الفاتيكان
24 تشرين الثاني 2020, 09:45

البابا فرنسيس للشّباب: أصرخوا بحياتكم أنّ المسيح يحيا ويملك

تيلي لوميار/ نورسات
تلك هي دعوة البابا فرنسيس للشّباب، خلال قدّاس عيد يسوع الملك الّذي ترأّسه في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، وتسلّم خلاله شباب البرتغال رموز الأيّام العالميّة للشّبيبة المرتقب في ليشبونة عام 2023.

وللمناسبة ألقى البابا عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "ما سمعناه للتّوّ هو الصّفحة الأخيرة من إنجيل القدّيس متّى قبل الآلام: قبل أن يعطينا حبّه على الصّليب، يعطينا يسوع إرادته الأخيرة. يخبرنا أنّ الخير الّذي سنصنعه لأحد إخوته الصّغار– جياع، عطاش، غرباء، محتاجون، مرضى، ومساجين– سنكون قد صنعناه له. هكذا يسلّمنا الرّبّ قائمة الهدايا الّتي يرغب فيها في العرس الأبديّ معنا في السّماء. إنّها أعمال الرّحمة الّتي تجعل حياتنا أبديّة. يمكن لكلّ منّا أن يسأل نفسه: هل أضعها موضع التّنفيذ؟ هل أفعل شيئًا للمحتاجين؟ أم أفعل الخير للأحبّاء والأصدقاء فقط؟ هل أساعد شخصًا لا يمكنه مبادلتي؟ هل أنا صديق لشخص فقير؟ يقول لك يسوع: "أنا هناك"، "أنا أنتظرك هناك، حيث لا يمكنك أن تتخيّل وحيث ربّما لا تريد حتّى أن تنظر، هناك في الفقراء". أنا هناك، حيث الفكر السّائد، بأنّ الحياة تكون على ما يرام إذا كانت أموري تسير بشكل جيّد. أنا هناك، يقول لك يسوع أيضًا، أنت أيّها الشّابّ الّذي تحاول تحقيق أحلام الحياة.

لقرون خلت قال يسوع لجندي شابّ: أنا هناك. كان يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا ولم يكن قد نال سرّ المعموديّة بعد. وفي أحد الأيّام رأى رجلاً فقيرًا يطلب المساعدة من النّاس، ولكنّه لم يكن يتلقّاها من أحد، لأنّ الجميع كانوا يميلون عنه ويمضون. وذلك الشّابّ، إذ رأى أنّ الآخرين لم تحرّكهم الشّفقة، فهم أنّ ذلك الرّجل الفقير كان قد حُفظ له. لكن لم يكن معه شيء سوى زيّ العمل الخاصّ به، فشقَّ رداءه وأعطى نصفه للفقير، معرّضًا ذاته لسخرية بعض الّذين كانوا حوله. وفي اللّيلة التّالية راوده حلم: رأى يسوع مرتديًا جزء الرّداء الّذي لفّ به الرّجل الفقير. وسمعه يقول: "لقد غطّاني مارتينو بهذا الرّداء". كان القدّيس مارتينو شابًّا راوده ذلك الحلم لأنّه عاشه، دون أن يعرف ذلك، تمامًا مثل الأبرار في إنجيل اليوم.

أيّها الشّباب الأعزّاء، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لا نتخلَّينَ أبدًا عن الأحلام الكبيرة. ولا نكتفينَّ بما هو واجب. إنَّ الرّبّ لا يريدنا أن نضيِّق آفاقنا، ولا يريدنا أن نقف على جوانب الحياة، بل أن نركض نحو أهداف عالية بفرح وشجاعة. نحن لم نُخلق لكي نحلُم بالإجازات أو بعطلات نهاية الأسبوع، وإنّما لكي نحقّق أحلام الله في هذا العالم. لقد جعلنا قادرين على أن نحلم لكي نعانق جمال الحياة. وأعمال الرّحمة هي أجمل أعمال الحياة. إذا كنت تحلم بالمجد الحقيقيّ، ليس بمجد العالم الّذي يأتي ويذهب، وإنّما بمجد الله، فهذا هو الطّريق. لأنّ أعمال الرّحمة تمجّد الله أكثر من أيّ شيء آخر.

ولكن من أين نبدأ لكي نحقّق الأحلام الكبيرة؟ من الخيارات العظيمة. يحدّثنا إنجيل اليوم أيضًا عن هذا الأمر. في الواقع، في لحظة الدّينونة الأخيرة، يعتمد الرّبّ على خياراتنا. يكاد يبدو أنّه لا يحكم: هو يفصل الخراف عن الجداء، لكن كوننا صالحين أو اشرارًا متعلِّقٌ بنا. هو يستخرج فقط عواقب خياراتنا، ويبرزها ويحترمها. وبالتّالي فالحياة هي زمن الخيارات القويّة والحاسمة والأبديّة. إنَّ الخيارات التّافهة تؤدّي إلى حياة تافهة، والخيارات العظيمة تجعل الحياة عظيمة. في الواقع، نحن نصبح ما نختاره، في الخير والشّرّ. إذا اخترنا السّرقة، نصبح لصوصًا، وإذا اخترنا التّفكير في أنفسنا، نصبح أنانيّين، وإذا اخترنا أن نكره، نصبح غضوبين، وإذا اخترنا قضاء ساعات أمام الهاتف الخليويّ، نصبح مدمنين. لكن إذا اخترنا الله نصبح محبوبين يوميًّا وإذا اخترنا أن نحبّ نصبح سعداء. نعم، لأنّ جمال الخيارات يعتمد على الحبّ. ويسوع يعرف أنّنا إذا عشنا منغلقين وغير مبالين فإنّنا سنبقى مشلولين، ولكن إذا بذلنا أنفسنا في سبيل الآخرين نصبح أحرارًا. إنَّ ربّ الحياة يريدنا مُفعمين بالحياة ويعطينا سرّ الحياة: لا يمكن امتلاك الحياة إلّا من خلال منحها للآخرين.

لكن هناك عقبات تجعل الخيارات صعبة: غالبًا ما يكون الخوف، وانعدام الأمن، والأسئلة بدون أجوبة. لكن الحبّ يطلب منّا أن نذهب أبعد من ذلك، ألّا نبقى معلَّقين بأسئلة الحياة منتظرين أجوبة تصلنا من السّماء. لا، إنّ الحبّ يدفعنا للانتقال من الـ"لماذا" إلى "لمن"، من الـ"لماذا أعيش" إلى "لمن أعيش"، من الـ"لماذا يحدث لي هذا" إلى "لمن يمكنني أن أصنع الخير". لمن؟ ليس فقط لنفسي: إنَّ الحياة مليئة بالخيارات الّتي نتّخذها لأنفسنا، للحصول على شهادة دراسة، وأصدقاء، ومنزل، لإرضاء هواياتنا واهتماماتنا. ولكنّنا نجازف بقضاء سنوات في التّفكير في أنفسنا دون أن نبدأ في الحبّ. لقد قدَّم مانزوني نصيحة جيّدة: "علينا أن نفكّر أكثر في فعل الخير، من أن نكون بحالة جيّدة وبهذه الطّريقة سينتهي بنا الأمر أيضًا إلى أن نكون بحالة أفضل".

ولكن ليس هناك فقط الشّكوك والأسئلة الّتي تقوِّض الخيارات السّخيّة العظيمة، وإنّما هناك أيضًا العديد من العقبات الأخرى. هناك حمى الاستهلاك الّتي تخدِّر القلب بأشياء لا لزوم لها. هناك هوس المرح الّذي يبدو أنّه السّبيل الوحيد للهروب من المشاكل ولكنّه ليس إلّا تأجيلاً للمشكلة. كما أنّنا نتشبّث في المطالبة بحقوقنا الفرديّة وننسى واجب مساعدة الآخرين. ومن ثمَّ هناك الوهم العظيم حول الحبّ، والّذي يبدو وكأنّه شيء يمكن عيشه بالعواطف والـ"أعجبني  (like)"، فيما أنَّ الحبّ هو أوّلاً عطيّة وخيار وتضحية. أن نختار، اليوم بشكل خاصّ، يعني ألّا نسمح للتّجانس بأن يروِّضنا، وألّا نسمح لآليّات الاستهلاك الّتي تعطّل الأصالة بأن تخدّرنا، وإنّما أن نعرف كيف ننبذ المظاهر. إختيار الحياة هو المكافحة ضدَّ ذهنيّة "الاستعمال لمرّة واحدة" وذهنيّة "كلُّ شيء وفورًا"، لكي نوجّه حياتنا نحو هدف السّماء، نحو أحلام الله.

كلّ يوم، تطلّ العديد من الخيارات على باب قلبنا. أرغب في أن أقدّم لكم نصيحة أخيرة لكي تمرّنوا أنفسكم على الاختيار الجيّد. إذا نظرنا إلى داخلنا، نرى أنّ غالبًا ما يظهر فينا سؤالان مختلفان. أحدهما هو: ماذا أريد أن أفعل؟ وهو غالبًا سؤال يخدع، لأنّه يلمِّح إلى أنّ المهمّ هو التّفكير في ذواتنا وإرضاء جميع الرّغبات والنّزوات الّتي تراودنا. لكنَّ السّؤال الّذي يقترحه الرّوح القدس على القلب هو سؤال آخر: ليس ما تحبّ؟ ولكن ما هو الشّيء الّذي يفيدك؟ هنا يكمن الخيار اليوميّ، ماذا أرغب في أن افعل أو ما هو الشّيء الّذي يفيدني؟ من هذا البحث الدّاخليّ يمكن أن تولد خيارات تافهة أو خيارات حياة. لننظر إلى يسوع، ولنطلب منه الشّجاعة لكي نختار ما هو مفيد لنا، ولكي نسير وراءه في طريق الحبّ، ونجد الفرح."

وفي ختام الذّبيحة الإلهيّة وقبل تسليم رموز الأيّام العالميّة للشّباب لشبيبة البرتغال قال الأب الأقدس: "في نهاية هذا الاحتفال الإفخارستيّ، أحيّي بحرارة جميع الحاضرين هنا وجميع الّذين يتابعوننا عبر وسائل الإعلام. أوجّه تحيّة خاصّة إلى شباب باناما وشباب البرتغال، الممثَّلين بوفدين، سيقومان بعد قليل بتسليم الصّليب وأيقونة مريم العذراء "Salus Populi Romani"، رموز الأيّام العالميّة للشّباب. إنّها خطوة مهمّة في الحجّ الّذي سيقودنا إلى لشبونة في عام 2023.

وفيما نستعدّ للنّسخة المقبلة العالميّة لليوم العالميّ للشّباب، أريد أيضًا أن أعيد إطلاق الاحتفال به في الكنائس المحلّيّة. بعد خمسة وثلاثين عامًا من إنشاء اليوم العالميّ للشّباب، وبعد الاستماع إلى آراء مختلفة وإلى دائرة العلمانيّين والعائلة والحياة، المسؤولة عن راعويّة الشّباب، قرّرت، بدءًا من العام المقبل، نقل الاحتفال الأبرشيّ باليوم العالميّ للشّباب من أحد الشّعانين إلى أحد المسيح الملك، ويبقى في المحور سرّ يسوع المسيح فادي الإنسان، كما أكّد على الدّوام القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، مؤسّس وشفيع اليوم العالميّ للشّباب. أيّها الشّباب الأعزّاء، أصرخوا بحياتكم أنّ المسيح يحيا ويملك، وأنَّ المسيح هو الرّبّ! وإن أنتم سَكَتم، أؤكِّّد لكم أنَّ الحِجارَة  سوف تهتف! (راجع لوقا 19/ 40)".