الفاتيكان
20 تشرين الثاني 2023, 07:30

البابا فرنسيس: لنتاجر بالمحبّة، لنتقاسم خبزنا، ولنضاعف الحبّ!

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة اليوم العالميّ السّابع للفقراء، ترأّس البابا فرنسيس صباح الأحد القدّاس الإلهيّ في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، دعا خلاله إلى "أن نصبح عطيّة للآخرين" بخاصّة أنّنا "نلنا من الرّبّ عطيّة محبّته".

دعوته هذه جاءت في عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "وجد ثلاثة رجال أنفسهم مع ثروة هائلة بين أيديهم، وذلك بفضل سخاء سيّدهم الّذي كان منطلقًا في رحلة طويلة. ولكن ذلك السّيّد سيعود يومًا ما وسيستدعي هؤلاء العبيد مجدّدًا، على أمل أن يتمكّن من أن يفرح معهم لأنّهم جعلوا وزناته تُثمر في هذه الأثناء. يدعونا المثل الّذي سمعناه إذن لكي نتوقّف عند مسيرتين: رحلة يسوع ورحلة حياتنا.

رحلة يسوع: في بداية المثل، يتحدّث يسوع عن "رَجُلٍ أَرادَ السَّفَر، فدعا عبيدَه، وسَلَّمَ إِلَيهِم أَموالَه". هذه "الرّحلة" تجعلنا نفكّر في سرّ المسيح نفسه، الله الّذي صار إنسانًا، وفي قيامته وصعوده إلى السّماء. في الواقع، هو الّذي نزل من حضن الآب لكي يأتي للقاء البشريّة، بموته حطّم الموت، وبقيامته عاد إلى الآب. وبالتّالي في ختام حياته الأرضيّة، أتمَّ يسوع "رحلة العودة" إلى الآب. ولكن، قبل أن يغادر، أعطانا خيوره، "رأس مال" حقيقيّ: لقد ترك لنا ذاته في الإفخارستيّا، وكلمته، كلمة الحياة، وأمّه القدّيسة كأمٍّ لنا، ووزّع مواهب الرّوح القدس لكي نتمكّن من أن نواصل عمله في العالم. هذه "المواهب"- يحدّد الإنجيل- تُعطى لكلّ واحد منّا عَلى قَدرِ طاقَتِهِ، وبالتّالي من أجل رسالة شخصيّة يوكلها الرّبّ إلينا في الحياة اليوميّة وفي المجتمع وفي الكنيسة. وهذا ما يؤكّده الرّسول بولس أيضًا: "كلّ واحد منّا أعطي نصيبه من النّعمة على مقدار هبة المسيح. فقد ورد في الكتاب: صعد إلى العلى فأخذ أسرى وأعطى النّاس العطايا".

لنحدق نظرنا مرّة أخرى إلى يسوع، الّذي نال كلّ شيء من يدي الآب، لكنّه لم يحتفظ بهذا الغنى لنفسه، و"لم يُعِدَّ مساواته لله غنيمةً، بل تجرَّد من ذاته مُتّخذًا صورة العبد". لقد أخذ بشريّتنا الهشّة، وضمّد جراحنا مثل السّامريّ الصّالح، وافتقر لكي يغنينا بالحياة الإلهيّة، وصعد على الصّليب. وهو الّذي لم يعرف الخطيئة "جعله الله خطيئة من أجلنا". من أجلنا. لقد عاش يسوع من أجلنا، وفي سبيلنا. وهذا ما حرّك رحلته إلى العالم قبل أن يعود إلى الآب.

لكن مثل اليوم يخبرنا أيضًا أنّه "وَبَعدَ مُدَّةٍ طَويلَة، رَجَعَ سَيِّدُ أولَئِكَ العَبيدِ وَحاسَبَهُم". في الواقع، إنَّ الرّحلة الأولى نحو الآب ستتبعها رحلة أخرى سيقوم بها يسوع في نهاية الأزمنة، عندما سيعود في المجد وسيريد أن يلتقي بنا مرّة أخرى، "ليقيّم" التّاريخ ويدخلنا إلى فرح الحياة الأبديّة. لذا، علينا أن نسأل أنفسنا: كيف سيجدنا الرّبّ عندما سيعود؟ كيف سأقدّم نفسي في الموعد معه؟

يقودنا هذا السّؤال إلى اللّحظة الثّانية: رحلة حياتنا. أيّ درب نسير، درب يسوع الّذي جعل من نفسه عطيّة أم درب الأنانيّة؟ يخبرنا المثل أنّ كلّ واحد منّا، بحسب قدراته وإمكانيّاته، قد نال "وزنات". ولكن تنبّهوا: لا نسمحنَّ للّغة المشتركة أن تخدعنا: نحن لا نتحدّث هنا عن القدرات الشّخصيّة، وإنّما كما قلنا، عن خيور الرّبّ، عمّا تركه لنا المسيح بعودته إلى الآب. ومع هذه الخيور منحنا روحه، الّذي به صرنا أبناء الله، والّذي بفضله يمكننا أن نبذل حياتنا في الشّهادة للإنجيل وبناء ملكوت الله. إنَّ "رأس المال" العظيم الّذي وُضِع بين أيدينا هو محبّة الرّبّ أساس حياتنا وقوّة مسيرتنا. ولذلك علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا أفعل بهذه العطيّة العظيمة طوال رحلة حياتي؟ يخبرنا المثل أنّ الخادمين الأوّلين قد ضاعفا العطيّة الّتي نالاها، أمّا الثّالث، بدلاً من أن يثق بسيّده، خاف منه وبقي كمشلول، لا يخاطر، ولا يلتزم، وانتهى به الأمر بدفن الوزنة. وهذا الأمر ينطبق علينا أيضًا: يمكننا أن نضاعف ما نلناه، ونجعل من حياتنا ذبيحة محبّة للآخرين، أو يمكننا أن نعيش تُعيقنا صورة زائفة عن الله، فندفن الكنز الّذي نلناه بسبب الخوف، ونفكّر فقط في أنفسنا، دون أن نشعر بالشّغف لأيّ شيء آخر غير راحتنا ومصالحنا، وبدون أن نلتزم.

أيّها الإخوة والأخوات، في هذا اليوم العالميّ للفقراء، يشكّل مثل الوزنات تحذيرًا لكي نتحقّق بأيّ روح نواجه رحلة الحياة. لقد نلنا من الرّبّ عطيّة محبّته ونحن مدعوّون لنصبح عطيّة للآخرين. إنّ المحبّة الّتي اعتنى بها يسوع بنا، وزيت الرّحمة والرّأفة الّذي شفى به جراحنا، وشعلة الرّوح الّتي فتح بها قلوبنا على الفرح والرّجاء، هي خيرات لا يمكننا أن نحتفظ بها لأنفسنا فقط، أو أن نديرها بمفردنا أو ندفنها. إذ تملؤنا العطايا، نحن مدعوّون لكي نجعل من أنفسنا عطايا. إنَّ الصّور الّتي يستخدمها المثل بليغة جدًّا: إذا لم نضاعف المحبّة حولنا، تتلاشى الحياة في الظّلام؛ إذا لم نتاجر بالوزنات الّتي نلناها، تُدفن الحياة، أيّ نصبح وكأنّنا أموات فعلاً.

لنفكّر إذن في أشكال الفقر المادّيّة والثّقافيّة والرّوحيّة العديدة في عالمنا، وفي الأرواح الجريحة الّتي تسكن مدننا، وفي الفقراء الّذين أصبحوا غير مرئيّين، والّذين تختنق صرخة ألمهم بسبب اللّامبالاة العامّة لمُجتمع مشغول ومشتّت. لنفكّر في المُضطَهَدين والمتعبين والمهمَّشين، بضحايا الحروب وبالّذين يتركون أرضهم ويخاطرون بحياتهم؛ وبالّذين هم بلا خبز وبلا عمل وبلا رجاء. من خلال التّفكير في هذا العدد الهائل من الفقراء، تصبح رسالة الإنجيل واضحة: لا ندفِنَنَّ خيور الرّبّ! لنتاجر بالمحبّة، لنتقاسم خبزنا، ولنضاعف الحبّ! الفقر هو عار وفضيحة. عندما سيعود الربّ سيحاسبنا، كما يكتب القدّيس أمبروسيوس، وسيقول لنا: "لماذا سمحتم بأن يموت هذا العدد الكبير من الفقراء جوعًا، بينما كان لديكم الذّهب الّذي يمكنكم من خلاله أن تؤمِّنوا الطّعام لهم؟ ولماذا قام الأعداء ببيع الكثير من العبيد وأساؤوا معاملتهم، دون أن يفعل أحد منكم شيئًا لكي يخلِّصهم؟".

لنصلِّ لكي يلتزم كلّ واحد منّا، بحسب العطيّة الّتي نالها والرّسالة الموكلة إليه، بـأن يجعل المحبّة تُثمر وبأن يكون قريبًا من شخص فقير. لنصلِّ لكي نتمكّن نحن أيضًا، في نهاية رحلتنا، بعد أن نكون قد قبلنا المسيح في هؤلاء الإخوة والأخوات، الّذين تشبّه بهم، أن نسمعه يقول لنا: "أَحسَنتَ أَيُّها العَبدُ الصّالِحُ الأَمين... أُدخُل نَعيمَ سَيِّدِك"."