البابا فرنسيس: لإعادة التّفكير مرّة أخرى في ماهيّة الكائن البشريّ
"إنَّ الوباء قد قوّض العديد من الضّمانات الّتي يقوم عليها نموذجنا الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وكشف عن هشاشتها: العلاقات الشّخصيّة، وأساليب العمل، والحياة الاجتماعيّة، وكذلك الممارسة الدّينيّة والمشاركة في الأسرار. لكنّه أيضًا وبشكل خاصّ قد أعاد بقوّة اقتراح الأسئلة الأساسيّة للوجود: السّؤال عن الله والإنسان. لهذا السّبب تأثّرتُ بموضوع جمعيّتكم العامّة: الأنسنة الضّروريّة. في الواقع، في هذه المرحلة من التّاريخ، لا نحتاج فقط إلى برامج اقتصاديّة جديدة أو وصفات جديدة ضدّ الفيروس، وإنّما نحتاج بشكل خاصّ إلى منظور إنسانيّ جديد، يقوم على الوحي البيبليّ، ويُغنيه إرث التّقليد الكلاسيكيّ، وكذلك التّأمّلات حول الشّخص البشريّ الموجود في ثقافات مختلفة.
لقد جعلني مصطلح "أنسنة" أفكّر في الخطاب التّاريخيّ الّذي ألقاه القدّيس بولس السّادس في نهاية المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، في 7 كانون الأوّل ديسمبر عام 1965. والّذي أثار الأنسنة العلمانيّة في ذلك الوقت، والّتي كانت تتحدّى الرّؤية المسيحيّة، وقال: "إنّ دِين الله الّذي صار إنسانًا قد التقى بدِين (لأنّه كذلك) الرّجل الّذي جعل نفسه إلهًا". وبدلاً من أن يدينها ويحتقرها، لجأ البابا إلى نموذج السّامريّ الصّالح الّذي قاد أفكار المجمع، أيّ ذلك التّعاطف الشّديد إزاء الإنسان وإنجازاته، أفراحه وآماله، وشكوكه... أحزانه وبؤسه. وهكذا، دعا بولس السّادس تلك البشريّة المنغلقة على السّموّ لكي تتعرّف على أنسنتنا الجديدة، لأنّه- وكما قال- "نحن أيضًا، أكثر من أيّ شخص آخر، شغوفون بالإنسان".
لقد مرّ منذ ذلك الحين حوالي ستّون سنة. وتلك الأنسنة العلمانيّة- تعبير كان يُلمِّح أيضًا إلى الأيديولوجيّة الشّموليّة الّتي كانت سائدة في ذلك الوقت في العديد من الأنظمة- قد أصبحت الآن ذكرى من الماضي. ففي عصرنا المطبوع بنهاية الأيديولوجيّات، يبدو هذا التّعبير منسيٌّ، ومدفون أمام التّغييرات الجديدة الّتي أحدثتها الثّورة المعلوماتيّة والتّطوّرات المذهلة في إطار العلوم، والّتي تجبرنا على إعادة التّفكير مرّة أخرى في ماهيّة الكائن البشريّ. إنَّ السّؤال حول الأنسنة يولد من هذا السّؤال: ما هو الإنسان، ما هو الكائن البشريّ؟
في زمن المجمع الفاتيكانيّ، تواجهت الأنسنة العلمانيّة، الحلوليّة والمادّيّة مع الأنسنة المسيحيّة المنفتحة على السّموّ. ولكن كان بإمكان كليهما أن تشاركا في أساس مشترك وتقارب أساسيّ حول بعض القضايا الجذريّة المتعلّقة بالطّبيعة البشريّة. أمّا الآن فيغيب هذا الأمر بسبب سيولة الرّؤية الثّقافيّة المعاصرة. لكن على الرّغم من ذلك يبقى الدّستور الرّعائيّ في الكنيسة في عالم اليوم: "فرح ورجاء" في هذا السّياق آنيًّا على الدّوام. فهو يذكّرنا، في الواقع أنّه لا يزال أمام الكنيسة الكثير لتقدّمه للعالم، ويفرض علينا أن ندرك ونقيم بثقة وشجاعة الإنجازات الفكريّة والرّوحيّة والمادّيّة الّتي نشأت منذ ذلك الحين في مختلف قطاعات المعرفة البشريّة.
هناك اليوم ثورة تطال العقد الأساسيّة للحياة البشريّة وتتطلّب جهدًا إبداعيًّا للفكر والعمل على حدّ سواء. إنّ أساليب فهم الإنجاب والولادة والموت تتغيّر من النّاحية الهيكليّة، وبالتّالي فإنَّ خصوصيّة الكائن البشريّ في الخليقة كلّها، وتفرده إزاء الحيوانات الأخرى، وكذلك علاقته بالآلات قد وضِعَت جميعها موضع تساؤل. ولكن لا يمكننا أن نحُدَّ أنفسنا على الدّوام فقط في الإنكار والنّقد. وإنّما، يُطلب منّا أن نُعيد التّفكير في حضور الكائن البشريّ في العالم في ضوء التّقليد الإنسانيّ: كخادم للحياة وليس كسيّدها، كبنَّاء للخير العامّ بقيم التّضامن والرّحمة.
لهذا السّبب وضعتم بعض الأسئلة الأساسيّة في محور تأمُّلكم. فإلى جانب السّؤال حول الله- الّذي يبقى أساسيًّا للحياة البشريّة، كما كان يُذكّر غالبًا البابا بندكتس السّادس عشر- يُطرح اليوم بشكل قاطع السّؤال حول الكائن البشريّ وهويّته. ماذا يعني اليوم الرّجل والمرأة كشخصين متكاملين ومدعوَّين للعلاقة؟ ما هو معنى كلمتي "أبوّة" و"أمومة"؟ ومن ثمَّ، ما هو الوضع الخاصّ للكائن البشريّ والّذي يجعله فريدًا ومميَّزًا إزاء الآلات والأنواع الحيوانيّة الأخرى؟ ما هي دعوته السّامية؟ ومن أين تأتي دعوته لكي يبني علاقات اجتماعيّة مع الآخرين؟
يقدّم لنا الكتاب المقدّس الإحداثيّات الأساسيّة لتحديد أنثروبولوجيا الكائن البشريّ في علاقته مع الله، وفي تعقيد العلاقات بين الرّجل والمرأة، وفي العلاقة بالزّمان والمكان اللّذين يعيش فيهما. إنّ الأنسنة الّتي تجد جذورها في الكتاب المقدّس، والّتي هي في حوار خصب مع قيم الفكر اليونانيّ واللّاتينيّ الكلاسيكيّين، قد أدّت إلى ظهور رؤية عالية للكائن البشريّ وأصله ومصيره النّهائي وأسلوبه في العيش على هذه الأرض. وبالتّالي يبقى هذا الدّمج بين الحكمة القديمة والحكمة البيبليّة نموذجًا خصبًا على الدّوام.
ولكن مع ذلك على الأنسنة البيبليّة والكلاسيكيّة اليوم أن تنفتح بحكمة لكي تقبل، في مُلخّص خلّاق جديد، أيضًا إسهامات التّقليد الإنسانيّ المعاصر وتقاليد الثّقافات الأخرى. أفكر، على سبيل المثال، في الرؤية الشاملة للثقافات الآسيوية، من أجل البحث عن الانسجام الداخلي ومع الخليقة. أو في تضامن الثّقافات الأفريقيّة، للتّغلّب على الفرديّة المفرطة الّتي تميِّز الثّقافة الغربيّة. تعتبر مهمّة أيضًا أنثروبولوجيا شعوب أميركا اللّاتينيّة، مع الحسّ الحيّ للعائلة والعيد. وكذلك ثقافات الشّعوب الأصليّة في جميع أنحاء الأرض. نجد، في هذه الثّقافات المختلفة، أشكال أنسنة، إذا اندمجت في الأنسنة الأوروبيّة الّتي ورثناها من الحضارة اليونانيّة الرّومانيّة وحوّلتها الرّؤية المسيحيّة، يمكنها أن تصبح اليوم الأداة الأفضل لمواجهة الأسئلة المُقلقة حول مستقبل البشريّة. في الواقع، إذا لم يكتشف الكائن البشريّ مجدّدًا مكانه الحقيقيّ، فلن يفهم نفسه بشكل كافٍ وسينتهي به الأمر إلى مناقضة حقيقته.
أعزّائي الأعضاء والمستشارين، أعزّائي المشاركين جميعًا في الجمعيّة العامّة للمجلس البابويّ للثّقافة، أؤكّد لكم دعمي: اليوم أكثر من أيّ وقت مضى يحتاج العالم إلى أن يكتشف مجدّدًا معنى وقيمة الإنسانيّ فيما يتعلّق بالتّحدّيات الّتي يجب عليه مواجهتها. أبارككم من كلِّ قلبي وأسألكم أن تواصلوا الصّلاة من أجلي."