البابا فرنسيس في لقاء السّلام: السّبب الجذريّ لأمراضنا الشّخصيّة والاجتماعيّة والدّوليّة والبيئيّة هو غياب المحبّة
"إنّها لعطيّة أن نصلّي معًا. أشكركم جميعًا وأحيّيكم بمحبّة ولاسيّما صاحب القداسة البطريرك المسكونيّ أخي برتلماوس، والمطران هاينريخ العزيز رئيس مجلس الكنيسة الإنجيليّة في ألمانيا.
إنّ نصّ آلام المسيح الّذي أصغينا إليه يتمّ قبل موت يسوع ويتحدّث عن التّجربة الّتي يتعرّض لها، هو المنهك على الصّليب. وفيما يعيش اللّحظة الأسمى للألم والحبّ، كثيرون وبدون شفقة ينهالون عليه قائلين "خلّص نفسك!" إنّها تجربة أساسيّة تهدّدنا جميعًا ونحن المسيحيّين أيضًا: إنّها تجربة التّفكير فقط في خلاص نفوسنا أو مجموعتنا، وأن تكون في محور تفكيرنا فقط مشاكلنا ومصالحنا الشّخصيّة، فيما أنّ كلُّ ما تبقّى لا يهمّ. إنّها غريزة بشريّة ولكنّها شرّيرة وهي التّحدّي الأخير للإله المصلوب. خلّص نفسك. يقولها له المارّة أوّلاً. لقد كانوا أناسًا عاديّين، سمعوا يسوع يتكلّم ويصنع الآيات وهم الآن يقولون له: "خلّص نفسك وانزل عن الصّليب". لم يكن لديهم شفقة وإنّما رغبة في المعجزات وفي رؤيته ينزل عن الصّليب. ربّما نحن أيضًا نفضّل أحيانًا إلهًا استعراضيًّا بدلاً من إله شفوق، إله قويّ في عيون العالم يفرض نفسه بالقوّة وينتصر على الّذي يريد أن يؤذينا. لكن هذا ليس الله بل هو الأنا خاصّتنا. كم من مرّة نريد إلهًا بحسب معاييرنا؛ إله مثلنا، بدلاً من أن نصبح نحن بحسب مقاييس الله وبدلاً من أن نصبح نحن مثله! لكنّنا هكذا نفضّل عبادة الأنا على عبادة الله. إنّها عبادة تنمو وتتغذّى باللّامبالاة تجاه الآخرين. في الواقع كان يسوع مهمًّا بالنّسبة لهؤلاء المارّة لإشباع رغباتهم فقط. ولكن وإذ تحوّل إلى مجرّد إنسان مهمّش على الصّليب لم يعد يهمّهم أبدًا. لقد كان أمام أعينهم ولكنّه كان بعيدًا عن قلوبهم. لقد كانت اللّامبالاة تبعدهم عن وجه الله الحقيقيّ.
خلّص نفسك. ثانيًا، يتقدّم رؤساء الكهنة والكتبة. كانوا هم الّذين أدانوا يسوع لأنّه كان يشكّل خطرًا عليهم. لكنّنا جميعًا متخصّصون في وضع الآخرين على الصّليب من أجل تخليص أنفسنا. أمّا يسوع فيسمح بأن يُسمَّر على الصّليب لكي يعلِّمنا ألّا نُفرغَ الشّرّ على الآخرين. وهؤلاء القادة الدّينيّون يتّهمونه تحديدًا بسبب آخرين: "خَلَّصَ غيرَهُ مِنَ النَّاس، ولا يَقدِرُ أَن يُخَلِّصَ نَفْسَه!" (الآية 31). لقد كانوا يعرفون يسوع ويتذكّرون عمليّات الشّفاء والتّحرير الّتي قام بها وقاموا برابط خبيث: ولمّحوا أنّ تخليص ومساعدة الآخرين لا تحمل أيّ خير؛ هو الّذي بذل نفسه في سبيل الآخرين، يخسر نفسه الآن! اتّهام إنّما هو استهزاء ويختبئ خلف مصطلحات دينيّة، مستخدمًا الفعل "خلّص" مرّتين. لكن "إنجيل" الـ"خلّص نفسك" ليس إنجيل الخلاص. إنّه الإنجيل المنحول الأكثر زورًا، والّذي يضع الصّلبان على عاتق الآخرين. أمّا الإنجيل الحقيقيّ فيأخذ على عاتقه صلبان الآخرين.
خلّص نفسك. ختامًا حتّى اللّذان صُلبا مع يسوع انضمّا إلى مناخ التّحدّي ضده. ما أسهل الانتقاد والتّحدّث ضدّ الآخرين ورؤية الشّرّ فيهم وليس فينا، وصولاً إلى إلقاء اللّوم على الأضعف والأكثر تهميشًا! لكن لماذا غضب هذان المصلوبان على يسوع؟ لأنّه لم ينزلهما عن الصّليب، وقالا له: "خلّص نفسك وخلّصنا!". كانا يبحثان عن يسوع فقط لحلّ مشاكلهما. لكن الله لا يأتي كثيرًا ليحرّرنا من المشاكل الّتي تتكرّر دائمًا، وإنّما لكي يخلصنا من المشكلة الحقيقيّة، وهي غياب المحبّة. هذا هو السّبب الجذريّ لأمراضنا الشّخصيّة والاجتماعيّة والدّوليّة والبيئيّة. إنّ التّفكير في أنفسنا فقط هو أبو كلّ الشرور. لكنَّ أحد اللّصّين لاحظ يسوع ورأى فيه المحبّة الوديعة. ونال الفردوس بفعله شيئًا واحدًا: بتحويل الانتباه من نفسه إلى يسوع، ومن نفسه إلى الّذي كان إلى جانبه.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، على الجلجلة، حدثت المبارزة الكبرى بين الله الّذي جاء ليخلّصنا والإنسان الّذي يريد أن يخلّص نفسه؛ بين الإيمان بالله وعبادة الذّات؛ بين الإنسان الّذي يتّهم والله الّذي يعذر. وجاء انتصار الله، فنزلت رحمته على العالم، وتدفّق الغفران من الصّليب، وولدت الأخوّة من جديد: "الصّليب يجعلنا إخوة" (بندكتس السّادس عشر، كلمته في ختام رتبة درب الصّليب، 21 آذار 2008). إنَّ ذراعي يسوع، المفتوحتين على الصّليب تشيران إلى نقطة تحوّل، لأنّ الله لا يوجّه أصابع الاتّهام ضدَّ أحد، بل يعانق الجميع. لأنّ الحبّ وحده يطفئ الكراهيّة، ووحده الحبّ ينتصر على الظّلم حتّى النّهاية. وحده الحبّ يفسح المجال للآخر. وحده الحبّ هو السّبيل إلى الشّركة الكاملة بيننا.
لنطلب من الله المصلوب نعمة أن نكون أكثر اتّحادًا وأخوّة. وعندما نتعرّض لتجربة اتّباع منطق العالم، لنتذكّر كلام يسوع: "الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها". إنّ ما هو خسارة في نظر الإنسان هو خلاص بالنّسبة لنا. فلنتعلّم من الرّبّ الّذي خلّصنا إذ أخلى ذاته، وصار مختلفًا: من إلهٍ صار إنسانًا، ومن روحٍ صار جسدًا، ومن ملكٍ صار خادمًا. وهو يدعونا نحن أيضًا لأن "نصير مختلفين"، ونذهب نحو الآخرين. كلّما تعلّقنا بالرّبّ يسوع، كلّما أصبحنا أكثر انفتاحًا و"عالميّين"، لأنّنا سوف نشعر بالمسؤوليّة تجاه الآخرين. ويصبح الآخر السّبيل لخلاص نفوسنا: كلّ شخص آخر، كلّ كائن بشريّ، مهما كان تاريخه ومعتقداته، بدءًا من الفقراء، الأكثر تشبّهًا بيسوع. كتب رئيس أساقفة القسطنطينيّة العظيم، القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، أنّه "لو لم يكن هناك فقراء، لهُدم جزء كبير من خلاصنا" (حول الرّسالة الثّانية إلى أهل كورنتوس). ليساعدنا الرّبّ على السّير معًا على درب الأخوّة، لكي نكون شهودًا صادقين للإله الحقيقيّ."