّياق، وبحسب "فاتيكان نيوز"، وقال البابا: "بعد أن أخذنا بعين الاعتبار شهادة القدّيس بولس، "بطل" الحماس الرّسوليّ الحقيقيّ، يتوجّه نظرنا اليوم لا إلى شخصيّة واحدة، بل إلى صفوف الشّهداء، رجال ونساء من جميع الأعمار واللّغات والأمم بذلوا حياتهم من أجل المسيح. بعد جيل الرّسل، كانوا هم بامتياز "شهود" الإنجيل. كان أوَّلهم الشّمّاس اسطفانوس الّذي رُجم خارج أسوار أورشليم. تأتي كلمة "شهيد" من كلمة "martyria" اليونانيّة، والّتي تعني الشّهادة. ومع ذلك، سرعان ما استُخدِمت كلمة شهيد في الكنيسة للإشارة إلى الشّخص الّذي كان يشهد حتّى سفك الدّمّ.
لكن لا يجب أن يُنظر إلى الشّهداء كـ"أبطال" تصرّفوا بشكل فرديّ، وكزهور تنبت في الصّحراء، وإنّما كثمار ناضجة وممتازة من كرم الرّبّ، الّذي هو الكنيسة. بشكل خاصّ، من خلال مشاركتهم المثابرة في الإفخارستيّا، كان الرّوح القدس يقود المسيحيّين لكي يقيموا حياتهم على أساس سرّ الحبّ هذا: أيّ على حقيقة أنّ الرّبّ يسوع قد بذل حياته من أجلهم، وبالتّالي كان بإمكانهم، لا بل كان عليهم، أن يبذلوا حياتهم من أجله ومن أجل الإخوة. يُسلِّط القدّيس أوغسطينوس غالبًا الضّوء على ديناميكيّة الامتنان وتبادل العطايا المجّانيّ. هذا على سبيل المثال، ما وعظ به بمناسبة عيد القدّيس لورنسيوس: "كان القديس لورنسيوس شمّاسًا في كنيسة روما. حيث كان خادمًا لدم المسيح وسفك دمه هناك باسم المسيح. شرح الطّوباويّ يوحنّا الرّسول بوضوح سرّ العشاء الرّبّانيّ قائلاً: "كما بَذَلَ المسيح نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا". لقد فهم لورنسيوس، أيّها الإخوة، هذا كُلَّه. لقد فهم ذلك ووضعه موضع التّنفيذ. وقد بادل فعلاً ما ناله على تلك المائدة. أحبّ المسيح في حياته، وتشبّه به في موته". هكذا شرح القدّيس أوغسطينوس الدّيناميكيّة الرّوحيّة الّتي كانت تحرِّك الشّهداء.
اليوم أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء نتذكّر جميع الشّهداء الّذين رافقوا حياة الكنيسة. فهم كما سبق أن قلت مرّات عديدة، أكثر عددًا في زمننا ممّا كانوا عليه في القرون الأولى. ويذكّرنا المجمع الفاتيكانيّ الثّاني بأنّ "الاستشهاد الّذي فيه يُصبح التّلميذ شبيهًا بمعلّمه الّذي قَبِلَ الموت بكلّ حرّيّة لأجل خلاص العالم، والّذي يُصبح شبيهًا به في إهراق دمه لتعتبره الكنيسة عطيّةً ساميةً، وامتحانَ المحبّةِ المُطلق". إنّ الشّهداء، تشبُّهًا بيسوع وبفضله، يجعلون عنف الّذين يرفضون الإعلان مناسبة سُميا للحبّ، الّذي يصل إلى حدّ مسامحة قَتَلَتِه.
على الرّغم من أنّ الاستشهاد "لم يُعط إلّا لعددٍ قليلٍ، إنَّما على الكلّ أن يكونوا على استعداد ليعترفوا بالمسيح أمام النّاس، وليتبعوه على درب الصّليب عبر الاضطهادات الّتي لا تغيب في الكنيسة أبدًا". بهذه الطّريقة يُظهر لنا الشّهداء أنّ كلَّ مسيحيّ مدعوّ لكي يشهد للحياة، حتّى وإن لم يصل به الأمر إلى إراقة الدّماء، ولكي يجعل من نفسه عطيّة لله والإخوة تشبُّهًا بيسوع.
أُريد أن أذكِّر بالشّهادة المسيحيّة الحاضرة في كلّ زاوية من زوايا العالم. أفكّر، على سبيل المثال، في اليمن، أرض تجرحها منذ سنوات عديدة حرب رهيبة ومنسيّة تسبّبت في الكثير من الموتى ولا تزال حتّى اليوم تجعل الكثير من النّاس يتألَّمون، ولاسيّما الأطفال. في هذه الأرض بالتّحديد، كانت هناك شهادات إيمان منيرة، مثل شهادة الرّاهبات مرسلات المحبّة، اللّواتي لا تزلن اليوم حاضرات في اليمن حيث تُقدِّمن المساعدة للمرضى المسنّين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة. يستقبلنَ الجميع، من أيّ دين كانوا، لأنّ المحبّة والأخوّة لا تعرفان الحدود. في تمّوز يوليو ١٩٩٨، قُتلت الأخت أليتا والأخت زيليا والأخت ميكاييل على يد شخص متعصّب بينما كُنَّ عائدات إلى البيت بعد القدّاس. في الآونة الأخيرة، بعد وقت قصير من اندلاع الصّراع القائم، في آذار مارس ٢٠١٦، قُتلت الأخت أنسيلم، والأخت مارغريت، والأخت ريجينيت، والأخت جوديت مع بعض العلمانيّين الّذين كانوا يساعدونهنَّ في أعمال المحبّة بين الأخيرين. من بين هؤلاء العلمانيّين الّذين قُتلوا، بالإضافة إلى المسيحيين، كان هناك مؤمنون مسلمون كانوا يعملون مع الرّاهبات. نتأثَّر لدى رؤيتنا كيف يمكن لشهادة الدّمّ أن توحّد أشخاصًا من أديان مُختلفة. لا يجب أن يُقتل أبدًا باسم الله، لأنّنا جميعًا إخوة وأخوات بالنّسبة له. لكنّنا معًا يمكننا أن نبذل حياتنا في سبيل الآخرين.
لنصلِّ إذًا لكي لا نتعب من أن نشهد للإنجيل حتّى في أوقات الضّيق. ليكن جميع القدّيسين والقدّيسات الشّهداء بذار سلام ومصالحة بين الشّعوب من أجل عالم أكثر إنسانيّة وأخوّة، في انتظار أن يظهر بالكامل ملكوت السّماوات، عندما سيكون الله الكُلَّ في الكُل".