الفاتيكان
01 نيسان 2021, 11:50

البابا فرنسيس في خميس الأسرار: إنّ ساعة الإعلان الفرح وساعة الاضطهاد والصّليب تسيران معًا

تيلي لوميار/ نورسات
بارك البابا فرنسيس صباحًا الزّيوت المقدّسة، في بازيليك القديس بطرس، محتفلاً بخميس الأسرار، بمشاركة لفيف من الإكليريكيّين والكهنة والأساقفة والكرادلة، ألقى خلالها عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"يقدّم لنا الإنجيل اليوم التّغيير الّذي يحدث في مشاعر النّاس الّذين يصغون إلى الرّبّ. تغيير مأساوي ويُظهِر لنا مدى ارتباط إعلان الإنجيل بالاضطهاد والصّليب. فالإعجاب الّذي أثارته كلمات النّعمة الّتي كانت تخرج من فم يسوع لم يَدُمْ طويلاً في أذهان أهل النّاصرة. وجملة صغيرة تمتمها أحدهم بصوت خافت انتشرت مثل الفيروس: "أَما هذا ابنُ يوسُف؟". إنّها إحدى العبارات المُبهَمة الّتي تُقال بطريقة عابرة. قد يستخدمها أحدهم ليعبّر بفرح عن دهشته: "ما أجمل أن يتكلّم شخص من أصل متواضع بهذا السّلطان". وقد يستخدمها شخص آخر ليقول بازدراء: "وهذا من أين أتى؟ من يظنّ نفسه؟". إذا نظرنا عن كثب، فهذه العبارة قد تكرّرت عندما بدأ الرّسل يوم العنصرة، بالكرازة بالإنجيل وقد ملأهم الرّوح القدس. فقال أحدهم: "أليسَ هؤُلاءِ المُتَكَلِّمونَ جليليِّينَ بِأَجمَعِهم؟". وفيما قَبِلَ البعضُ كلمةَ الله، اعتبَرَهم آخرون سكارى. خارجيًّا، قد يبدو أنّه لا يزال هناك خيار مفتوح، ولكن إذا نظرنا إلى النّتائج، في هذا السّياق المحدّد، فإنَّ هذه الكلمات تحتوي على بذرة عنفٍ أطلقَ عنانَه ضدّ يسوع. إنّها "عبارة تحفيزيّة"، كمن يقول: "هذا كثير!" ويهاجم الآخر أو يذهب.

إنَّ الرّبّ، الّذي كان يصمت أحيانًا أو يذهب إلى الضّفّة الأخرى من البحيرة، لم يتوانَ عن التّعليق هذه المرّة، بل كشف المنطق الشّرّير الّذي كان يختبئ تحت شكل ثرثرةِ بلدةٍ بسيطة. "لا شكَّ أَنَّكم تَقولونَ لي هذا المَثَل: يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ. فاصنَعْ ههُنا في وَطَنِكَ كُلَّ شَيءٍ سَمِعْنا أَنَّه جَرى في كَفَرناحوم". "اشفِ نَفسَكَ…". "ليخلّص نفسه". هنا يكمن السّمّ! وهذه العبارةُ عينها سوف تتبعُ الرّبَّ حتّى الصليب: "خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه"، وأضاف أحد اللّصّين اللّذين صلبا معه: "خَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا". إنَّ الرّبّ كالعادة لم يتحاور الرّبّ مع الرّوح الشّرّير، بل أجاب مستعينًا بالكتاب المقدّس. حتّى النّبيّين إيليّا وإليشاع، لم يُقبلا من قبل أهل وطنهم وإنّما من قبل أرملة فينيقيّة ورجل سوريّ أبرص: أيّ شخصان غريبان وينتميان إلى شعبين من ديانة أخرى. إنَّ الوقائع واضحة وتثير النّتيجة الّتي تنبّأ بها سمعان، ذلك الشّيخ المواهبيّ: أنّ يسوع سوف يكون "آيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض".

إنّ كلمة يسوع تمتلك القدرة على أن تُظهر كلّ ما في قلب الإنسان، والّذي يكون عادة مزيجًا من الحنطة والزّؤان. وهذا الأمر يسبّب الكفاح الرّوحيّ. وبالتّالي إذ نرى أعمال الرّحمة الفائضة الّتي يصنعها الرّبّ ونسمع ما يعلنه من تطويبات ومن "الويل لكم"! في الإنجيل نجد أنفسنا مُجبرين على أن نميّز ونختار. لم تُقبَل كلمتُه يومَ ذاك وهذا الأمرُ جعل الحشدَ الغاضب يحاول قتله. لكن الإنجيل يقول لنا إنّ "ساعته" لم تكن قد حانَت بعد، فمرّ الرّبّ "مِن بَينِهم ومَضى". لم تكن ساعته قد أتت بعد، ولكن السّرعة الّتي ثار بها ثائرهم وضراوة الشّراسة القادرة على قتل الرّبّ في تلك اللّحظة بالذّات، تُبَيِّنُ لنا أنّ ساعته تأتي على الدّوام. وهذا ما أريد أن أشارككم فيه اليوم، أيّها الكهنة الأعزّاء: إنّ ساعة الإعلان الفرح وساعة الاضطهاد والصّليب تسيران معًا.

إنّ إعلان الإنجيل يرتبط على الدّوام بمعانقة صليب ملموس. لأنّ نورُ الكلمة الوديع يولِّد نورًا في القلوب المستعدّة ولكنه يخلق ارتباكًا ورفضًا في القلوب غير المستعدّة. وهذا الأمر نراه باستمرار في الإنجيل. إنّ البذرة الجيّدة الّتي تُزرع في الحقل تؤتي ثمارها- مائة وستّون وثلاثون- لكنّها أيضًا تثير حسدَ العدوّ الّذي يزرع الزّؤان ليلاً. وحنانُ الأب الرّحيم يجذب الابنَ الضّالّ لكي يعود على البيت دون مقاومة، لكنّه يثير أيضًا سخطَ الإبن الأكبر واستياءه. إنّ سخاء صاحب الكَرم هو دافع امتنان لعمّال السّاعة الأخيرة، ولكنّه أيضًا سبّب التّعليقات السّيّئة لعمّال السّاعة الأولى، الّذين شعروا بالاستياء لأنّ صاحب العمل صالح. إنّ قرب يسوع الّذي يأكل مع الخطأة يربح قلوبًا مثل قلب زكّا ومتّى والمرأة السّامريّة... ولكنّه يوقظ أيضًا مشاعر الاحتقار لدى الّذين يظنّون أنفسهم أبرارًا. وشهامة الملك الّذي أرسل ابنه ظنًّا منه أنّ الكرّامين سيحترمونه، خلقَت فيهم مع ذلك ضراوةً تفوق كلّ المقاييس: نجد أنفسنا أمام سرّ الإثم الّذي يدفع إلى قتل البار. جميع هذه الأمور تُبيّن لنا أنّ إعلان البشارة يرتبط بشكل سرّيّ بالاضطهادَ والصّليب.

عبّر القدّيس إغناطيوس دي لويولا عن هذه الحقيقة الإنجيليّة، متأمّلاً في ميلاد الرّبّ، عندما جعلنا نتأمّل وننظر في ما فعله القدّيس يوسف ومريم العذراء: "حين سارا، على سبيل المثال، وعَمِلا جاهدَين، لكي يولد الرّبّ في فقر مدقع، ويموت صلبًا بعد أن عانى الجوع والعطش، والحرارة والبرد، والإهانات والشّتائم. وهذا كلّه من أجلي. ثمّ- يضيف القدّيس إغناطيوس- متأمّلاً، الحصول على بعض الفوائد الرّوحيّة". أيّ تأمّل يمكننا أن نقوم به لكي "نستفيد" من حياتنا الكهنوتيّة إذ نتمعّن في هذا الحضور المُبكِر للصّليب- سوء الفهم، والرّفض، والاضطهاد- في بداية البشارة الإنجيليّة وفي قلبها؟

تتبادر إلى ذهني فكرتان: الفكرة الأولى: لا يُدهشنا أن نرى الصّليب حاضرًا في حياة الرّبّ في بداية خدمته وحتّى قبل ولادته. لقد كان حاضرًا في اضطراب مريم الأوّل إزاء إعلان الملاك؛ كان حاضرًا في أرق يوسف، عندما شعر بأنّه عليه أن يتخلّى عن خطّيبته؛ كان حاضرًا في اضطهاد هيرودس وفي المصاعب الّتي واجهتها العائلة المقدّسة، مثل الكثير من العائلات الّتي اضطرّت إلى هجر أوطانها. هذه الحقيقة تجعلنا ننفتح على سرّ الصّليب الّذي عاشه الرّبّ "مسبقًا". وتجعلنا نفهم أنّ الصّليب ليس حدثًا عرضيًّا، نتيجةَ ظروف في حياة الرّبّ. صحيح أنّ جميع الّذين اعتمدوا عقوبة الصّلب في التّاريخ جعلوا الصّليب يبدو كما ولو أنّه ضررًا جانبيًّا، لكن الأمر ليس كذلك: إنَّ الصّليب لا يعتمد على الظّروف.

لماذا عانق الرّبُّ الصّليبَ بكامله؟ لماذا احتضن يسوعُ كلَّ الآلام: لقد احتضن خيانةَ أصدقائه وتخلّي أصدقائه عنه بعد العشاء الأخير، وقَبِل الاحتجاز غير القانونيّ والمحاكمة الفوريّة والعقوبة القصوى والشّرّ غير المبرَّر للصّفع والبصق...؟ لو أنّ الظّروف هي الّتي حدّدت قوّة الصّليب الخلاصيّة، لما عانق الرّبّ كلّ شيء. ولكن عندما أتت ساعته، عانق الصّليب بكامله. لأنّه ليس هناك أيّ التباس في الصّليب! ولا يمكننا أن نفاوض على الصّليب.

أمّا الفكرة الثّانية فهي التّالية؛ صحيح أنّ الصّليب، نوعًا ما، هو جزء لا يتجزّأ من حالتنا البشريّة، من حدودها وهشاشتها. ولكن صحيحٌ أيضًا أنّ هناك شيء ممّا يحدث على الصّليب، ليس متأصِّلاً في هشاشتنا، بل هو لدغة الحيّة الّتي وإذ رأت المصلوبَ أعزلاً، فعضّته وحاولت أن تسمّم كلّ عمله وتُفقِدُهُ مصداقيّته. لدغة تسعى إلى تحويل كلّ خدمةٍ أو عملِ محبّة تجاه الآخرين إلى عثرة وأن تشلّه وتجعله عقيمًا وغير مهمّ. إنّه سمّ الشّرّير الّذي يصرّ على الـ"خلّص نفسك". وفي هذه العضّة القاسية والمؤلِمَة، الّتي تَهدِف للقتل، يَظهَر أخيرًا انتصارُ الله. وقد أظهر لنا القدّيسُ مكسيموس المُعَترِف أنّ الأشياء قد انقلبت مع يسوع المصلوب: بلدغه لجسد الرّبّ لم يسمّمه الشّيطان– لأنّه لم يجد فيه سوى وداعةً لامتناهية وطاعة لمشيئة الآب- ولكن على العكس، فقد ابتلعَ الشّيطان خطافَ الصّليب مع جسد الرّبّ فأصبح له سمًّا، أمّا لنا فأصبح التّرياق الّذي يُبطل قوّة الشّرّير.

هاتان هما الفكرتان. لنطلب من الرّبّ نعمة الاستفادة من هذين التّعليمين: الصّليب موجودٌ في إعلان الإنجيل، هذا صحيح، لكنّه صليبٌ يخلّص. وإذ حوّل دمُ يسوع الصّليبَ إلى سلام، اتّسم الصّليب بقوّة انتصار المسيح الّذي يغلب الشّرّ ويحرّرنا من الشّرير. وبالتّالي إذا عانقناه مع يسوع ومثله، قبل الانطلاق للبشارة، فسيسمح لنا هذا الأمر بأن نميّز ونرفض سمّ العثرة الّذي يريد به الشّيطان أن يسمّمنا عندما يأتي الصّليب في حياتنا بشكل غير متوقّع. "لَسْنا أَبناءَ الاِرتِدادِ": هذه هي النّصيحة الّتي يقدّمها لنا كاتب الرّسالة إلى العبرانيّين. نحن لا نضطرب، لأنّ يسوع لم يضطرب عندما رأى أنّ بشارته بالخلاص للفقراء لم يتردّد صداها بشكل نقيّ، بل تمّت وسط صياح وتهديدات الّذين لم يرغبوا في سماع كلامه. نحن لا نضطرب، لأنّ يسوع لم يضطرب عندما وُجب عليه أن يشفي المرضى ويحرّر الأسرى في خضمّ المناقشات والخلافات الخلقيّة والقانونيّة والكهنوتيّة الّتي كانت تنشأ في كلّ مرّة كان يقوم فيها بعمل صالح.

نحن لا نضطرب، لأنّ يسوع لم يضطرب عندما وُجب عليه أن يعيد البصر للمكفوفين وسط الّذين أغلقوا أعينهم لكي لا يروا أو حوّلوا نظرهم إلى الاتّجاه الآخر. نحن لا نضطرب، لأنّ يسوع لم يضطرب عندما سبّب إعلانه عن سَنَة رِضًا لدى الرَّبّ- سنة هي التّاريخ كلّه- عثرة لدى الجميع في ما قد يحتلّ اليوم أقلّ من الصّفحة الثّالثة من صحيفة مقاطعة ما. ونحن لا نضطرب، لأنّ البشارة بالإنجيل لا تنال فعاليّتها من كلامنا البليغ، وإنّما من قوّة الصّليب. وبالتّالي هناك أمران يتّضحان من الطّريقة الّتي نعانق بها الصّليب عندما نبشّر بالإنجيل- بالأعمال، وإذا لزم الأمر بالكلام أيضًا- وهما: أنّ الآلام الّتي تأتي من الإنجيل ليست لنا وإنّما هي فيضُ "آلام المسيح علينا"، وأنّنا "لَسْنا نَدْعو إِلى أَنْفُسِنا، بل إِلى يسوعَ المسيحِ الرَّبّ". وما نَحنُ "إِلّاَ خَدَمٌ مِن أَجْلِ يسوع".

أرغب في أن أُنهي بإحدى ذكرياتي. ذات مرّة، في لحظة مظلمة جدًّا من حياتي، طلبت من الرّبّ نعمةً ليخلّصني من موقف شاقّ وصعب. ذهبت لأدير الرّياضة الرّوحيّة لبعض الرّاهبات، وفي اليوم الأخير، كما جرت العادة في ذلك الوقت، أتت الرّاهبات للاعتراف. جاءت راهبة كبيرة في السّنّ، عيونها صافية، ومضيئة، لقد كانت امرأة الله وبالتّالي شعرتُ بالرّغبة في أن أطلب منها خدمةً لي فقلت: "يا أختي، كفّارة عن خطاياك صلّي من أجلي، لأنّي بحاجة إلى نعمة. وإن طلبتها لي من الرّبّ، فسوف يعطيني إيّاها بالتّأكيد". فتوقّفت للحظة طويلة، كما لو أنّها كانت تصلّي، ثمّ قالت لي: "إنّ الرّبّ سوف يمنحك هذه النّعمة، ولكن كُن على ثقة أنّه سيمنحك إيّاها على طريقته الإلهيّة". لقد ساعدني هذا الأمر كثيرًا: الشّعور بأنّ الرّبّ يمنحنا على الدّوام ما نطلبه ولكنّه يفعل ذلك بطريقته الإلهيّة. وهذه الطّريقة تتضمّن الصّليب. ليس من منطلق مازوخيّ، وإنّما من منطلق المحبّة، المحبّة حتّى أقصى الحدود."