الفاتيكان
02 كانون الثاني 2025, 07:30

البابا فرنسيس: لنرفع نظرة قلوبنا إلى مريم

تيلي لوميار/ نورسات
"في بداية عام جديد يمنحه الرّبّ لحياتنا، من الجميل أن نرفع نظرة قلوبنا إلى مريم. فهي في الواقع، لكونها أمًّا، تذكّرنا بالعلاقة مع الابن: تعيدنا إلى يسوع، وتحدّثنا عن يسوع، وتقودنا إلى يسوع. وهكذا، فإنّ عيد العذراء مريم الكلّيّة القداسة أمّ الله يجعلنا نغوص مجدّدًا في سرّ الميلاد: الله صار واحدًا منّا في أحشاء مريم، ويُذكّرنا اليوم نحن الّذين فتحنا الباب المقدّس لكي نبدأ اليوبيل، بأنّ "مريم هي الباب الّذي دخل منه المسيح إلى هذا العالم".

بهذه الكلمات استهلّ البابا فرنسيس عظته الأولى لعام 2025، خلال ترؤّسه قدّاس عيد القدّيسة مريم أمّ الله واليوم العالميّ الثّامن والخمسين للسّلام الّذي يُحتفل به تحت عنوان "أَعْفِنا مِمَّا علَينا، وامنحنا سلامك"، في بازيليك القدّيس بطرس.

وتابع البابا عظته قائلًا بحسب "فاتيكان نيوز": "يلخّص بولس الرّسول هذا السّرّ بقوله: "أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة". هذه الكلمات– "مولودًا لامرأة"– يتردّد صداها اليوم في قلوبنا ويذكّرنا بأنّ يسوع، مخلّصنا، قد صار جسدًا ويُظهر لنا نفسه في ضعف الجسد. "مولودًا لامرأة". هذه العبارة تعيدنا أوّلًا إلى الميلاد: الكلمة صار جسدًا. ويوضح بولس الرّسول أنّه وُلد من امرأة، وكأنّه يشعر بالحاجة إلى أن يُذكِّرنا بأنّ الله قد صار إنسانًا حقيقيًّا من خلال حشًا بشريّ. هناك تجربة اليوم تجذب العديد من الأشخاص، وقد تُغري العديد من المسيحيّين أيضًا، وهي أن نتصوّر أو نصنع إلهًا "مجرّدًا"، يرتبط بفكرة دينيّة غامضة أو بشعور عابر. ولكن، يسوع وُلد من امرأة، وله وجه واسم، ويدعونا لإقامة علاقة معه. إنَّ المسيح يسوع، مخلّصنا، قد وُلد من امرأة؛ وله جسد ودم؛ لقد جاء من حضن الآب، ولكنّه تجسّد في حشا العذراء مريم؛ جاء من أعلى السّماوات لكنّه أقام في أعماق الأرض؛ هو ابن الله، ولكنّه صار ابن الإنسان. هو صورة الله القادر على كلّ شيء، وقد جاء في الضّعف؛ وعلى الرّغم من كونه بلا خطيئة، "جعله الله خطيئة من أجلنا". وُلد من امرأة، وهو واحد منّا: ولهذا يمكنه أن يخلِّصنا.

"مولودًا لامرأة". هذه العبارة تحدّثنا أيضًا عن إنسانيّة المسيح، لكي تقول لنا إنّه يُظهر لنا نفسه في ضعف الجسد. وإذا نزل في حشا امرأة، وُلد مثل جميع المخلوقات، وأظهر نفسه في هشاشة طفل. لهذا السّبب، عندما ذهب الرّعاة ليروا بأعينهم ما أعلنه لهم الملاك، لم يجدوا علامات خارقة أو مظاهر عظيمة، بل "وجدوا مريمَ ويوسُفَ والطِّفلَ مُضجَعًا في المِذوَد". وجدوا طفلًا حديث الولادة أعزلًا، ضعيفًا، معوزًا إلى رعاية أمّه، يحتاج إلى الأقمطة والحليب، إلى الحنان والحبّ. يقول القدّيس لويس ماري غرينيون دي مونفور إنّ الحكمة الإلهيّة "لم تشأ، رغم قدرتها على ذلك، أن تُعطي نفسها مباشرة للبشر، بل فضّلت أن تُعطي نفسها من خلال العذراء القدّيسة. ولم تشأ أن تأتي إلى العالم في عمر الإنسان الكامل، المستقلّ عن الآخرين، بل كطفل فقير وصغير، يحتاج إلى رعاية ودعم أمّه".

وفي حياة يسوع بأسرها، يمكننا أن نرى خيار الله هذا، خيار الصّغر والخفاء. فهو لم يرضخ أبدًا لسحر القوّة الإلهيّة لكي يصنع علامات عظيمة ويفرض نفسه على الآخرين كما اقترح عليه الشّيطان، لكنّه كشف محبّة الله في جمال إنسانيّته، إذ أقام بيننا، وشاركنا الحياة العاديّة المليئة بالمشقّات والأحلام، وأظهر الشّفقة على آلام الجسد والرّوح، ففتح أعين العميان، وقوّى القلوب الضّائعة. إنَّ يسوع يُظهر لنا الله من خلال إنسانيّته الضّعيفة الّتي تعتني بالضّعفاء.

أيّها الإخوة والأخوات، من الجميل أن نفكّر في أنّ مريم، فتاة النّاصرة، تعيدنا دائمًا إلى سرّ ابنها، يسوع. فهي تذكّرنا بأنّ يسوع جاء في الجسد، ولذلك فإنّ المكان المميّز للقائه هو أوّلًا حياتنا، وإنسانيّتنا الهشّة، وإنسانيّة كلِّ من يمرّ كلّ يوم بقربنا. وإذ ندعوها أمّ الله، نؤكّد أنّ المسيح وُلد من الآب، لكنّه وُلد حقًّا من حشا امرأة. نؤكّد أنّه ربّ الزّمن ولكنّه يقيم في زماننا هذا، وحتّى في هذا العام الجديد، بحضوره المحبّ. نؤكّد أنّه مخلّص العالم، ولكن يمكننا أن نلتقيه ويجب أن نبحث عنه في وجه كلّ إنسان. وإذا كان هو، ابن الله، قد صار صغيرًا لكي تحمله أمّه بين ذراعيها، ولكي تعتني به وتُرضعه، فهذا يعني أنّه ما زال يأتي اليوم في جميع الّذين يحتاجون إلى الرّعاية عينها: في كلّ أخت وأخ نلتقي بهما ويحتاجان إلى الانتباه والإصغاء، والحنان.

لذلك لنوكل هذا العام الجديد الّذي ينفتح أمامنا، إلى العذراء مريم، أمّ الله، لكي نتعلّم نحن أيضًا مثلها أن نجد عظمة الله في صغر الحياة؛ ولكي نتعلّم أن نعتني بكلّ مخلوق وُلد من امرأة، ولاسيّما من خلال حماية عطيّة الحياة الثّمينة، كما تفعل مريم: الحياة في الحشا الوالديّ، وحياة الأطفال، وحياة الّذين يتألّمون، وحياة الفقراء، وحياة المسنّين، وحياة الوحيدين والّذين يحتضرون. واليوم، في اليوم العالميّ للسّلام، هذه الدّعوة الّتي تنبع من قلب مريم الوالديّ هي موجّهة إلينا جميعًا: أن نحافظ على الحياة، أن نعتني بالحياة الجريحة، أن نعيد الكرامة إلى حياة كلّ "مولود من امرأة"، لأنّ هذا هو الأساس الضّروريّ لبناء حضارة السّلام. ولهذا، "أطلب التزامًا ثابتًا لتعزيز احترام كرامة الحياة البشريّة، منذ الحبل بها وحتّى موتها الطّبيعيّ، لكي يتمكّن كلّ إنسان من أن يحبّ حياته وينظر إلى المستقبل برجاء".

إنَّ مريم، أمّ الله وأمّنا، تنتظرنا هناك في المغارة. وتظهر لنا نحن أيضًا، كما أظهرت للرّعاة، الإله الّذي يفاجئنا على الدّوام، والّذي لا يأتي في مجد السّماوات، بل في بساطة المذود. لنوكل إليها هذا العام اليوبيليّ الجديد، ولنضع بين يديها أسئلتنا، ومخاوفنا، آلامنا، وأفراحنا، وكلّ ما نحمله في قلوبنا. ولنوكل إليها العالم بأسره، لكي يولد الرّجاء مجدّدًا، ولكي يزهر أخيرًا السّلام لجميع شعوب الأرض."

وكان البابا فرنسيس قد ترأّس عصر الثّلاثاء صلاة الغروب في بازيليك القدّيس بطرس، عشية عيد القدّيسة مريم والدة الله.