هذا ما حثّ عليه البابا البلديّات الإيطاليّة!
وللمناسبة وجّه كلمة لضيوفه جاء فيها بحسب "فاتيكان نيوز":
"يسعدني أن ألتقي بكم جميعًا، أنتم الّذين تمثّلون الجمعيّة الوطنيّة للبلديّات الإيطاليّة. يأتي لقاؤنا هذا في غمرة زمن الميلاد، ومع اختتام العام اليوبيليّ؛ ولا ريب أنّ نعمة هذه الأيّام تفيض بنورها على خدمتكم ومسؤوليّاتكم. إنّ تجسّد ابن الله يجعلنا نلتقي يطفلٍ يصطدم تواضعه الوديع بعنجهيّة الملك هيرودس. إنّ مذبحة الأبرياء الّتي أمر بها لا تمثّل مجرّد تبديدٍ لمستقبل المجتمع، بل هي تجلٍّ لسلطة مجرَّدة من الإنسانيّة، سلطةٍ لا تدرك جمال الحبّ لأنّها تجهل كرامة الحياة البشريّة.
لكنَّ ميلاد الرّبّ يكشف الجوهر الأصيل لكلّ سلطة، وهو أنّها في المقام الأوّل "مسؤوليّة وخدمة". ولكي تعكس أيّ سلطة هذه الخصائص، لا بدّ لها من أن تجسِّد فضائل التّواضع، والصّدق، والمشاركة. وفي غمرة التزامكم العامّ، تدركون تمامًا أهمّيّة الإصغاء كديناميكيّة اجتماعيّة تُفعّل هذه الفضائل. فالأمر يتعلّق بتركيز الاهتمام على احتياجات العائلات والأشخاص، مع إيلاء عناية خاصّة للفئات الأكثر هشاشة، من أجل خير الجميع.
إنّ أزمة التّناقص السّكّانيّ، ومعاناة العائلات والشّباب، وعزلة المسنّين، وصرخة الفقراء الصّامتة، وتلوّث البيئة، والصّراعات الاجتماعيّة؛ هي كلّها حقائق لا ينبغي أن تقفوا أمامها مكتوفي الأيدي. وبينما تسعون جاهدين لتقديم الحلول، أنتم تدركون يقينًا أنّ مدننا ليست مجرّد أماكن مجهولة الهويّة، بل هي وجوه وقصص يجب صونها ككنوز ثمينة. وفي خضمّ هذا العمل، يصقل المرء هويّته كعمدة يومًا بعد يوم، وينمو كمسؤول عادل ومحلّ ثقة. وفي هذا الصّدد، فليكن لكم في المكرّم جيورجيو لا بيرا أسوة حسنة؛ إذ قال في خطاب لمستشاري بلديّة فلورنسا: "لكم قبلي حقّ واحد: أن تحجبوا عنّي الثّقة! لكن ليس لكم الحقّ في أن تقولوا لي: "سيّدي العمدة، لا تهتمّ بالبشر الّذين بلا عمل (المسرّحين أو العاطلين عن العمل)، ولا بمن هم بلا مأوى (المطرودين من بيوتهم)، ولا بمن يفتقرون للرّعاية (المسنّين، المرضى، الأطفال)". إنّ هذا هو واجبي الأساسيّ. إذا كان هناك من يتألّم، فمن واجبي أن أتدخّل بكلّ الوسائل، وبكلّ التّدابير الّتي يوحي بها الحبّ ويمنحها القانون، لكي يخفّ ذلك الألم أو يهدأ. لا توجد قاعدة سلوك أخرى لأيّ عمدة عمومًا، وللعمدة المسيحيّ خصوصًا".
إنّ التّماسك الاجتماعيّ والوئام المدنيّ يتطلّبان أوّلًا الإصغاء للصّغار والفقراء؛ فبدون هذا الالتزام "تضمر الدّيمقراطيّة، وتصبح مجرّد مسمّى شكليّ، وتفقد تمثيليّتها، وتتجرّد من واقعها لأنّها تترك الشّعب خارج صراعه اليوميّ من أجل الكرامة وفي بناء مصيره". لذا، وأمام الصّعوبات وفرص التّنمية على حدّ سواء، أحثّكم على أن تكونوا معلِّمين في التّفاني من أجل الخير العامّ، وتعزِّزوا تحالف اجتماعيّ من أجل الرّجاء. وفي ختام اليوبيل، يسعدني أن أشارككم هذا الموضوع الهامّ الّذي أشار إليه سلفي الحبيب، البابا فرنسيس، في مرسوم الدّعوة لليوبيل. فقد كتب أنّ الجميع "بحاجة إلى استعادة بهجة الحياة، لأنّ الكائن البشريّ، المخلوق على صورة الله ومثاله، لا يمكنه الاكتفاء بمجرّد البقاء أو العيش الهامشيّ، أو التّأقلم مع الحاضر بالرّضا بالحقائق المادّيّة فحسب. فهذا يحبس المرء في الفرديّة ويؤدّي إلى تآكل الرّجاء، ويولِّد حزنًا يترسّخ في القلب، ويجعله حادّ الطّباع وغير صبور.
إنَّ مدننا للأسف تعرف أشكالًا من التّهميش والعنف والوحدة تتطلّب مواجهتها. وأودّ أن ألفت الانتباه بشكل خاصّ إلى آفة "القمار"، الّتي تدمّر عائلات كثيرة. إذ تشير الإحصائيّات في إيطاليا إلى زيادة كبيرة في هذه الظّاهرة خلال السّنوات الأخيرة. وكما أكّدت منظّمة كاريتاس إيطاليا في تقريرها الأخير، فإنّها تمثّل مشكلة تربويّة وصحّيّة واجتماعيّة خطيرة. كما لا يمكننا نسيان أشكال العزلة الأخرى الّتي يعاني منها الكثيرون: الاضطرابات النّفسيّة، والاكتئاب، والفقر الثّقافيّ والرّوحيّ، والإهمال الاجتماعيّ. إنّها إشارات تدلّ على مدى حاجتنا الماسّة للرّجاء. ولكي نشهد لهذا الرّجاء بفعاليّة، تُدعى السّياسة لنسج علاقات إنسانيّة أصيلة بين المواطنين، بما يعزّز السّلم الاجتماعيّ. لقد كتب الأب بريمو ماتسولاري، الكاهن المُتنبِّه لحياة شعبه: "إنّ البلاد لا تحتاج فقط إلى شبكات صرف صحّيّ، وبيوت، وطرق، وقنوات مياه، وأرصفة. ولكن البلاد تحتاج أيضًا إلى طريقة في الشّعور، وفي العيش، وطريقة في النّظر إلى الآخر، وفي التّآخي". وهكذا تجد الإدارة غايتها القصوى، لأنّها تنمّي مواهب الأشخاص وتمنح المدن عمقًا ثقافيًّا وروحيًّا.
أيّها الأعزّاء، تحلّوا بالشّجاعة لكي تقدِّموا الرّجاء للنّاس، عبر التّخطيط معًا لمستقبل أفضل لأراضيكم، وفق منطق النّهوض الإنسانيّ المتكامل. وإذ أشكركم على استعدادكم لخدمة المجتمع، أرافقكم بصلواتي، لكي تتمكّنوا بعون الله من مواجهة مسؤوليّاتكم بفعاليّة، متقاسمين هذا الالتزام مع معاونيكم ومواطنيكم. لكم ولعائلاتكم أمنح بركتي الرّسوليّة من كلّ قلبي، وأتقدّم منكم بأطيب التّمنّيات بالعام الجديد."
